تعيش الأمة الإسلامية بشارة القائم المهدي الإمام الثاني عشر عجّل الله تعالى فرجه، شاخصةً أبصارها إليه لتحظى بالإرث الذي رسمه القرآن لها، فتعيش العدل والقسط والأمان والنعمة بعد أن غدت أرضاً خصبة للعاديات والأعاصير، فانتهت إلى جسدٍ خاوٍ أكل الظلم عليه وشرب.
فلم يبقَ لهذه الأمة سوى بصيص أمل زرعه فيها – واستمراراً لحركة الأنبياء والصالحين عليهم السلام – أولئك المؤمنون الرساليون والمنتظرون الواقعيون لتستعيد قواها وتفعّل قدراتها الكامنة تجاه مسؤوليتها القادمة وهي منتظرة، انطلاقاً من الحديث الشريف "أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج".
*فكيف نكون منتظرين؟
هناك أزمة فكرية ثقافية لدى الكثير حول فكرة الانتظار، إذ راح كلّ يفسر الفكرة هذه حسب ما يخال له أو ترومه نفسه أو لسوء فهم مقدماتٍ خاطئة، فأنتجت نتائج خاطئة.
ففي هذا المضمار توجد ثلاثة اتجاهات:
الاتجاه الأول: يرى إخضاع "عملية الدعاء المقدّسة" آلية عملية لتعجيل فرج الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، كالالتزام والإكثار من دعاء الندبة ودعاء الفرج ودعاء العهد وزيارة يوم الجمع الخ.. والاكتفاء بذلك فقط.
وهذه رؤية ناتجة عن نظرة سطحية وساذجة، فلا غبار بأنّ الدعاء ضروري بل وبمنتهى الضرورة وهو"مخ العبادة" وواسطة ربط الإنسان بالله سبحانه وتعالى، لكن أن يحوّل الدعاء إلى مادّة مخدّرة تجعل من الإنسان المؤمن المعبأ بالعطاء والتحرك والفاعلية جثةّ هامدة مشلولة الحركة ترى صبّ المآسي وأنواع الظلم عليها ولا تحرك ساكناً من أجل أن يأتي المنجّي والمخلّص لينقذها مما هي فيه! فهي رؤية أبعد ما تكون عن الواقع الفكري والعملي والديني.
تلك نفس خامدة غير عاملة نشأت على التوقعات والمصادفات وكأن بلغ من صاحبها أن يأتي إليه الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف طارقاً باب صومعته ويقول له: "جزاك الله خيراً، لقد انتظرتني طويلاً بدعائك ومسألتك، فتفضّل وهذه هي الدولة الإسلامية العظمى التي وعدت بها".
إنّه ليس ثمّة من أحد ينكر الدعاء وفضله وأثره، وربطه الإنسان بربه ونبيه وأئمته، لكن أيضاً أهل البيت لا يريدوننا أن نكون كلاً عليهم بل يريدون أناساً ناهضين فاعلين متحركين ينشرون علومهم وأفكارهم متحركين ينشرون علومهم وأفكارهم ومفاهيمهم لتتم حركة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحركة القائم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، ومن هنا أوجبوا علينا ولاية الفقهاء الجامعين للشرائط من بعدهم.
الاتجاه الثاني: يرى أنّ الانتظار هو الاعتزال وترك المسؤوليات والتغيير إلى حين ظهور صاحب الأمر فيبتدئ العمل تحت رايته ولوائه!!
وهذه رؤية ناتجة من تخيلات وسوء فهم الدول الذي سيمارسه الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف فأنتجت سوء فهم لوظيفة المؤمن في عصر الغيبة. إذاً أين وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذين "بهما تقام الفرائض"؟ وأين قوله تعالى (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)؟ ولماذا تهمل وتترك التشريعات السماوية التي أنزلت لتقنين وتسيير حياة البشرية وهدايتهم إلى الصراط المستقيم؟ وما الضرر إذا كنا في ليلٍ مظلم حالك ننتظر فيه ظهور الشمس وبزوغها من أن نستخدم مصباحاً يضيء لنا طريقنا وحوالينا لنستهدي به على مشرق الأرض وناحية بزوغ النور؟
الاتجاه الثالث: يرى رؤية هدّامة وخطره بمنتهى الخطورة نتيجة بعض الأخبار والروايات فيفهمها فهماً عشوائياً من دون تدقيق وتمحيص ودراية، إذ ينادون بترك العنان – وأحياناً بالدعم والعياذ بالله – للفساد والفحشاء والمنكر والفوضى حتّى تتفاقم لتصل الحالة إلى حد الانفجار فيمل الناس من وضعهم فتتعالى أصواتهم وتطلق صراخاتهم منادين بالفرج لحظة بعد لحظة فيتم الظهور!!!
وهذه الرؤية كالثانية من جهة تعطيل أحكام الله والشريعة السماوية بل ومحاربتها وتحجيمها، وترك الظالمين يعبثون ويغيّرون بخلق الله كما يشاؤون، وكما واضح وجلي هو خلاف لتعاليم القرآن الكريم والسيرة المباركة بل وحتّى بحكم العقل. ولا نقول هنا إلاّ ما قاله الإمام الخميني قدس سره حول هذا الأمر: لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.
إنّ هذه الاتجاهات تؤدي بالأمة إلى الجمود وبأبناء الرسالة إلى الخمول والكسل بعيدين عن روح الإسلام وفهم الوظيفة الشرعية وفهم الساحة ومتطلباتها وفهم فلسفة الرسالات والشرائع.
*الإنتظار الحقيقي:
إنّ للإنتظار مفهوماً مدروساً ومتيناً ننظر إليه بقدسية ومهابة وتعظيم، وكي نكون منتظرين حقيقيين علينا أن نترقب ظهور الإمام صلوات الله عليه في كلّ حين وكلّ لحظة، فعلائم الظهور العامة متوفرة ومتحقّقة كالكفر والفساد والظلم و..الخ، وأمّا العلائم الخاصّة فهي مباغتة وملاصقة للظهور، وفقد ورد في الأخبار أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم سُئل: متى يخرج القائم من ذريتك؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "مثله مثل الساعة لا يجليها لوقتها إلاّ الله عزّ وجل لا تأتيكم إلاّ بغتة". وورد عن الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف نفسه: "إنّ أمرنا بغتة فجأة". ولازمة هذا الترقب ونحن على أتمّ الاستعداد والتأهب بمعنى أن نكون بمستوى من السمو واللياقة المعنوية والمادية لكي نسعد باللياقة التي تؤهلنا للقاء الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف وإذاً:
- علينا أن نكون بمكانة من الإيمان والتقوى والعمل الصالح لنحظى بشيء من الروحانية التي تناسب لقاء الإمام روحي فداه. فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "مَن سرّه أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق وهو منتظر".
- وعلينا أن نكون بمكانة من الوعي وسلامة التفكير والتعقّل حتّى يتقبلنا الإمام بحضرته، ولأن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام يتحملون السطحيين من ضعيفي الوعي والتفكير فذاك زمان وهذا زمان، ذاك زمان كان للاستقطاب والتبليغ والهداية وهذا للصفوة والنخبة والقيادة وهو الذي يناسب وصف القرآن لهم بـ"الوارثي".
فعن الإمام السجاد عليه السلام: "إنّ أهل زمان غيبته القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره أفضل من أهل كلّ زمان، لأنّ الله تبارك وتعالى أعطاهم العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة العيان وجعلهم إلى دين الله سراً وجهراً". وفي رواية أخرى تصف أصحابه عجل الله تعالى فرجه الشريف: "... كالمصابيح كأن في قلوبهم القناديل"، كناية عن وعيهم ونفاذ بصيرتهم.
- وعلينا أن نكون بمكانة من الإعداد الجسدي والعسكري لنحظى بالانتماء لجنده صلوات الله عليه، فإنّه لا يريد إلاّ جنوداً أقوياء خبراء إذ لا يقدم إلاّ على جيشٍ قد أعدّ نفسه، لا على أشتات ميتة يهم بجمعها وإعدادها. فمن جملة ما جاء في وصفهم برواية المجلسي: "...رهبان بالليل ليوث بالنهار...". وقال تعالى: (وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة).
من خلال هذه الرؤية القاصرة ندرك بأنّ الانتظار له مفهومه الخاص والعميق والمقدس الذي يفتح أذهاننا وعيوننا على أنفسنا وحياتنا ومستقبلنا لينهض بنا إلى فهم مسؤولياتنا في عصر الغيبة، إذ نحن الغائبون والإمام هو الحاضر، ونحن المنتظرون والإمام هو المنتظِر وينتظر منا الكثر (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون).