حسن الطشم
أثارت محاكمة روجيه غارودي سجالات كثيرة تأتي معظمها من ثلاثة مواقف:
موقف اعتبر المحاكمة حدثاً فرنسياً خالصاص محكوماً بالقانون الفرنسي وموقف ينظر إلى القضية بوصفها قضيّة إنسانية لأنّها تدخل في نطاق حرية التعبير بشكل أو بآخر وموقف ثالث يعتبر أنّ هذه القضيّة قضيّة سياسية لأنّها تدخل في نطاق الصراع الإسرائيلي.
وللباحثين الذين يشتغلون في حقول التاريخ مذهبهم في اعتبار القضية قضية بحث تاريخي كبقية الأبحاث التاريخية العلمية.
* المحاكمة:
قبل أن نبدأ بقراءة الأبعاد السياسية والفكرية لمحاكمة المفكر الفرنسي المسلم روجيه غارودي، لا بدّ من الوقوف على الأساس القانوني الذي يرتكز عليه القضاء الفرنسي في محاكمة غارودي.
الواقع أنّ ثمّة قانوناً فرنسياً صدر عام 1990 وهو معروف بقانون "فابيوس وغيسون" يحظر نشر أبحاث منافية "للمحرقة" وعلى قاعدة هذا القانون تمّت محاكمة روجيه غارودي.
هذا ما يقال في وسائل الإعلام وما يتمّ التداول به الآن، أمّا الحقيقة فإنّ القانون الفرنسي يحظّر التعرّض لقضايا اليهود ولوقائع الحر العالمية الثانية الخاصّة باليهود قبل قانون "فابيوس" ويعتبر كل مقاربة لهذه الوقائع – إذا كانت مختلفة عن الصورة الثابتة في أذهان الناس – جرماً يعاقب عليه قانون اللاسامية في فرنسا.
* عقدة الذنب:
هذا الحظر الثابت في أذهان الفرنسيين مصدره عقدة الذنب التي عملت الدعاية اليهودية على ترسيخها عند الأوروبيين بواسطة السينما والمسرح والكتب والآداب والصحف، ولذلك فإنّ الأوروبيين مستعدون للتعامل مع هذه الإساءة بكلّ قوة وعنف وذلك بسبب عقدة الذنب الأوروبية تجاه اليهود وعقدة الذنب هذه مردّها إلى أن الشعب الفرنسي بأكثرية 70 في المئة منه خلال الحرب كان ضدّ اليهود وكذلك الشعبين الألماني والإيطالي.
لذلك فإنّ غارودي يواجه اقتناعات عامّة مكرّسة في الوجدان الأوروبي أكثر ممّا يتحدّى قانوناً فرنسياً.
* الحركة الصهيونية:
وهنا نجد أنفسنا أزاء السؤال الآتي:
هل القضية هي قضية عقدة ذنب فقط؟
لا شكّ أنّ المسألة مسألة يهود العالم والحركة الصهيونية عامة، لأنّ غارودي مفكّر مسلم كتب في الموضوع الفلسطيني كتابين، الأول عن قضية فلسطين، والثاني ينتقد الاستخدام الذرائعي الإسرائيلي للمحرقة، لذلك فالموقف اليهودي لا يمكن أن يكون موقفاً أكاديمياً أو تاريخياً، ودليلنا على ذلك أن روجيه غارودي لم يخترع شيئاً جديداً فهو اعتمد إلى حدٍ كبير على وثائق ألمانية – فرنسية تقلّل من حجم المحرقة وتثبت تعاون جناح صهيوني مع هتلر، وفضح النفاق والكذب الإعلامي اليهودي الذي حصل خلال الحرب وبعدها، وقال أنّ الصهاينة في ألمانيا مثلاً كانوا مع هتلر وتناغموا مع النازية وأثبت بالوقائع أنّ هتلر كان مسروراً بهوية اليهود وكان يحضر لهم للخروج جماعياً من ألمانيا ثمّ من أوروبا كلها وأنّه لم يكن منزعجاً من العنصرية اليهودية لأنّ العنصرية اليهودية والعنصرية النازية صنوان.
لكنّ هذا ليس الجديد الذي يخافه الصهاينة بقدر خوفهم من تبيان حجم المجاز اليهودية في أوروبا على حقيقتها، ذلك أنّ هناك أكثر من 13 غلى 14 مليون يهودي بين أمريكا وأوروبا ولا أحد منهم يريد المجيء إلى الأرض المحتلّة إذا أثبت غارودي أنّ اليهود كانوا هم أنفسهم في بعض الأحيان يرتكبون مجازر بحقّ اليهود من أجل دفعهم قسراً للمجيء إلى الأرض المحتلة في فلسطين.
أهمية غارودي أنّه نسف كلّ ما أنجزه الفكر اليهودي بعد هذه السنوات الخمسين من تنمية عقدة الذنب عند الشعوب الأوروبية وخاصّة الشعب الفرنسي، لدرجة أنّهم انتزعوا قانوناً يمنع البحث في تاريخية المحرقة، وهذا ليس أمراً سهلاً، فثمّة شعوب تعرّضت لإبادة منهجية حقيقية كالشعب الأرمني ولم يتم تشهيرها في سياق مشروع استعماري بهذه الشراسة.
* الرد:
ومن هنا فإنّ علينا نحن المسلمين العمل على التأسيس لمشروعنا المقاوم لإسرائيل على الشعور بأنّ هذا الأمر لا يجوز أن يتكرّر بعد الآن ولا يجوز بأي حال من الأحوال تحويل ضحايا المحرقة الوهمية إلى جلادي شعب آخر وعلى وسائلنا الإعلامية أن تضع قضيتنا مباشرة في موقع إنساني موصول بالبشر وبالإنسانية وبالمزاج العام السائد عبر التأييد والدعم المعنوي لغارودي في قضيته الحقوقية مع القانون الفرنسي، وتبيان موقف غاروني الحقيقي الذي لم ينمّ على تحدّي الوجدان الأوروبي بل كان ينتصر للديمقراطية الفرنسية عندما وضع القانون الفرنسي موضع التساؤل، وهذا الأمر مرتبط بمسألة علاقة الدولة بالمجتمع وعلاقة المجتمع بالدولة وموقع الباحث في هذه العلاقة الجدلية بين الدولة والمجتمع.