مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

حارس المقام (1): الشهيد علي شبيب محمود (أبو تراب) (*)

وسيم الحاج


ظِلُّ القبّة على الرخام يتراخى. تحطُّ حوله أسراب الحمائم التي أَنِسَت الطيران إلى جانب الملائكة من خدّام مقام السيّدة زينب عليها السلام. وبين الحمائم طفل يركض قاصداً الطيران كمثلها، والتحويم حول القبّة، تنكشف من ثغره بسمة حنون ليست كابتسامات الأطفال براءة، بسمة تحمل غمّاً وشوقاً يُنبئك أنّ الطفل عاشقٌ صغير، عاشقٌ للتحليق.

• اليتيم المشتاق
"عليّ!". تناديه بصوتها الحنون حين دخوله المنزل. "رجعت يا روح أختك؟". يركض إليها بجسده الصغير، يحضنها بحنان اليتيم المشتاق إلى ذراعي والدته، فـ"عبير" تشبه بتفاصيلها كلّها أمّهما المرحومة. "هيّا يا عليّ، سيأتي جدّو مراد يصطحبك إلى الصلاة". راح عليّ يتأمّل قبّة السيّدة زينب عليها السلام، مسنداً رأسه إلى جدار منزلهم الخارجيّ الملاصق للمقام. فوجود السيّدة كان يغني هذا الطفل اللبنانيّ عن غربتهم في الشام، حتّى بات حرمها عليها السلام موطنه. رأى جدّه قد أقبل فأسرع إليه. أمسكت تجاعيد يد الجدّ ببراءة الطفل، وقادته إلى غرفة الخدم في الحرم. كان يشعر بغبطة كبيرة كلّما جلس في غرفة الجدّ المخصّصة لخدّام حرم السيّدة عليها السلام. وراح يلعب دور الخادم مع جدّه، ذاك الشرف الكبير الذي يتغنّى به أمام أترابه!

•الطفل الشاطر
تقدّم الشيخ أبو علي لقراءة دعاء كميل في ليلة الجمعة تلك. يُسرع عليّ وبيده سجدة صغيرة، يضعها أمام الشيخ مبتسماً. يضحك الشيخ، ويقبّل جبهة الطفل الصغير قائلاً: "يا هلا بعلي، يا هلا، سلّم ديّاتك يا شاطر". الشيخ أبو علي اللبنانيّ هو جارهم الطيّب، الذي كان يتفقّد أحوالهم دائماً، وكان جميع الجيران وأهالي منطقة السيّدة زينب عليها السلام يكنّون احتراماً للشيخ الذي يقرأ عزاء سيّد الشهداء عليه السلام في المقام. وعليّ اكتسب ذلك من والده، فإذا ما عاد إلى المنزل يبشّره بجميل صنعه، فيهنّئه الوالد بجملته المعتادة: "الله يبيّض وجهك يا شاطر"!

•ما سرّ الثلج؟
في فترة التسعينيّات، حين كان الياسمين ينعم بالأمان في ربوع سوريا، كان وقت عليّ مقسّماً بين حضن أخته عبير في المنزل الدافئ، وبين حضن الحرم في غرفة جدّه خادم السيّدة عليها السلام في المقام، حتّى صار لهذه العلاقة سرٌّ خاصّ لا يفهمه إلّا هما: عليّ والسيّدة عليها السلام. آلت الظروف إلى أن يفارق عليّ وعائلته وعوائل لبنانيّة عدّة جوار المقام للعودة إلى لبنان، فخلت جدرانه من نظرات ذلك الطفل الحبيب، وافتقد الحرم أيضاً صوت الشيخ أبي عليّ الذي غادر أيضاً بعد مدّة.

توالت أيّام الشوق وعليّ الشابّ يكبُر على عين زينب عليها السلام. ما فارقه طيفها قط؛ إذ كانت حاضرةً في دعواته وصلواته، إلى أن انضمّ إلى صفوف المقاومة الإسلاميّة. ومنذ ذلك الوقت، صار الكلّ يناديه بـ"أبو تراب". في إحدى الدوريّات الجهاديّة في جنوب لبنان، كان الثلج قد رسم محيّا الجبال، وآنس طهر نفوسهم الساهرة على الحدود. وفيما كان "أبو تراب" يؤدّي واجبه الجهاديّ، حوصرت قدماه في الثلج، وبقي على حاله نحو سبع ساعات، حتّى تجمّدتا. ولأنّ المنطقة بعيدة عن المناطق المأهولة، كان من الصعب وصول الإغاثة إليه خلال الوقت المطلوب. وبمجرّد أن نُقل إلى المشفى، تكشّفت أمام عليّ خبايا سرّه! إذ تبيّن أنّ الثلج سيحرمه قدميه، بعدما طلب الأطبّاء بترهما. أيُّ بترٍ هذا الذي يتحدّثون عنه؟! البتر يعني أن لا يشارك "أبو تراب" في أيّ عمل عسكريّ قادم! هذا يعني أنّ الحلم باللقاء القريب والالتحاق بقافلة العشق سيتبدّد، وأنّه لن يمشي إلى حرم العقيلة عليها السلام مجدّداً. ولعلّ هذا الخاطر هو أكثر ما آلمه.

•مولاي يا عليّ!
في تلك الليلة التي تقرّر فيها أن تُبتر قدماه فيها، راح "أبو تراب" يتوسّل ويبكي بكاء مخلصٍ خاضعٍ، لا لألم في قدميه أو لحاجة دنيويّة غابت عنه، بل لأنّ حلم الشهادة بات بعيداً عن ناظريه، وشرف الجهاد سيصير أمنيّة عينَيه. في تلك اللحظات، تراءى له طيف الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، ولكنّ رؤياه هذه لم تكن في المنام، بل في اليقظة.

مولاي يا عليّ، ألا تقضي لي حاجة فيها أنس نفسي، أن أقف على قدميّ ولا ألقاكم إلّا مقطّعاً مضرّجاً بدمي؟ يقول أبو تراب: نظر إليّ الأمير عليه السلام وقال جملة واحدة: "قم واذهب إلى ابنتي زينب عليها السلام". بعد تلك الرؤيا، رفض "أبو تراب" أن يجري عمليّة البتر، وألحّ على الذهاب إلى ضريح السيّدة زينب عليها السلام. وفي أرض الوصال توقّف الزمن، وما كان المكان يشبه ما اعتادت عليه عيناه! لم يعد يرى إلّا الضريح هناك. وإذا ما اقترب إليه، ارتفع حجاب الدنيا عن عينَيه، ورآها هناك سيّدة جليلة ترتدي الطهر عباءة بيضاء. لم يرَ وجهها، ولكنّه سمعها جيّداً تقول له: "قمْ يا عليّ! قمْ يا بُنيّ"! إنّه أمر السيّدة زينب عليها السلام، فكيف لا يجيب؟!

تمسّك بفضّة الضريح ووقف على قدميه! تلك القدمان الخاويتان من الحياة، اللتان كانتا ستُبتران، حملتا جسده المنهك من عذاب الفراق! ومنذ تلك اللحظة، أيقن عليّ أنّ الله استودعه لسرٍّ خاصّ بالسيّدة زينب عليها السلام. وهذا ما كان! وسط دهشة من حضر من الزوّار وتكبيرهم، عاد "أبو تراب" يمشي على قدمَيه، وقد شُفيتا بالكامل، وعاد إلى مواصلة عمله الجهاديّ.

• ربيب زينب عليها السلام
تتوالى السنوات، وتندلع الحرب في سوريا، ويعلن التكفيريّون أنّهم سيهدمون مقام السيّدة زينب عليها السلام. لم يتأخّر "أبو تراب"، الذي تسارعت دقّات قلبه كالموعود بلقاء لا بدّ منه، وهبّ لنصرة سيّدته عليها السلام، فشكّل لجان حماية للمقام، ووزّع السلاح على العامّة، وعاد بذلك الهدوء إلى تلك المنطقة التي تسلّل الرعب إلى قلوب أهلها، بعدما صارت تنبض بعزيمة "أبي تراب" وإخلاصه. سِرّه لم يعد مكنوناً، بل أصبح على علم أنّه ربيب زينب عليها السلام، الذي استُحفظ لمثل هذه اللحظات.

وبعد فترة من إقفال أبواب المقام، يأتي وفدٌ قياديّ ضمّ الحاجّ قاسم سليماني والشهيد السيّد ذو الفقار للزيارة. وعند الباب المقفل، الذي تراكم عليه الغبار، يقف الحاجّ قاسم عاشقاً، يمسح بيده غبار الباب، ويخضّب به رأسه وصدره باكياً، ثمّ يطأطئ رأسه ويقول: "كيف لنا أن ننظر إلى وجه أمير المؤمنين عليه السلام وبابك مقفل يا عقيلة الهاشميّين؟!". تقرّر فتح باب المقام، ولم يكن الزوّار وقتها سوى القلّة القليلة من المجاهدين، الذين أخذوا عهد الدفاع عن المقام وسيّدتهم.

•كأصحاب الإمام الحسين عليه السلام
لم يكن يؤنس غربة المقام الذي كان يعجّ بالزوّار سابقاً، سوى صوت الشيخ "أبي عليّ"، الذي ردّه الشوق إلى مقام الحوراء عليها السلامأيضاً. ما إن وقعت عينا "أبي تراب" عليه، حتّى عرفه وابتسم. سلَّم عليه بحفاوة، إلّا أنّ الشيخ لم يعرفه. ولم تكن الظروف ملائمة لأن يتعارفا آنذاك، فأسرّها "أبو تراب" في نفسه. ولم يكن يشقّ صدر العتمة في تلك الليالي، إلّا ضوء وجه "أبي تراب" ورفاقه، فأرض المقام التي كانت مهبطاً للملائكة من السماء إلى الأرض، أصبحت بقعة عشق مضيئة من الأرض لأهل السماء، وباب عروج لأهل العشق إلى السماء. كان المشهد يشبه إلى حدٍّ بعيدٍ مخيّم الإمام الحسين عليه السلام ليلة العاشر. كلّهم رحلوا وبقي ثقات القائد يفدونه بأجسادهم وأرواحهم. أهل الدنيا يرون المخيّم مظلماً، والمنطقة محاصرة، وإنارة المقام مطفأة، وأهل الآخرة يرون توافد الصدّيقين والأولياء، وإشعاعات وجوههم وأطيافهم تملأ المكان، فتبثّ في قلب من كان في قلبه بصرٌ عزيمةً متوقّدة أُشعلت منذ 1400 عام. فمذ أُحرقت خيام الحسين عليه السلام، وفي الصدور حرارة لن تبرد أبداً!

كان يكفي أن تنظر إلى عينيّ "أبي تراب" لتستشعر كأنّ أصحاب الحسين عليه السلام لم يُقتلوا جميعاً يوم الطفوف، وبقي منهم من كان محفوظاً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة؛ ليكونوا أنصاراً في كلّ زمن لعليّ وآله عليهم السلام.

•رمق العبّاس عليه السلام
يروي خادم المقام عن تلك الليالي بشوق حال "أبي تراب" قادماً إليه كلّما غابت الشمس، لربّما كان يخاف عليها، أيُعقل أن لا يحرس باب خيمتها كفيل؟! ماذا لو جاءها عسكر يزيد مجدّداً؟! ماذا لو أُحرقت خيامها؟! هيهات تُسبى وما زال فينا رمق العبّاس عليه السلام. كان يقضي لياليَ قرب ضريحها حتّى الصباح. يقفل الخادم باب الضريح عليه ويرحل. يسمع صوت القذائف وهي تتساقط قربها، وأصوات الضربات تضجّ حولها، فيظلّل الضريح بجسمه، ويتوجّه بكلّ قلبه إليها وهو يهمس: "مولاتي، إنّنا نقوم بكلّ ما نستطيع القيام به، ولكن سامحينا إن قصّرنا! والله، يا وديعة فاطمة، لو كنت أستطيع أن أظلّل على قبّتك بجسدي، لما توانيت"! يقول تلك الكلمات، ويبكي قلّة حيلته وضعفه.

•"هي مَن تحمينا"!
تلك القوة كانت تجد نفسها مقصّرة أمام عشقها للعقيلة عليها السلام. هذا الانكسار لم يرَه أحد إلّا الله والسيّدة عليها السلام. أمّا عندما يحوطه أهالي المنطقة والإخوة المجاهدون، فلم يكن "أبو تراب" إلّا سبعاً طالبيّاً. بابتسامة مميّزة ورباطة جأش عظيمة، كان يحدّثهم عن أهميّة البقاء والتمسّك بهذه المنطقة استعداداً لأيّ هجوم مفاجئ، ويذكّرهم بكربلاء، وبغربة الإمام الحسين عليه السلام، والفضل الذي له على هذه المسيرة. وإذا ما رأى في أحد خوفاً أو قلقاً كان يطمئنه قائلاً: "نحن من نلوذ بالسيّدة زينب عليها السلام، يا إخوان، نحن هنا لتحمينا لا لنحميها"!

يُتبع...

(*) استشهد دفاعاً عن المقدّسات بتاريخ 15/11/2013م.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع