أذكار | أذكار لطلب الرزق مع الإمام الخامنئي | سيّدة قمّ المقدّسة نور روح الله | الجهاد مذهب التشيّع‏* كيـف تولّى المهديّ عجل الله تعالى فرجه الإمامة صغيراً؟* أخلاقنا | الصلاة: ميعاد الذاكرين* مفاتيح الحياة | التسوّل طوق المذلَّة* الإمام الصادق عليه السلام يُبطل كيد الملحدين تسابيح جراح | بجراحي واسيتُ الأكبر عليه السلام  تربية | أطفال الحرب: صدمات وعلاج اعرف عدوك | ظاهرة الانتحار في الجيش الأميركيّ

كلثمة أخت موسى: العابدة، شجاعةً وإخاء


ولاء إبراهيم حمود


يقول الباري جلّ وعلا في الآية الأربعين من سورة طه: ﴿إذْ تَمْشي أخْتُكَ فتقول هل أدلّكم على من يكْفَلُهُ فرَجَعْناك إلى أُمّك كي تقرّ عينُها ولا تحْزَن﴾.. صدق الله العليّ العظيم.
مقالتنا لا تختلِفُ عن سيدات ما سبق من مقالات فهي مثلهن أم أخرى ولكن لأخيها. أم لم تلد ولكنها امتلكت حركةً مميزةً في سياق القرآن الكريم. وإن فاتها حظّ الثناء الإلهيّ العاطر الذي نالته الطيبات الذكر سالفاً، فإنّها نالت وبجدارةٍ شرف الذكر المجيد في سورتين من الكتاب الأكر. وإلى جوار أمّها وفي نفس الموقف تقريباً وهو موقف إنقاذ طفولةٍ بريئةٍ لكليم لله، لنبيّه الكريم موسى بن عمران. من هي أختُ موسى؟؟ وكيف تحركت على مسرح النص القرآني؟ وكيف نظر القرآن العزيز إلى حركتها؟؟

يتضح نسب أخت موسى عليه السلام في آيات الله بمجرد ذكر الكاف. كضمير متصل في محل جر بالإضافة في كلمةِ "أختُكَ" الواردة في مطلع الآية التي باركت حلقة اليوم أو في نفس الكلمة ولكن مع ضمير آخر هو "الهاء" العائد إلى موسى عليه السلام وفي نفس المحل من الإعراب ولكن في سورة القصص التي ذكرت في حديثنا حول أمّه سلام الله عليهما.

فضولٌ علميٌ يمد يدنا لاهفةً إلى كتب التاريخ المعتبرة، فالإيضاح مطلوب لاسم امراةٍ كان دورها في القصص القرآني ظاهر البساطة، عميق الأهمية، فيلقي المجلسي في بحار أنواره "قدس سره" ظلالاً من ضوءٍ وذلك في قوله: قيل إنّ اسمها كلثمة أو كلهمة. ولا يشير الشيخ مغنيّة أو السيد الطباطبائي إلى اسمها من قريب أو من بعيد ولكن السيدة مريم نور الدين فضل الله .. تستعمل اسم مريم في دراستها القيّمة عن "النساء في القرآن". خلاصة القول، سواءً أكانت أخت موسى عليه السلام كلثمة أو مريم تبقى في الحالين وفي النص القرآن سيدة استحقّت الذكر في أشرف الكتب، في موقفٍ مشحونٍ بالخوف والحذر والترقّب.

ذُكِرَتْ كلثمة في سورة القصص وفي سياق الحديث عن موسى طفلاً رضيعاً بتفصيلٍ يفوق ذكرها في سورة طه. وإن كانت تبدو في السورتين، شخصيةً واحدةً، شابة تحسن التصرّف في أصعب المواقف حرجاً؛ أمرتها أمها بقولها "قُصّيه" أن ابحثي عنه وذلك بعد أن ألقته الأمّ في اليمّ، فانبرت لتسجيل أول صوتٍ لها. في مسجلة التاريخ، وكان ذلك صوت لوقع خطواتها المسرعة ونبض قلبها الواجف الذي كاد يسبق خطواتها في الجري، لا طاعةً لأمّها فحسب بل لهفةً وخوفاً على أخيها الأثير لديها. بُوركت الأخوّة الشجاعة تسمو حتّى تلامس حدّ الأمومة أو تكاد، وذلك في جُرأتها على تحدّي عيون فرعون التي حاصرت حتّى الهواء طلباً لنحر أخيها الرضيع، وسيوفه المسلطة فوق ذلك الزمان، لا يبدو في سورة القصص أيّ مسافةٍ زمنيةٍ بين لحظة صدور الأمر من الأم ولحظة تنفيذه من الأخت ما يؤكّد سرعةً في التنفيذ باعِثُها الطاعة واللهفة والجرأة والإقدام في حيوية تمتلكها عادة شابّة فتية تقبل على الحياة بكلّ جرأة الشباب وعفوية الفتوّة.

وهذا بالتحديد ما تطلّبه موقف استقصاء خبر موسى السابح لا بإرادته ولكن في تابوتٍ فوق سطح اليمّ, لم يكن الاستقصاء سهلاً. وسط المشاعر المضطربة في زحمة العوامل المؤدية إلى هذا الوضع، فموسى عليه السلام رضيعٌ لم يكد يغادر الوسط المائي الأوّل في رحم أمه، حتّى استقبله النيل رحماً آخر لحياته يوصله إلى نفس الضيقة التي هُرّب منها حذراً عن مدية فرعون الجاثم كقطع الليل فوق مواليد بني إسرائيل. ولكنّ أختَ موسى لم تعبأ بكلّ هذه الهواجس، لقد رمتها جانباً، وهي تضمّ بين جانحيها شوقها وشوق أمّها في آنٍ. ولم يكن يُحيط بكلثمة أثناء جريها السريع نحو شاطئ اليم، سوى أخوة لا تعرفُ التردّد بل تتأبّط الشوق والجرأة سلاحاً هما وحدهما حدّاه، وإن السياق القرآني يُبرزُ سُرعةً مذهلةً في الإنجاز (وقالت قُصّيه فبَصُرَتْ به عن جنب وهم لا يشعرون) لقد بَصرت به مباشرةً ولكن كيف؟؟ واضح أنّ كلثمة أخت موسى بنت عمران ويوكابد، هي فتاة لم يُلغِ فيها خوفها على أخيها، ذكاءً حاداً كانت تمتلكه، وإلاّ لفشلت في استقصائه وبالتالي فقدت عودة موسى إلى أمه، أحدَ أهمّ أسبابها المهيأة لها من قبل الله عزّ وجل. بصُرَتْ به بطريقة حذرة، لأنّها كانت تمتلك في ذروة حماسها وانفعالها درجةً عالية من التوازن الذي ساعدها في التخطيط لرؤيته دون أن يشعر بها الحرس وهذا كان أحد أهم العوامل التي ساعدت أمّ موسى على استعادة رضيعها.
وقفت في غمار لهفتها تراقب المشهد عن كثب وتختزن بين جوانحها شعوراً دافئاً بالأخوة ولكنها تعايش في عقلها أيضاً مستوياتٍ عدية للتوازن النفس تتواتر صعوداً نحو الموقف المتأزم الذي سار بفضلٍ من الله في تماسكها نحو الانفراج وهنا يطيب البحث عن العقدة القصصية في النص القرآني ولكنه ليس شأننا الآن.

نبقى مع كلثمة في موققها المترقب وفي تحفزها ومحاولتها استجماع قواها للتدخل الحاسم في اقتحامها الموقع بل وبثقة المؤمن بنصر من خالقه، رأت أخاها رضيعاً متمرداً رافضاً كلّ مرضعةٍ وكأنّه يبحث عن واحدةٍ بعينها بل بقلبها الذي اطمأنّ إلى نبضه فتجاوب نابضاً معه بكلّ خلجات الحياة.
كان واقع الحال أنّ الله سبحانه أصدر أمراً بالتحريم المؤقت (وحرّمنا عليه المراضع) وذلك استكمالاً لأسباب عودته لأمه كي تقرّ عينها ولا تحزن.
وهنا أحسنت أخته التدخل في وقتٍ احتاج تدخلها لمصلحة كلّ أطراف الموقف بل كلّ أشخاصه، حيث جاء تدخلها حلاً لتوتر زوجة فرعون في خوفها على الرضيع الذي جاءها سابحاً في تابوتٍ كأنه هبةُ السماء إليها. وعرضت كلثمة خدماتها – فقالت ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾، أخوة الإيمان: لننظر معاً ومن خلال السّجف التي ألقاها النص القرآني كثيفة على أخت موسى عليه السلام في سورة القصص، إلى أخت موسى في سورة طه، وهي في كلتا السورتين متحركةٌ فاعلةٌ، قولها فعل ناطق ونطقها قول فاعل، وبين الفعل والنطق تكمن جرأة كلثمة ورباطة جأشها في موقفٍ احتاجهما معاً. فما أوحى لنا أنّ كلثمة في عقدها الثاني أي في سنوات ما قبل العشرين، هذه السنوات التي تتميز ببواكير الوعي المتحفز لكلّ معرفةٍ وقدرةٍ على تجسيد هذا الوعي بحركة لا تعرف التردّد، كذا بدت أخت موسى في سورة طه، يذكرُ القرآن الكريم مشيها ويذكر قولها مباشرةً، لأنّه دون مبالغةٍ كان القول الفصل في الموقف المعقّد.

 وهو بلغةِ الروائيين مفتاح لحظة التنوير، في ظلامية الموقف واشتداد تأزمه ﴿إذ تمشي أختك فتقول:  وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾ لله درّها هذه الشجاعة الذكية، تعرض على القوم خدماتها وهي تعرض للإنسانية خطة نجاة نبوة رضيعة. أنّها لم تأبه للنار المستعمرة واللظى الملتهب في عيون الجواسيس. ألقت نفسها مباشرةً في أتونها حينما لاحظت بعين ذكائها، أنّ الموقف يتطلّب ذلك، لم يكن هناك تسرعٍ وتهوّر بل كان الموقف يتطلّب قدراً من شجاعةٍ ومقداراً من حكمةٍ استجمعت كثلمة شجاعتها وحكمتها وهذا ليس غريباً على حفيدة الأنبياء من أمها وأبيها، ووقفت سيدةً للموقف تُمسكُ زمامه بيدٍ من أخوةٍ وأخرى من إيمانٍ بسيد الحياة والآخرة بالله.. إنّ قراءتنا لحركة كلثمة في سورة طه تُضيء ما خلف الستار الذي أسدلته سورة القصص عليها تاركةً إيّاها مع القوم محاولةً استنقاذ أخيها – هي قالت في سورة طه: هل أدلّكم على من يكفله؟؟ أمّا في سورة القصص فقد أضافت كلمةً كادت تُسيء بواقع الحال، الذي نجحت مسيرة الأحداث حتّى لحظتها في إخفائه إنقاذاً لنحر الرضيع من حدّ المدية الفرعونية وإلى هذا الأمر يشير الشيخ الطبرسي (ره) في مجمع البيان في تفسير القرآن – حين يقول: وإن هامان وزير فرعون قد استراب با وشك بأمرها، حيث قالت ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾ فمضى يحقق معها قائلاً: لعلك تعرفين أهله وإلاّ ما أدراك أنهم له ناصحون؟؟ وهنا زعمت كلثمة – ويحقّ لها أن تزعم حينها – أنّهم ناصحون للملك".

فصدّقوها وأمسكوا عنها. وفي جوابها هذا إضاءة لسرعة البديهة والنباهة التي تملكتها كلثمة في أصعب مواقف حياتها، حيث نجحت في استعمال تورية توهم مستمعيها أنّها تعرض خدماتها خدمة للملك ولزوجه. لأنّ عدم رضاعة الطفل تعني موته وهذا ما كانت آسية الشهيدة تخشاه، وهذا هو الخيط الذي أحسنت كلثمة وأمها أيضاً التقاط طرفه، وسحبه باتجاهها حتى طرفه الآخر دون ن ينقطع. فزعمت كلثمة أنّ أهل هذا البيت ينصحون للملك، ويتمنّون له كلّ خير، فأعادت ظاهراً ضمير الهاء المتصل بالكرامة، لفرعون يهنأ به على جبلٍ من خواء لأنّ ضمير الهاء واقع نفسياً خاصاً لم يكن يعني في قلب كلثمة الواجف ولا في عقلها المستفز المتحفر سوى الرضيع الصغير الآتي من عالم الغيب شقيقاً من أمها وأبيها. كانت تلك الكلمة طرف الخيط الذي سحبته كلثمة بذكائها وشجاعتها من قصر فرعون وصلته ببيتها حيث أمها. وتركته في يدها تصديقاً لوعد الله في أن تقرّر عينها ولا تحزن.

يكتفي كتاب الله بذكر كلثمة بهذا المقدار في هذا الموقف. يذكره سبحانه بحيادٍ في ظاهر الأمر كما وقع تماماً دون زيادةٍ أو نقصانٍ. ولكن حسب كلثمة إكراماً من الله ذكرها مع الصالحات من نساء العالمين. وهي تختلف عن بعضهنّ بأنّها كانت تتصرّف بصورة تلقائيةٍ دونما حاجة إلى رعاية إلهية خاصّة كإلهام أو وحي أو ما شابه، ومن الملاحظ أنّ الخالق سبحانه ذكر أفعالها وأقوالها مقترنةً بضمير فاعل يعودُ إليها وذلك تبياناً لشخصية قراراتها وقدرتها على اتخاذها وعلى جعلها موضع التنفيذ دونما تردّد، لافتاً النظر إلى أنّها كان أحد أهم الأسباب المهيأة لطفاً منه سبحانه لنجاة موسى، وبذا كانت كلثمة الشخص الأنسب في المكان الصعب في الموقف الأشد رهبةً من سواه. إنّها اقتحمت بجرأتها وذكائها في آنٍ قصر فرعون. وانتزعت بهذا السلاح أخاها الرضيع من أشداق الذئب المنفتحة عليه لالتهامه ما وسعها انفتاحاً. كانت كلثمة في كتاب الله مثالاً حياً. وستبقى في كتاب الإنسانية وفي سفر الحياة أُخوةً حانيةً وظلّ عطفٍ ينسكب ضوءاً، على كلّ العلاقات الأخوية بين أُختٍ وأخيها. بذا قضت إرادة الله.. وبذا أطاعت كلثمة الله في إرادته العلية إذا كان القرآن قد أسدل ستاره الجميل على حياة أخت موسى بعد هذا الموقف فقد ذكر لزوجها موقفاً كان فيه نصيراً لموسى.

 كان زوج كلثمة يدعى وحسب مجمع البيان كالوب بن وفنّه او كالب بن يوحنا وهو الذي دخل أريحا مع يُوشع بن نون تنفيذاً لأمر موسى، لقد وقفت كلثمة إلى جوار أخيها طفلاً رضيعاً يسبح فوق مياه اليم ووقفت مع زوجها إلى جواره سابحاً في غمار دعوةٍ رساليةٍ نبويةٍ تهدي الملأ إلى الرب الأعلى إلى الله بعيداً عن جبروت فرعون وطغيانه، وقد أفرد القرآن ذكراً مجيداً لزوجها دون أن يذكرها معه تاركاً للناس موقفها الأخويّ الأول في حفظ حياة أخيها، مثالاً يحتذى كلّما رتل المقرؤون على سمع الدهر الآيات التي تناولتها في سورتي القصص وطه .. سلام الله على كلثمة وعلى أخيها .. وعلى الأخوّة الكامنة فيها والسلام عليكم أخوتي القرّاء. ولكم حتّى نلتقي مع سيدةٍ أخرى وعبرةٍ أخرى من كتاب الله ... أطيب الأمنيات بآيات ناجحةٍ في السير على هدي الله.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع