مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

منبر القادة: إنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ


الشهيد الشيخ راغب حرب (رضوان الله عليه)


يقول الله تعالى مخاطباً المؤمنين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (الحجرات: 6). الأمر في هذه الآية هو أمر الله، وهو موجّهٌ للذين آمنوا، أن إذا جاءكم فاسقٌ بنبأ (بحديث) فتبيّنوه؛ أي تحقّقوا أوّلاً ولا تأخذوا به قبل ذلك.

•من هو الفاسق؟
الفاسق هو الإنسان الذي لا يراقب الله في قوله ولا في عمله، وليس كلّ من ارتكب معصيةً، كما هي الحال بالنسبة إلى العدالة، والتي هي الاستقامة على جادّة الشريعة المقدّسة؛ فليس كلّ مستقيمٍ على جادة الشريعة لا يقع في الخطأ، وإنّما المستقيم على جادّة الشريعة إذا وقع في الخطأ، ذكر الله سريعاً فاستغفر لذنبه، وهذا معنى الآية الكريمة: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا﴾ (آل عمران: 135). إذاً، ليس كلّ مخطئٍ فاسقاً، وإنّما الفاسق هو الذي لا يراقب الله في القول ولا في العمل؛ بمعنى أنّ الفرق بين العادل والفاسق، هو أنّ العادل إذا أراد أن يقول قولاً أو يعمل عملاً فكّر فيه، فإذا وجده وفقاً لمرضاة الله حدّث أو قام به، وإذا وجد أنّ فيه سخطاً لله أحجم عنه، فإن حصل أنْ وقع في زلّةٍ وخالف رضى الله، آبَ إلى الله ورجع إليه.
أمّا الفاسق فهو الذي إذا خطر في ذهنه أن يقول قولاً، قاله بدون أن يفكّر أبداً إذا كان فيه رضى لله أو لا، وإذا صادف أنّه مُرضٍ لله، فيكون ذلك صدفةً وبدون قصد، وإذا صادف أنّه مغضبٌ لله، فلا مشكلة لديه في ذلك.

•لماذا لا يؤخذ بحديث الفاسق؟
يعتاد الفاسق على الكذب، سواء أكان له مصلحة فيه أم لا، فليس عدم وجود المصلحة دليلاً دائماً على الصدق؛ ومنشأ ذلك أنّه يقوم أحياناً بتزيين الكلام وترميمه من هنا وهناك ليكون مقبولاً للمستمع، لا مصلحة أخرى. إذاً، اعتياده الكذب هو جانب من جوانب عدم قبول قوله. أمّا الجانب الثاني، فهو عدم جعل لسانه مرتبطاً برضى الله، فهو لا يراقب الله في قوله وفعله، وإنّما لسانه ينفث بواسطته الشيطان، والأخير قد يحرّكه في اتّجاهاتٍ كثيرة.

هنا، يقول الله تعالى: ﴿أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ﴾ (الحجرات: 6)؛ في كثيرٍ من الأحيان، إنّ الاعتماد على قول الفاسق يؤدّي إلى إصابة قومٍ بجهالة. صحيح، أنّ الفاسق قد ينطق بالحقّ أحياناً، ولكن عندما يختلط الصحيح بالخاطئ، لن نتمكّن من تمييز ما هو صحيح حينها؛ فلذلك لا يؤخذ بشهادته.

•التفكير قبل القول والفعل
إذا حدّث الفاسق بحديث، يُحتمل أن يكون الحديث صحيحاً، ولكن يُحتمل أيضاً أن لا يكون صحيحاً، بالتالي، لا يجب نقل كلّ حديثٍ صحيحٍ.

إذا أراد المؤمن أن يحدّث بحديث صادق، فكون الحديث صادقاً ليس بالضرورة أن يكون صحيحاً. مثلاً: إذا رأيتُ في الطريق الآن رَجُلين يختصمان، من دون أيّ تفكير سأقول: فلان وفلان يتقاتلان. ولا أفكّر في أنّ قولي هذا قد يحرّك فلاناً ضدّ فلان، وقد تخرج العمليّة عن دائرة الإصلاح! المؤمن لا يفعل ذلك، بل المؤمن إذا ما رأى حادثة معيّنة، يفكّر مليّاً قبل أن يتحدّث عنها أمام أحد، ويفكّر في إيجابيّات كلامه وسلبيّاته. والمؤمن لا ينقل الحديث كيفما اتّفق لمجرّد أنّه حديثٌ صحيح.

بعض الناس يُوغِلون في أكل لحوم الناس بالغِيبة، فإذا استنكرت على أحدهم يقول: "أنا لا أكذب. أنا أنقل ما حصل تماماً"! صحيح أنّك نقلت ما حصل تماماً، ولكنْ من الذي كلّفك بذلك؟ من كلّفك أن تهتك الأستار؟ ما هي مصلحتك؟ ما هو هدفك؟ طالما أن لا مصلحة ولا غاية في ذلك، ما سبب هذا الكلام؟

يجب أن يكون هناك غاية ودواعٍ من حديثه. فالفاسق يستأنس بنقل حديثٍ ما، ولا يراعي أبداً سلبيّاته وإيجابيّاته.

•المؤمن يتوخّى الدقّة
من يعتَدْ على الاعوجاج، يصبح الاعوجاج جزءاً من طباعه، ومن يعتَدْ على الاستقامة، تصبح الاستقامة جزءاً من طباعه أيضاً، فيتوخّى الدقّة لا شعوريّاً، وقد تصبح هذه الصفة مع الزمن خُلُقاً.

المؤمن في الأصل شخص مستقيم، يتوخّى الدقّة والأمانة، لذلك، إذا سمع حديثاً ما أو رأى حدثاً معيّناً، فإنّه يتوخّى الحقيقة فيه، وإذا أراد نقله، فإنّه ينقله بعد غربلته. والله تعالى علّم المؤمنين أن لا ينقلوا كلّ ما سمعوه، بل أن يردّوه إليه سبحانه، وإلى الرسول، وأولي الأمر.

فإذا سمعتُ خبراً يتعلّق بالشؤون الأمنيّة مثلاً، يجب أن لا أنقله بشكل عشوائيّ، وخصوصاً بوجود ظرف أمنيّ خاصّ، بل أطلب من الأشخاص المعنيّين في مجال الأمن التحقّق من صحّة الخبر. هذا هو الأسلوب السليم، وهكذا يتصرّف المؤمن.

أمّا الفاسق، فقد يكذب وهو لا يقصد الكذب، نتيجةً لعدم دقّته في السمع وفي النظر، ولأنّه معتاد على نقل الأشياء على غير حقيقتها وكما يراها هو، ودون الالتفات إلى أبعادها: ﴿لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحج: 46).

•الذنوب وسواد القلب
يجب أن تنتبهوا إلى أنّ الذنوب والمعاصي تؤثّر على القلوب. وليس المقصود هنا القلب كعضو، وإنّما العقل الذي يسيّر الإنسان. فيما يُروى عن آل البيت عليهم السلام، أنّ الإنسان إذا عصى ربّه، نُكت في قلبه نكتةٌ سوداء -طبعاً السواد هنا يُقصد به السواد المعنويّ- فإذا لم يستغفر الله، استمرّت بالاتّساع إلى أن يصل الأمر إلى أن يَرِين على قلبه: ﴿بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ (المطففين: 14)؛ أي يصبح على قلبه غطاء وحجاب كثيف من كثرة الذنوب، فلا يبقى معه مجال للاستقامة.

•المعصية تخنق صاحبها
يقول الله تعالى: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ﴾ (الروم: 10). من يعصِ الله عزّ وجلّ ثمّ لا يتوب إليه، تستمرّ المعصية في سحبه إليها، إلى أن توصِلَه لتكذيب الله أو تكذيب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. ومن كذّب الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّ مصيره النار خالداً فيها، وهي ليست مسألة يوم أو يومين، وإنّما الخلود! فالمعصية مثل الحَلَقة، يضعها الفرد حول رقبته ويثبّتها بحبل، ويسلّم الطرف الثاني للشيطان، وهو يعتقد أنّه سيتخلّص بسهولة من تلك الحلقة، ولكنّه لا يدرك أنّ الشيطان إذا أحكم قبضته عليها، فلن يفلتها، بل كلّما زادت قبضته إحكاماً، تطلّب ذلك بذل المزيد من الجهد للتخلّص منه.

•"الله يغضب عليك"
ثمّة قصّة شهيرة تتحدّث عن رجل له ولدان: أحدهما يكذب دائماً، والآخر يكذب أحياناً، ويقول الحقيقة أحياناً أخرى. كان الوالد يقول لابنه الذي يكذب أحياناً: "الله يغضب عليك"، وللذي يكذب دائماً: "الله يرضى عليك"! فسأله أحدهم: "كيف يعقل أن تترضّى على ابنك الذي يكذب دائماً، ولا تفعل ذلك مع الآخر الذي يكذب أحياناً؟"، فأجابه: "لأنّني أعرف مسبّقاً أنّ كلامه كلّه كذب بكذب، وهذا ما يريحني لأنّه لن يورّطني، أمّا الآخر فقد يورّطني لأنّني لن أميّز كذبه من صدقه". فالإنسان الذي يكذب مرّةً واحدة فقط، قد يصعب تصديقه بعدها.

•الإسقاط المعنويّ
لذلك، فإنّ الله تعالى يُسقط -في بعض الأحيان- عدالة الإنسان إلى الأبد، كما في حالة: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء﴾؛ ما هو حكمهم؟ أوّلاً: ﴿فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾؛ حتّى يتعلّم لسانه كيف ينطق بالحقّ في المرّات القادمة، ثانياً: ﴿وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً﴾ (النور: 4)؛ الحكم يقضي هنا بعدم تصديقهم أبداً وعدم الأخذ بشهادتهم، وهذه العقوبة هي نوع من الإسقاط المعنويّ في الدنيا.

•﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾
يخاطب الله تعالى الرسول محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ...﴾ (المنافقون: 1)؛ أي أنّ الله يعلم ذلك، وهو ليس بحاجة إلى شهادة ذلك الشخص المنافق. تصوّروا إلى أين وصلت درجة رفضه لشهادتهم، ﴿وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ (المنافقون: 1). وهكذا، فإنّ شهادة المنافقين "أنّ محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول الله" مرفوضة ومكذّبةٌ من الله. ومَن كذّبه الله، فلن يصدّقه أحدٌ في الدنيا.

فمن جاء بنميمة، حتّى لو كان يصلّي، ويصوم، ويحجّ، ويزكّي، ويجاهد في سبيل الله، فإنّه فاسق، وفعله هذا يُسقط عدالته.

تخيّلوا لو انتشرت هذه الآفة بين الرجال والنساء، كيف سيكون حال المجتمع عندها؟ ومن سيستطيع العيش في مجتمع كهذا؟ لا أحد؛ لأنّ عيوب الإنسان فيه لا تُستر، وإنّما يتمّ فضحها باستمرار.

•خمس دقائق للتفكير
إذاً، يجب أن نعتاد على وضع ضوابط للسان والأذنين؛ فليس كلّ ما نراه ونسمعه يجب أن نتحدّث عنه. من هنا، أدعو الجميع إلى التفكُّر يوميّاً خمس دقائق فقط، بكلّ ما قالوه وفعلوه خلال اليوم؛ أين كان يجب أن يتأنّوا؟ أين تسرّعوا؟ ماذا كان يجب أن يقولوا أو لا يقولوا؟ أين أصابوا وأين أخطؤوا؟ الدقائق الخمس هذه لا تكلّف أيّ جهد أو عمل، فهي دقائق للتفكير ولمحاسبة النفس، وهي قد تقرّبنا إلى الله تعالى. وبعد هذه المحاسبة، إذا وجد الإنسان نفسه مخطئاً، يستغفر الله.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع