الشيخ بسّام محمّد حسين
شاءت الحكمة الإلهيّة بقاء الإمام زين العابدين عليه السلام على قيد الحياة بعد واقعة الطفّ المفجعة، لُطفاً بالخلق، ولئلّا تخلو الأرض من نسل آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.
والذي يبدو من روايات أهل البيت عليهم السلام وسياق الأحداث التاريخيّة، أنّ السبب الظاهر وراء بقائه حيّاً هو المرض الذي أصابه في كربلاء، وعاقه عن القتال والنزال بين يدي أبيه الإمام الحسين عليه السلام.
فما هو نوع هذا المرض؟ وكيف ترك أثره عليه؟ وكم استمرّ معه؟
أسئلة سنحاول الإجابة عنها في هذا المقال بإيجاز.
•نوع المرض
جاء في المصادر المختلفة أنّ الإمام زين العابدين عليه السلام، الذي حضر واقعة الطفّ، كان وقتئذٍ مريضاً عليلاً(1). وفي الوقت الذي لم تتعرّض فيه معظم المصادر التاريخيّة لطبيعة هذا المرض الذي أصابه ونوعه، تُحدّث بعض الروايات أنّه عليه السلام كان مبطوناً، منها:
ما رواه الكليني وغيره، عن الإمام الباقر عليه السلام في حديثٍ له أنّه قال: "... وكان عليّ بن الحسين مبطوناً، لا يرون إلّا أنّه لما به..."(2). والمبطون في اللغة: العليل البطن، ومن يشتكي بطنه(3). وهذا هو المتيقّن من العبارة الواردة في الروايات، والمناسب لما نقله المؤرّخون من حالة الإمام عليه السلام.
لكن توهّم بعضهم كون المقصود منه المرض بالإسهال ونحوه؛ لأنّ هذا التعبير كثيراً ما يُستخدم في مَن به إسهال، أو انتفاخ في البطن(4)، حيث يقرن الفقهاء بين المسلوس والمبطون، عند الحديث عن الحكم الشرعيّ لأحدهما.
وأمّا تعبير الشيخ المفيد رحمه الله وغيره؛ أنّه عليه السلام كان مريضاً بالذَّرَب(5)، فلا بدّ أن يُحمل على ما جاء في قواميس اللغة، من أنّ الذَّرَب من الأمراض مأخوذٌ من الجُرح، وهو الذي لا يبرأ، واستُعير من الجُرح للمرض(6)، وهو الموافق لتعبير الرواية: "لا يرون إلا أنّه لما به"، على ما تقدّم؛ أي كان مريضاً بمرضٍ حادٍّ ملازمٍ مميت.
وأمّا حمل تعبيره رحمه الله على الذَّرَب -بالتحريك- بمعنى الداء الذي يعرض للمعدّة فلا تهضم الطعام، ويُفسد فيها ولا تُمسكه(7)؛ أي الإسهال، ففيه إشكال من ناحيتين:
الأولى: إنّ هذا المعنى لا يناسب شأن المعصوم عليه السلام، ويجب تنزيهه عن مثل هذا النوع من البلاء الذي يسبّب نفرة الناس منه، وإسقاط شأنه من القلوب، ويستلزم هتك حرمته بملاحظة الظروف المحيطة بالحدث، فماذا يعني أن يُصاب شخص بإسهال في مكان لا ماء فيه ولا نظافة؟!
الثانية: لم يذكر أحدٌ ممّن تعرّض لمرض الإمام عليه السلام -ممّن تتبّعناه- ما يفهم منه ابتلاؤه بمثل هذا العارض، مع وصفهم لحال مرضه وشدّته، ممّا سيأتي ذكره.
فالإمام عليه السلام -إذاً- كان مصاباً بألم شديدٍ في بطنه، والظاهر أنّه كان حادّاً، كما قد يُوحي بذلك التعبير عنه بالذَّرَب، الذي هو في الأصل: الحادّ من كلّ شيء، كما في قواميس اللغة، حيث يُطلق على المتكلّم أحياناً أنَّ لسانه ذَرِب؛ أي حادّ، وقد ترك عوارضه على جسده الشريف وأنهكه حتّى لم يعد يقوى على النهوض، ولا نستبعد أن يكون نوعاً من أنواع الحمّى، والله العالم.
•المرض وتمزيق الدرع
روى ابن شهر آشوب في المناقب عن: "كتاب المقتل: قال أحمد بن حنبل: كان سبب مرض زين العابدين عليه السلام في كربلاء أنّه أُلبس درعاً ففضل عنه، فأخذ الفضلة بيده ومزقه"(8).
ولم يتّضح الربط بين المرض وتمزيقه عليه السلام لفضلة الدرع بيده، بحيث يرجع إلى معنى مقبول! فهل أُصيبت يده؟! أم أُصيب بعينٍ كما زعم بعضهم؟! أم ماذا؟!
مضافاً إلى أنّه مخالف بظاهره لما قدّمناه من أنّه كان مبطوناً، فلاحظ.
•شدّة المرض
الظاهر من النصوص المختلفة أنّ الإمام عليه السلام كان قد أخذ المرض منه مأخذه، ففي الرواية السابقة عن الإمام الباقر عليه السلام: "لا يرون إلّا أنّه لما به". وفي نصٍّ آخر: "لا يرون أنّه يبقى بعده"(9).
بل تقدّم أنّ التعبير بالذَّرَب لا يخلو من ظهور في حدّة المرض، خصوصاً بملاحظة استعماله أيضاً في المرض الذي لا يبرأ(10).
ومن هنا، نجد الشيخ المفيد رحمه الله يقول: "وهو مريضٌ بالذَّرَب وقد أشفى"(11)؛ أي قَرُب من الموت. وكذلك تعبير الرواة والمؤرّخين صريح في صعوبة المرض، وبلوغه أشدّ حالاته، كتعبيرهم بأنّه:
1- كان عليلاً دَنِفَاً(12)، والدَّنَف: المرض الملازم المخامر، ومُدنَف: أبراه المرض حتّى أشفى على الموت(13).
2- كان شديد العلّة(14)، أو شديد المرض(15)، أو كان يومئذ عليلاً لا يملك من نفسه شيئاً(16).
3- كان منبسطاً على فراشه(17)، أو نائماً عليه(18).
4- أنهكه المرض(19)، أو العلّة(20)، أو الأوجاع(21).
5- يصفه بعضهم عند ابن زياد في الكوفة: هو على ما ترى من العلّة، وما أراه إلّا ميّتاً عن قريب(22).
إلى غير ذلك ممّا هو منثور في كلماتهم المختلفة، مضافاً إلى ما ذكروه أيضاً من أنّ العقيلة زينب عليها السلام، كانت تُمرّضه(23)، وفي بعض المصادر أنّ النساء كُنَّ يمرّضنه(24)، ما يوحي بشدّة المرض بحسب العادة.
•متى بدأ المرض؟
لم تحدّد المصادر التي تعرّضت لمرض الإمام عليه السلام، الزمان الذي أُصيب فيه بالتحديد، ولكنّنا لا نشكّ في أنّ مرضه عليه السلام كان متقدّماً على اليوم العاشر، حيث نُقل عنه قوله عليه السلام: "وإنّي جالس في تلك العشيّة التي قُتل أبي في صبيحتها وعندي عمّتي زينب تمرّضني..."(25). وفي نصٍّ آخر: "... وأنا عليل..."(26). وفي نصٍّ ثالث قوله: "... قرب المساء... وأنا مريض..."(27).
وهذا يعني أنّ الإمام عليه السلام كان مريضاً في اليوم التاسع من المحرّم، كما هو واضح. وفي اليوم العاشر استمرّ مرض الإمام عليه السلام، وكانت حالته الصحيّة في أشدّها وأصعبها، حيث ينقل الرواة عندما انتهى إليه القوم، وفيهم شمر بن ذي الجوشن (لعنه الله) وأرادوا قتله، فوجدوه منبسطاً على فراشه مريضاً(28)، ثمّ يصف بعضهم حالته ببعض ما سبق ذكره من الشدّة والصعوبة.
وبعد اليوم العاشر، لم يكن حال الإمام عليه السلام أفضل منه في ذلك اليوم، فقد وصفوا حالته الصعبة، حينما سيق أسيراً، والمرض كان شديداً عليه، بل كان قد أشفى وقارب الموت(29).
•كم استمرّ؟
1- في الكوفة: في الكوفة كانت لا تزال صحّة الإمام عليه السلام على حالها، إن لم نقل إنّها قد زادت سوءاً بسبب السفر والأسر، وما رافقهما من مصائب ومتاعب.
ففي أحد المشاهد المؤلمة التي يرويها الشيخ الطوسيّ بسنده عن حَذلم بن سُتير، (أو كثير)، قال: قدمت الكوفة في المحرّم من سنة إحدى وستّين، منصرف عليّ بن الحسين عليهما السلام بالنسوة من كربلاء، ومعهم الأجناد يحيطون بهم، وقد خرج الناس للنظر إليهم، فلمّا أُقبل بهم على الجمال بغير وطاء، جعل نساء الكوفة يبكين ويَلتَدِمن، فسمعت عليّ بن الحسين عليهما السلام وهو يقول بصوتٍ ضئيلٍ، وقد نَهِكته العلّة، وفي عنقه الجامعة، ويده مغلولة إلى عنقه: "إنّ هؤلاء النسوة يبكين، فمَن قتلنا؟!..."(30).
2- في الشام: وفي الشام، تتحدّث بعض المرويّات عن أنّه عليه السلام كان على حاله من العلّة أيضاً(31)، إلّا أنّ الظاهر من سياق الأحداث أنّ حالته قد تحسّنت، خاصّة بعد دخوله إلى الشام، حيث لا نشهد من الروايات ما يذكر مرضه هناك، بل إنّ حديثه مع الناس وخطبته في مجلس الطاغية يزيد، واحتجاجاته على القوم(32)، تدلّ على تعافي الإمام وتحسّن وضعه الصحّيّ.
3- في المدينة: أمّا ما ذكره بعضهم من أنّه عليه السلام عاد من الشام مريضاً(33)، فغريب جدّاً؛ إذ لم نعثر على من ذكرَ مرضَ الإمام عليه السلام في عوده إلى المدينة، بل إنّ الروايات الواردة في كيفيّة دخوله واستقباله الناس وخطبته، لا تشير إلى ذلك إطلاقاً.
•العناية الإلهيّة
وختاماً، فإنّ العناية الإلهيّة والرعاية الربانيّة، تبقى العامل الأساس في حفظ هذا الإمام العظيم، وأمّا مرضه الذي أُصيب به في تلك الأيّام المعدودة، فقد شاءت الحكمة الإلهيّة أن يكون سبباً ظاهراً لاعتقاد القوم أنّ الإمام لا يبقى بعد أبيه عليه السلام، ممّا يكفيهم ذلك عناء قتله، ويأبى الله إلّا أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون.
1.نصّ على مرضه عليه السلام كثيرٌ من المؤرّخين، وأرباب المقاتل، منهم: المفيد في الإرشاد، ج 2، ص 93 و112 و113 و114؛ وابن طاووس في اللهوف، ص 63؛ وابن نما في مثير الأحزان، ص 83؛ والطبري في تاريخه ج 4، ص 293 و317 و318 و347، وغيرهم.
2.أصول الكافي، الكليني، ج 1، ص 303؛ بصائر الدرجات، الصفّار، ص 168؛ الإمامة والتبصرة، ابن بابويه القمّي، ص 63 و64؛ بحار الأنوار، المجلسيّ، ج 45، ص 91 نقلاً عن كتاب النوادر لعليّ بن أسباط.
3.لسان العرب، ابن منظور، ج 13، ص 53 و54.
4.مجمع البحرين، الطريحي، ج 6، ص 215.
5.الإرشاد، (م. س.)، ج 2، ص 114؛ السرائر، ابن إدريس الحلّي، ج 1، ص 158؛ مثير الأحزان، (م. س.)، ص 83؛ إعلام الورى، الطبرسيّ، ص 246.
6.ترتيب كتاب العين، الفراهيدي، ص 285.
7.لسان العرب، (م. س.)، ج 1، ص 385؛ مجمع البحرين، (م. س.)، ج 2، ص 59.
8.المناقب، ابن شهر آشوب، ج 4، ص 142؛ بحار الأنوار، (م. س.)، ج 46، ص 41.
9.إعلام الورى، (م. س.)، ص 252.
10.لسان العرب، (م. س.)، ج1، ص387.
11.الإرشاد، (م. س.)، ج 2، ص 114؛ ومثله الطبرسي في إعلام الورى، ص 246.
12.شرح الأخبار، القاضي النعمان، ج 3، ص 196 و251 و256.
13.لسان العرب، (م. س.)، ج 4، ص 417.
14.شرح الأخبار، (م. س.)، ج 3، ص 156.
15.الإرشاد، (م. س.)، ج 2، ص 112 و113.
16.شرح الأخبار، (م. س.)، ج 3، ص 152.
17.الإرشاد، (م. س.)، ج 2، ص 112، وغيره.
18.ابن سعد، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام ومقتله من القسم غير المطبوع، بتحقيق الطباطبائيّ، ص 78.
19.مطالب السؤول، ابن طلحة الشافعيّ، ص 80.
20.اللهوف، ابن طاووس، ص 63.
21.الفصول المهمّة، ابن الصباغ المالكي، ص 198.
22.شرح الأخبار، (م. س.)، ج 3، ص 252.
23.راجع: الإرشاد، (م. س.)، ج 2، ص 93؛ والطبري في تاريخه، ج 4، ص 318؛ وابن كثير في البداية والنهاية، ج 8، ص 177؛ واليعقوبيّ في تاريخه، ج 2، ص 243 وغيرهم.
24.شرح الأخبار، (م. س.)، ج 3، ص 251.
25.لاحظ المصادر في الهامش الأسبق.
26.مقاتل الطالبيين، الأصفهانيّ، ص 113.
27.وقعة الطفّ لأبي مخنف، بتحقيق اليوسفي، ص 197.
28.ذكره جمع غفير من المؤرّخين والرواة، منهم المفيد في الإرشاد، ج 2، ص 112 و113؛ وابن سعد في الطبقات، ج 5، ص 212؛ والطبرسيّ في إعلام الورى، ص 246؛ والطبري في تاريخه، ج 4، ص 347؛ وابن الصباغ المالكي في الفصول المهمّة، ص 198 وغيرهم.
29.لاحظ: المفيد في الإرشاد، ج 2، ص 114، وابن كثير في الكامل، ج 3، ص 434، والطبرسيّ في إعلام الورى، ص 246، وغيرهم.
30.الأمالي، الطوسيّ، ص 91.
31.شرح الأخبار، (م. س.)، ص 253.
32.انظر في هذا المجال ما نقله الطبرسيّ، من مواقفه واحتجاجاته عليه السلام في الشام، في كتابه الاحتجاج، ج 2، ص 33 وما بعدها.
33.ذكر ذلك الصبَّان في إسعاف الراغبين، المطبوع بهامش نور الأبصار للشبلنجيّ، ص 216، وفيه: كان مريضاً بكربلاء ورجع مريضاً إلى مكّة. انتهى. وهو -لو صحّ- سهوٌ، إذ لم يذكر أحدٌ أنّ الإمام عليه السلام رجع إلى مكّة، بل إلى المدينة كما هو واضح.