صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

ضرورة وجود مجلس ومرجع للتقنين في النظام الإسلامي‏


الأستاذ محمد تقي مصباح اليزدي


بالنظر إلى هذه الفكرة الأساسية وهي أن الشخص الموحد يجب أن يكون موحداً في الربوبية التشريعية ولا يرى حق التشريع بالأصالة إلا لله تعالى ويطيعه في كل شي‏ء، فكيف تنسجم هذه الرؤية مع حاجة المجتمعات المختلفة ومن ضمن المسلمة - لجهاز التشريع؟ وما هو تفسير وجود البرلمان وجهاز التقنين في الحكومة الإسلامية التي تأسست على الإسلام والقرآن، وكيف يجتمع النواب وليضعوا القوانين، وقد ذكرنا أن حاجتنا إلى من يفسر قوانين الكتاب والسنة مباشرة أو عبر الأصول العامة الموجودة فيهما تعود إلى عدة جهات.

أما في مورد الاحتياج الأول (تفسير أحكام القرآن والسنة) فبدون هذين العلمين لن تؤمن حاجة المجتمع إلى القانون. قلنا أن جميع القوانين لن يمكننا أن نستنبطها بشكل قطعي ويقيني من الكتاب والسنة، وذلك لوجود مجموعة من الأحكام التي لا يمكن استنباطها بشكل قطعي من هذين المصدرين الأساسيين. وهنا يبرز اختلاف وجهات النظر عند الفقهاء. فما العمل في مثل هذه الموارد؟

فحيث تكون الأحكام ضرورية وقطعية لا تحتاج إلى التقليد، وذلك طبق فتاوى الفقهاء المشهورة. ولكن عندما تقع ظنيات الأحكام مورد الاختلاف يجب على غير المجتهد أن يقلد المجتهد، برجوع الجاهل إلى العالم.
وفي القضايا الفردية عندما يراجع الأفراد المجتهد الخبير لن تحدث أية مشكلة، وإن اختلف المجتهدون، واختلف تشخيص الأفراد للأعلم. فعلى كل حال، هناك عدة مجتهدين في الحوزات العلمية في مظانّ الأعلمية، والبعض يرى "أ"هو الأعلم، والبعض "ب" والبعض الآخر المجتهد "ج". ولو عملت كل مجموعة طبق تشخيصها فلن يحدث أية مشكلة في القضايا الفردية. مثلاً: إذا قرأ التسبيحات الأربع ثلاث مرات أم مرة واحدة. أو صلى قصراً في بعض الموارد أو تماماً.

أما في المسائل الاجتماعية. ففي موارد اختلاف الفتوى، لو أراد كل فرد أن يعمل طبق فتوى مجتهدة لاضطربت أمور المجتمع وتصادمت ببعضها. ففي باب القضاء مثلاً، إذا حكم أحد المجتهدين بتعلق الأموال الفلانية بشخص آخر، ما هو العمل؟ فالأول إذا أراد أن يعمل طبق فتوى مجتهده يجب أن يحصل على الأموال، والثاني يكون صاحب المال أيضاً طبق فتوى المجتهد الآخر، ما يؤدي إلى إيجاد التنازع والتخاصم. ومن هنا يلزم وجود مرجع واحد في المسائل الاجتماعية الذي يكون له حق تفسير القوانين الإسلامية الأصيلة (وهو ما يسمى بالفقاهة والاجتهاد والفتوى). فهذا الأمر ينبغي أن يعين ليعم كل الذين يعيشون في ذلك المجتمع، وهم يريدون اتباع تشريع الله في القضايا الاجتماعية، إنه لا بد من الرجوع إلى مرجع واحد في القوانين والأحكام التي تتمتع باليقين والقطع.
وهذا نوع من الاحتياج يمكن تسميته بوجه من الوجوه بالتقنين. لأن فتوى المجتهد في مثل هذه الموارد ليست إلا تفسير للآيات والروايات في موقع الاستدلال.

ولكن هذا الاحتياج إلى مفسر القانون أو المقنِّن لا ينحصر بهذا المورد. بل يوجد موارد أرخى تكون موضوعاتها جديدة ومستحدثة، أي "المسائل المستحدثة" التي لم تكن في السابق مورد الابتلاء بحيث نجد جواباً عليها من النبي أو الإمام. وهذا، لأن موضوعات الأحكام الاجتماعية في الغالب هي أحكام اعتبارية، وهذه الاعتبارات تكون قابلة للتغيير. كالضمان واليانصيب وقوانين البحار والفضاء و...
فمن الذي ينبغي أن يعين حكمها؟
فلا بد آخر الأمر من وجود مرجع يقوم بتفريع المسائل على أساس القواعد الكلية التي حصل عليها من الكتاب والسنة ويستنبط جزئياتها.

* وضع القوانين على أساس الأصول الثابتة
تعلمون أن وضع القوانين على أساس الأصول الثابتة اللامتغيرة. ولم يطرأ أي تغيير، وكل ما كان مورد الاحتياج قد بيّن بصورة القواعد الكلية ولكن هذا لا يعني أن لدينا لكل موضوع آية أو رواية تبين حكمه وبدقة.
ففي مثل هذه الموارد ينبغي أن يكون علماء الدين الذين لديهم خبرة في المسائل الفقهية ولهم ذائقة فقهية وتعمق في الآيات والروايات والأحكام بحيث تصبح لديهم سليقة الشرع الإسلامي التي وصلتهم على أساس القواعد العامة للكتاب والسنة. ومن هنا فإنهم يبينون للناس أحكام الموضوعات المستحدثة.
ويوجد موارد أخرى تحتاج إلى مرجع يصدر حكمه بدقة ويأمر وينهى وعلى الناس أن يعملوا بما يقول. ففي قوانين السير مثلاً لو كتب أحد الفقهاء في رسالته أن على جميع الناس أن يمتثلوا للقوانين الموضوعة لتنظيم السير، فإن على الجميع أن يطيعوه. وإلا وقع الهرج والمرج وحدثت المشكلات الكثيرة.

فالفقيه يعتمد على هذا الحكم الأصيل في الإسلام وهو "ضرورة حفظ أموال الناس ونفوسهم". وصحيح أن قوانين السير لم ترد في القرآن والسنة على هذا النحو الموجود حديثاً. ولكن أصل هذه القوانين موجودة في الإسلام. فالفقيه هو الذي يستفيد من هذا الحكم الكلي في حفظ أموال الناس ونفوسهم ويعين للناس المصلحة الموجودة فيه. كان هذا مثالاً بسيطاً حول العلامات الاجتماعية لبشر. ويوجد مئات الأمثلة الأخرى التي تحتاج إلى من يحدد لها حكمها لتحترم وتطبق من قبل الناس.

* موضوع وعنوان‏
هناك موارد أخرى أيضاً قد أشرنا إليها سابقاً. فقد كان لموضوع ما عدة عناوين مختلفة، ولكل منها حكم خاص. وأكثر الأحكام الاجتماعية ترتبط بالعناوين الاعتبارية كالمالكية والزوجية والرئاسية والإمارة و... وهذه العناوين الاعتبارية ليست أموراً عينية، بل هي قابلة للتغيير. وقد يتفق أن تجتمع عدة عناوين في مكان واحد. فقد يكون للحركة التي يريد الإنسان أن يؤديها عنواناً يكون حكمه الوجوب. ومن جانب آخر يكن لها عنوان آخر وحكمه الحرمة، كالمثال المعروف حول دخول الإنسان إما الأرض المغصوبة لإنقاذ غريق، أو هذا المثال: وقوع حادث سير وجرح امرأة، ولا يوجد امرأة أخرى لتنشلها من الطريق. فمن جانب لا يجوز لمس بدن الأجنبية، ومن جانب آخر يجب إنقاذ الإنسان المسلم. فما هو العمل في مثل هذه الحالات؟

القاعدة الكلية في هذا المجال هي أن ننظر إلى المصلحة الأهم، ولكن كيف يمكن تشخيصها؟ فأحياناً يكون الأهم معروفاً عند العقلاء ولا شك فيه، ولكن أحياناً أخرى لا يفهم جميع الناس أن هذا الحكم هو الأهم بنظر الإسلام أم ذاك؟ فهنا ينبغي الرجوع إلى مرجع، عالم بالدين وعارف بالمصالح والمفاسد ولديه ذوق شرعي وشامة فقهية حتى يستنبط من خلال البيانات الدينية المختلفة، وبمساعدة العقل أحياناً، الأهم من غيره. وكذلك فيما إذا حدث تزاحم بين القضايا حيث لا يقدر غير الخبراء المدققين أن يستنبطوا أحكامها.
فهنا يمكن ترتيب هذه العناوين وتشخيصها وكتابتها بشكل عام في الرسالة العملية.

* إعمال الولاية عامل لحفظ الوحدة
ولكن يوجد موارد أخرى لا تحل مشكلاتها، حتى ولو كتبت في الرسائل العملية وأعطيت للناس. فالبعض عند التشخيص سيدون رأياً مخالفاً للبعض الآخر. ببروز مثل هذه الاختلافات تتعرض الوحدة في المجتمع إلى الخطر. فهنا نحتاج إلى شي‏ء آخر غير الاجتهاد والفقاهة والإفتاء وهو "إعمال الولاية". حيث يحكم الفقيه ويأمر بتنفيذ العمل الفلاني. وإلا لوقع الاختلاف عندما يبدي الآخرون من الفقهاء رأيهم، أو يقوم الناس بتشخيص المورد بصور مختلفة.
لنفرض أن الدولة الإسلامية قد تعرضت لهجوم من جانبين. فمن الواضح هنا أن الدفاع واجب على الجميع. ولا يحتاج هنا إلى تقليد، لأنه مسألة ضرورية. ولكن في البداية من نحارب؟ وهل يكون عن طريق البر أم البحر أم الجو؟ وهل نستخدم قوات المشاة أو الأسلحة الخفيفة أم المتوسطة أم الصواريخ؟.

وكذلك بالنسبة لكيفية الحرب والتكتيك المتبع فيه واختيار المواقع المناسبة لشن الهجوم و... فكل هذه الأمور لا تقع مورد اتفاق الجميع. فلا بد إذاً، من تعيين مقام يصدر الأوامر بصورة قاطعة وملزمة وإن كان يخطى‏ء أحياناً.
فإن الخطأ في مثل هذه الموارد أفضل بكثير من التفرقة. فإذا أعدّت الخطة بدقة ونظمت الأمور جيداً ثم وقع الخطأ أفضل بكثير من عدم وجود خطة ونظام ومرجعية قيادية. فلا بد من وجود مقام بسمع الناس رأيه ويطيعونه، وإلا تعرضت مصالح المجتمع للزوال.

وأحياناً يكون الأمر متعلقاً بنهج دائم ولا تكون المسألة فوتية. لنفرض أننا نريد أن نضع برنامجاً للتنمية الاقتصادية، حيث أن التطور والازدهار لا يمكن أن يحصلا بدون خطة وبرنامج. وإذا لم يكن هناك من قانون واضح تقاس عليه الأمور وكل يريد أن يعمل وفق رأيه. فإن العقل والتجربة تفيدان أن مثل هذه الحالة لن تكون لصالح المجتمع، وسرعان ما ستقع الفوضى والأزمات الاقتصادية، وما تلبث التدخلات الخارجية التي تؤدي إلى إيجاد التبعية وخروج البلد من استقلاله وعزته. فلا بد إذاً من تعيين خطة ما (إما أن هذه الخطة ما هو مرادها فإنه يبحث في مكان آخر). فكل ما نريد أن نقوله هنا أن التخطيط الاقتصادي ضروري لإدارة المجتمع بشكل صحيح. فعلينا أن نعلم كم نحن بحاجة إلى محطة لتوليد الكهرباء في السنوات العشر المقبلة؟ وما هي حاجاتنا الزراعية؟ وما هي المحاصيل التي ينبغي أن تؤمن من الداخل؟ وما هي المحاصيل التي يمكن استيرادها من الخارج؟ وما هي الصناعات التي ينبغي تقويتها؟.
فهذه المسائل ينبغي أن تبحث ويتخذ القرار بشأنها، ولا يوجد هنا أمر يرتبط باليوم أو بالساعة. فلا بد من اجتماع الخبراء والمتخصصين في هذا المجال ليضعوا خطة مبنية على أساس القواعد والأصول الإسلامية. فهنا يجب على الفقيه أن يستشير المتخصصين ويراجعهم، لأنه مهما كان ملماً ومحيطاً بالمسائل العلمية فإنه لن يكون متخصصاً في الجميع.

وفي النظرية الإسلامية يكون مجلس الشورى أو مجلس التشريع عضد القائد وساعده. ففيه يجتمع المتخصصون في كل المجالات ويدرسون القضايا ويبدون آراءهم حولها، ويقدمون ما فيه مصلحة المجتمع للفقيه الذي يقوم بدراستها على ضوء القواعد الفقهية ويمضيها. هذه هي فلسفة وجود مجلس الشورى في النظام الإسلامي.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع