(نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون) [القصص/3].
(ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) [القصص/5ٍ].
(ولما بلغ أشدّه واستوى آتيناه حكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين) [القصص/14].
(فقال ربّ إنّ ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنّه هو الغفور الرحيم* قال ربّ بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين) [القصص/16-17].
(قال ربّ إنّ لما أنزلت إلي من خير فقير) [القصص/24].
حكاية النبي موسى عليه السلام قبل بعثته بالنبوة والرسالة.
ما كان الله تعالى ليختار نبياً، لا يكون أهلاً لحمل الرسالة وإلاّ من بعد أن يخلصه لنفسه.
ربما شابهت قصة النبي موسى (عليه السلام)، هذا النبي الغاضب لله وفي دينه، في بعض جوانبها قصة نبيه آدم (عليه السلام).
فقد مرّ هذا النبي المخلص لله سبحانه بابتلاءات وتجارب عديدة قبل استوائه وقبل أن يبلغ أشدّه وفي كلّ ذلك لم يفقد ثقته – والعياذ بالله – بربه ولم يترك التعلق به تعالى واللجوء إليه في كلّ أحواله.
فقد حفته الابتلاءات ما قبل ولادته وبعدها وصقلته التجارب حتّى آتاه الله تعالى الحكم والعلم جزاء لإحسانه. ومنّ عليه من بعد استضعافه بالنبوة والإمامة.
وقد كان متأدباً دائماً مع ربه. فعند نشوئه بمصر وكز ذلك القبطي فقتله، فمع أن قتله له كان قبل أن تنزل عليه الشريعة المقدّسة الناهية عن القتل، وكذلك كان قتله لكافر يعني قتل نفس غير محترمة، ولا دليل على وجود النهي عن مثل هذا القتل، مع ذلك كله تراه يتأدّب بالتوجّه إلى الله عزّ وعلا ويتعلّق بربوبيته ويصرح بدعائه وطلبه منه تعالى، وذلك لأنّه طلب المغفرة. والله سبحانه يحب أن يستغفره العبد فقال قال عزّ من قائل: (واستغفروا الله إنّ الله غفور رحيم) [البقرة/199].
لقد كانت معصيته عليه السلام كمعصية أبيه آدم في الجنة، قبل وجود التشريع. إذ التشريع كان بعد النزول من الجنّة إلى الأرض لذا، وفي كلا الحالين يسمى هذا النهي نهياً إرشاديا لا مولوياً – أي ترك الأولى..
وقد ظلم موسى عليه السلام نفسه عندما أوجدها في مكان الخطر وألقاها في التهلكة جرّاء ما سيلاقيه من شر فرعون وملئه، ومن الغم الذي وقع في نفسه فنادى ربه (قال ربّ إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنّه هو الغفور الرحيم).
أمّا التوجه الثاني، فهو إظهار الشكر لله تعالى على ما أعطاه من قوة البدن بأن لا يكون ظهيراً للمجرمين وذلك بعدم إعانة المجرم على إجرامه وكيف لا يكون كذلك وهو من الذين (أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين) الذين هم أصل الصراط المستقيم: (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين). وقد قال عنه تعالى إنّه من المخلصين الذين لا سبيل للشيطان إليهم فقال عزّ من قائل: (إنّه كان مخلصاً وكان رسولاً نبياً) [مريم/51] وقال على لسان إبليس (قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين* إلاّ عبادك منهم المخلصين) [ص/83] من هذا نعلم أنّ توجّهه هذا كان شكراً وامتناناً لله تعالى، كما قال النبي سليمان عليه السلام: (..وقال ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ..) [النمل/19].
ثمّ توجّه إلى الله تعالى بسؤال آخر. فهو مع عنده من قوة بدنية يعمل بها الصالحات من رضى الله تعالى، أظهر الفقر إلى شيء آخر، ألا وهو حوائج الحياة من غذاء ومسكن مما يستبقي هذه القوة الموهوبة له.
من يظهر هذا لنا شدة مراقبة موسى عليه السلام لله سبحانه في أعماله فلا يأتي بعمل ولا يريد شيئاً، حتّى لو كان مما في الطبع البشري، ومن حاجاته الفطرية، إلاّ ابتغاء مرضاة لله وجهاداً فيه. لذا نراه دائماً يردّد: (ربّ)، (ربّ إنّي ظلمت نفسي).. (رب بما أنعمت عليّ..)، (ربّ نجني..)، (عسى ربّ أن يهديني...) و (ربّ إنّي لما أنزلت إليّ...) مستغرقاً في المناداة مبتهلاً مناجياً بأدب النبوة البارع.
وفي هذا التوجه يراعي الأدب أكثر فأكثر، فهو لا يطلب حاجته، مع فقره إليها، بل ذكرها وسكت (قال ربّ إنّي لما أنزلت إليّ من خير فقير).
وأيضاً، نلاحظ هنا تكرار الفعل (قال) وفيه نكت:
الأولى: قضاء منه وحكم، إذ حكم أن القتل من عمل الشيطان، وقضى بذلك لذا كانت.
الثانية: رتب علمية (الغفل) الاستغفار والدعاء لإزالة تبعات العمل وأتبعهما.
الثالثة: بالتعهد والالتزام وذلك بالتعهد باستعمال نِعَم الله تعالى في طاعته لا في اتباع الشيطان والالتزام بذلك.
هكذا هو الإنسان المؤمن بالله تعالى المراقب لذاته المقدسة، لا يغفل ولا ينسى أنّ الله مراقب له في جميع حالاته في القوة والضعف، في الفقر والغنى في العلم والجهل وكلّ هذه الحالات منه وإليه. فإذا عمل سوءاً بجهالة فإنّ المبادرة إلى التوبة والعزم على ترك المعصية فالاستغفار والدعاء الملازم لهما. ثمّ التعهد والالتزام باستعمال نعم الله تعالى في طاعة كلّ ذلك يمثل شكراً لله جلّ وعلا على ما أنعم لا بدّ منه واستمداداً للعون والمدد الإلهي، فمنه نستمدّ العون والمدد وإليه ترجع الأمور. إن الحكم إلاّ لله توكلت وإليه أُنيب.