حيدر خير الدين
تتابع دائرة الآثار في مؤسّسة جهاد البناء تحقيقاتها حول مقامات الأنبياء والأولياء والصالحين المنتشرة في ربوع لبنان كافّة. وفي هذه الحلقة اختارت لنا بلدة القليلة العاملية حيث يرقد فيها مقام النبي عمران رضي الله عنه. فماذا هناك؟
يقول النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: أنّ بيت المقدس بنته الأنبياء وعمّرته الأنبياء وما من شبر إلاّ وصلّى فيه نبي أو قام فيه ملك، ويعدّ لبنان جزءاً لا يتجزأ من هذه الأراضي المباركة والتي بارك الله ما حولها لذا فأنّى توجهنا في ربوعه شمالاً وبقاعاً وجنوباً وجبلاً نجد صروحاً للدين علت تحتضن أولياء وأنبياء تقدّست بهم الأرض زهواً وروحاً وريحاناً، وتعتبر بلدة القليلة (في قضاء صور) من البلدات التي احتضنت مشهداً لأحد الأولياء من المسلمين تتجلّى عند الألطاف النورانية بما تحقّق بين أرجائه من كرامات عديدة جعلته مقصداً يُزار كلّ حين من أهالي البلدة وقرى القضاء، يقع وسط الحدائق والجنائن الخضراء قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي بتحويلها إلى أتون ملتهب أثناء عدوان نيسان 1996 حيث أصيب المقام إصابة مباشرة أسفرت عن تضرّر المئذنة والمصلّى والقبّة الشريفة بأضرار فادحة، وقد أحدثت إحدى الغارات الجوية في محيطه فجوة ضخمة كشفت عن أنفاق، وآبار وصهاريج ماء وأقبية وعقود حجرية أظهرت أهمية الموقع وقدم تاريخه لم يتم دراستها بعد بسب إقفالها من قِبل مديرية الآثار.
ويسري الاعتقاد بين الأهالي أن تسمة البلدة بـ"عمران" مردّه إلى أنّ البلدة كانت بالأصل في محيط المقام فكانت عامرة بالمنازل والدور حسبما تشير إلى ذلك اللقى والعاديات التي تظهر صدفة أمام العوام.
كما أنّ هنالك عادة عند عامة الناس اعتادوا عليها بأن يطلقوا على كلّ مقام أو مزار لأحد الأولياء بأنّه "نبي" دون إثبات أو برهان وإنّما من باب المبالغة في التكريم والاحترام حتّى اختلط الحابل بالنابل فبتنا نجد مئات المزارات تحمل صفة النبوة لا يكاد يرجع تاريخها إلى أكثر من قرن وخمسة قرون، غالباً لم يشر إليها الرحالة والمحقّقون حتّى أدخل العنصر النسائي في هذا الموضوع فنجد مقام "النبيّة" في قلد السبع من قرى الجبل الغربي بلدة آل مشيك، ومقام "النبيّات" أو "بنات يعقوب" في بلدة شقراء مع العلم أنّ الله تعالى لم يرسل أيّة امرأة نبيّة ومن المفارقات أنّ امرأة ادّعت النبوّة أيام حكم المنصور العباسي فأرسل وراءها وسألها عن حجّتها فقال أما سمعت قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: أنّه لا نبي بدي، فعلّقت المرأة على ذلك بالقول أنّه قال: "لا نبيّ بعدي" ولم يقل "لا نبية بعدي" فاستندمها فندمت ورجعت عن فعلتها، لذا فإنّ المقصود بــ"النبية" عند ذكر أحد المزارات النسائية فإنّه يعود نسبها المتصل بالنبوّة والله أعلم، وبالتالي فإنّنا لا نستطيع أن نعتبر الولي "عمران" بالنبي وذلك لكونه مدفون على الطريقة الإسلامية حيث أُقيم ضريحه وفق الحدود الشرعية: قبر دارس ضمن حفيرة مستوية جاءت مختلفة عمّا اعتمدته الشريعة الموسوية في دفن أمواتها خاصّة إذا كان الميت من عظمائها وكبار مشايخها، كما أنّ المعالم الهندسية كافة من عقود حجرية وقبّة دائرية وتيجان الأعمدة أمام المدخل إسلامية بحتة، ثمّة شاهد آخر غيّبته "إسرائيل" أثناء عدوانها عام 1982 عبارة عن لوحة منقوشة كانت مثبتة فوق المدخل مباشرة تضمنت آيات قرآنية وتعريفات إسلامية بصاحب المزار، وبالمقارنة مع باقي المقامات والمزارات المنتشرة في مناطق عدة فإنّ البناء جاء مشابهاً جداً لها تألّف من غرفة مربعة ذات جدران سميكة عبارة عن عقود حجرية تحمل سقفاً انتهى أعلاه بقبّة دائرية وقد توسطت الغرفة الضريح المقدّس إضافة إلى وجود محراب في الجدار الجنوبي، وغالباً ما يوجد صهاريج ماء أو آبار في حرم المقام للخدمة والتطهير، وقد أضاف الأهالي مصلى لكي يستوعب مئات المصلين والزائرين، وممّا يوحيه موقع المقام أنّ "عمران" كان عالماً من المسلمين قد اتخذ هذا المكان زاوية يدرس فيها ما لبث أن توفي فدفن بداخلها.
بالتالي يخطئ من يزعم أنّ هذا الضريح هو لعمران عليه السلام والد السيدة مريم عليه السلام.
ويخطئ أكثر من يزعم أنّ السيدة مريم عليه السلام هي من بلدة القليلة بحجّة وجود مقام عمران في البلدة، وذلك لبراهين عدّة جليّة وواضحة أوّلها أنّ عمران والد مريم لم يكن "نبياً" بل كان رجلاً عظيماً بين العلماء في بني إسرائيل وقد مات في ريعان شبابه وابنته صغيرة تحتاج إلى من يكفلها ويقوم بشأنها وأنّ الأنبياء الذين ذكروا في الكتب المقدّسة مجتمعة في نفس العهد كانوا: زكريا ويحيى وعيسى عليه السلام.
ثانيها: أقام النصارى في أوائل العهد المسيحي كنيسة في بلدة صفورية أو سفوريس (التي تقع في محيط بلدة الناصرة وبيت لحم ولا تبعد أكثر من ثلاثة أميال عن قانا الجليل في فلسطين). ولما احتل الصليبيون البلدة عام 1200 م أقاموا كنيسة أخرى على أنقاضها ما لبثت أن تهدّمت فبنى الأهالي كنيسة ثالثة على أنقاض الكنيستين المذكورتين وأنّ هذه الكنائس الثلاث أقمن على البقعة التي كانت منزلاً لآل عمران حيث ولدت السيدة مريم عليه السلام.
ثالثها: إنّه تقع كنيسة الجسمائية بالقرب من هذه البلدة (صفورية) فلا تبعد عنها سوى مئات الأمتار داخل جبل طور زيتا التي زارها الرحالة عبد الغني النابلسي عام 1143 ه/ 1730 من فأوضح أنّ مدرسة الصلاحية كانت بالأساس كنيسة وأنّ واجهة بابها تؤذن بذلك.
يذكر أنّ فيها قبر "حنّة" أم مريم عليه السلام كما ذكر ذلك الحنبلي في تاريخه بقوله: وقد وقفنا على القبر المذكور داخل المدرسة المذكورة في مكان مكشوف فضاؤه، فإذا سلّمنا بأنّ الضريح للنبي عمران عليه السلام فكيف يجوز له خرق العادات الدينية طبقاً للعقيدة الموسوية التي تلزم الدفن في مدافن عائلية مخصّصة لكبار بني إسرائيل فكيف يدفن هو في القليلة! وقبر زوجته "حنّة" في بلدة صفورية! وقد حرص أنبياء بني إسرائيل وعظماؤها على الالتزام بهذه العقائد المدفنية والتي أجبرت النبي إبراهيم عليه السلام على شراء مغارة المكفيلة في حقل عفرون بن صرصر الحثي ودفن سارة بها ودفنه هو أيضاً وما هو الدافع الذي أوجب أبناء يعقوب على المجيء بجثته وجثة يوسف عليه السلام من مصر لدفنها في أرض كنعان.
رابعاً: أنّ النصارى وحسب أناجيلهم لا يعترفون أصلاً بكون اسم أبي مريم عمران.