السيّد حسين أمين السيّد
ذكر أهل اللغة أنّ الطلب من الآخر إذا كان موجّهاً من الأعلى مقاماً إلى الأدنى سُمّي أمراً، ومن المساوي إلى صنوه سُمّي التماساً، وأمّا من الأدنى مقاماً إلى الأعلى فهو الدعاء.
ويبقى الخطاب الأرفع والأروع هو خطاب العاشق لمعشوقه والمحبّ لحبيبه؛ فحتّى صيغة الدعاء فيها طلب، ولكن منطلق هذا الخطاب مع المحبوب وما يشتمل عليه من طلب هو حجّة وذريعة ابتدعها العاشق ليخاطب معشوقه، وهذا أرفع درجات الدعاء، وهو ما يصدق على أدعية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام.
•الأحبّ إلى الله
إظهاراً لصفات الله سبحانه (العالي، المعطي، المغني...)، أمرنا عزّ وجلّ أن نتوجّه بوجودنا الفقير كلّه إلى ساحة كرمه وغناه، فقال سبحانه في كتابه العزيز: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ (غافر: 60)، وقال كذلك: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾ (الفرقان: 77). وجميل الكلام، أنّ الغنيّ القويّ هو الذي طلب من الفقير المحتاج أن يتوجّه إليه بالطلب والسؤال حتّى يستجيب له، ويلبّي حاجاته، ويسدّ نقصه وفقره، فقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام: "ما من شيء أفضل عند الله عزّ وجلّ من أن يُسأل ويُطلب ممّا عنده، وما من أحد أبغض إلى الله عزّ وجلّ ممّن يستكبر عن عبادته ولا يسأل ما عنده"(1). ومن هذا الأمر الإلهيّ بضرورة الطلب من العبد، مع علمه سبحانه بحاجاته كلّها وما يريده، نستشعر أنّ الله يحبّ توجّه عبده وانقطاعه إليه، وسماع صوته. ومع أنّه تعالى يعلم السرّ وأخفى، لكنّه سبحانه يحبّ من عبده أن يضع سرّه عنده وهمومه بين يدَيه.
•الإعراض عن الدعاء
إنّ إعراض العبد عن الدعاء مردّه إلى استكباره وطغيانه وتوهّمه بالاستغناء، كما توهّم إبليس، فرفض عند ذلك السجود لله سبحانه. فالدعاء يستبطن هذه المعاني السامية لإيمان الإنسان واعتقاده بالله سبحانه، وهو بحقّ كما وصفته الروايات "سلاح المؤمن"، فعن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا أدلّكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم ويدرّ أرزاقكم؟ قالوا: بلى، قال صلى الله عليه وآله وسلم: تدعون ربّكم بالليل والنهار، فإنّ سلاح المؤمن الدعاء"(2)، وعن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام: "عليكم بسلاح الأنبياء، فقيل: وما سلاح الأنبياء؟ قال عليه السلام: الدعاء"(3).
•جهل العبد بصالحه
لعلّ الكثير من العباد يختلج في صدورهم الخوف من عدم الاستجابة مع كثرة الدعاء والطلب. فمضافاً إلى الوعد الإلهيّ باستجابة دعاء كلّ مَن دعاه وكلّ ما دعي به ولأجله؛ لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ (البقرة: 186)، فإنّ العاشق لا بدّ من أن يلتفت لمعتقده بمعشوقه؛ لأنّ الأصل عنده الطلب من معشوقه والحديث معه، سواء استُجيب طلبه أم لا؛ فلا ييأس ولا يُعرض عند شعوره بعدم الاستجابة، لأنّه ما من شيء يُدعى عدم استجابة للدعاء، وإنّما عدم تلبية لما يتعلّق بمصلحة العبد الجاهل لمصالحه؛ فكم دعونا أن نملك سيّارة وإذ بها تتحوّل إلى نعش بعد حادث، وكم تمنّينا المال وإذ به مصحوب بالهمّ والغمّ والمرض، ومع ذلك نريد الاستجابة، وننسى أنّه سبحانه قال: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ (غافر: 60). والياء في كلمة ﴿ادْعُونِي﴾ نسبةً إليه عزّ وجلّ، وأكثرنا ندعو ونبيّن ما نريد، وغالباً لا نلتفت إلى مَن نطلب منه ونريد؛ فهمّنا ما نريد، وننسى مَن نريد.
•حالات أهل الدعاء والاستجابة الإلهيّة
1- امرأة فرعون
ورد في القرآن الكريم الكثير من الآيات الكريمة التي تعرض لنا حالات أهل الدعاء والاستجابة الإلهيّة، مثل قوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (التحريم: 11)؛ ففي حين أنّها كانت في أعظم بيوت زمانها وفي أعلى منصب وحكم وسيطرة، إلّا أنّ قلبها كان متعلّقاً بالله سبحانه، فطلبت بصدق وإخلاص أن تسكن بيتاً فيه رضاه وقربه، فكان الجواب أن وصلت بالشهادة إلى ما أرادت.
في هذا المثل، ذكر الله الدعاء الذي دعت به آسية بنت مزاحم ولم يذكر النتيجة والاستجابة للدلالة على أنّ مجرّد الدعاء يكفي لحصول الاستجابة القطعيّة.
2- سرّ إبراهيم عليه السلام
يتجلّى عظيم الدعاء والاستجابة في ما حصل مع خليل الله إبراهيم عليه السلام، فقد ذكر القرآن الكريم: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ﴾ (الأنبياء: 69). وورد عن السيّدة الزهراء عليها السلام دعاء طويل علّمها إيّاه النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ورد فيه مقطع مهمّ جدّاً يكشف عن سرّ لم يُذكر في الآية الكريمة، وهو أنّ الله سبحانه قال في الآية: ﴿قُلْنَا﴾، ولكن لم يبيّن ما قاله إبراهيم عليه السلام حتّى استجاب له سبحانه، فقال: ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾"، فبقي ما قاله إبراهيم عليه السلام سرّاً من الأسرار، مع العلم أنّ القرآن نقل الكثير من أدعيته عليه السلام إلّا هذا الدعاء فمسكوت عنه.
3- خير ما أُنزل
من أجمل الأدعية المرتبط بعظيم الاستجابة، ما ذكره القرآن الكريم عن نبيّ الله موسى عليه السلام، من قوله: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ (القصص: 24). فهذا الدعاء المختصر كان من نتيجته أن تزوّج النبيّ موسى عليه السلام من ابنة نبيّ من الأنبياء، وأصبح مالكاً لقطيع بعد أن كان أجيراً، وأصبح عظيماً يخافه فرعون على ملكه، وأصبح المخلّص لقومه، و... فانظر إلى عظمة استجابة دعاء النبيّ موسى عليه السلام.
4- صبر أيّوب عليه السلام
ما حصل مع نبيّ الله أيّوب عليه السلام كان مثالاً للصبر والتحمّل؛ فعلى الرغم من تراكم المصائب والبلايا عليه، من فقدانه لزوجته وأولاده وداره وأملاكه، ومرضه الذي أقعده، لكنّه لم يعترض أو يتأفّف أو يتذمّر، ولم يشتكِ إلى الله كثرة المصائب، بل طلب إليه سبحانه، وبكلّ حياء وخجل، أن يرحمه، وترك أمر الحلّ بيده تعالى، وهذا كمال الانقطاع والطاعة، وهو ما ورد في قوله تعالى: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (الأنبياء: 83).
•أهل الدعاء
قد يرى بعضهم عدم ضرورة التقيّد بأدعية مخصّصة ومنقولة عن أحد من الأئمّة عليهم السلام، فيكفي الدعاء بما يشعر به الإنسان وينطلق من قلبه؛ وهذا صحيح في المبدأ، إلّا أنّ الإنسان العاقل يعلم أنّه بدلاً من أن يرهق نفسه في البحث عن الطريق، عليه أن يتمسّك بمَن يرشده إليه. وإنّ الأدعية الواردة عن أهل الدعاء والسبل إلى الله تعالى هي الباب المؤكّد والمضمون. لذا جاءت الروايات المانعة من تأليف الأدعية وابتكارها من غير أهلها.
•الدعاء مفتاح السماء
تبيّن بعض الروايات، أنّ الدعاء مفتاح السماء، فكلّ صاحب حاجة لا بدّ له من مفتاح خاصّ؛ فالطالب للرزق لا ينفعه دعاء الطالب للشفاء من المرض، وهنا يحضرني ما كان يوصي به أحد العلماء، أنّ المناجاة الخمس عشرة للإمام زين العابدين عليه السلام هي وصفة طبّيّة لعدد من الأمراض، فمن كان من أهل الذنب، فالدواء مناجاة التائبين، ومن يعاني من قسوة القلب، فعليه بمناجاة الشاكين، وهكذا. والنتيجة التي نصل إليها أنّ التوسّل بالدعاء الوارد عن المعصومين عليهم السلام هو الأضمن والأنجع. وسنذكر بعض الأدعية التي ذكرها القرآن الكريم نقلاً عن عباده المخلصين، لتكون لنا باباً نخرق من خلاله حجب النور لنصل إلى معدن العظمة:
1- دعاء نبيّ الله آدم عليه السلام وزوجه حوّاء عليها السلام: ﴿قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (الأعراف: 23).
2- دعاء نبيّ الله نوح عليه السلام: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ (نوح: 28).
3- دعاء نبيّ الله أيّوب عليه السلام: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (الأنبياء: 83).
4- أدعية نبيّ الله إبراهيم الخليل عليه السلام:
- ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ (إبراهيم: 41).
- ﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (الممتحنة: 5).
5- دعاء نبيّ الله يوسف عليه السلام: ﴿أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ (يوسف: 101).
6- دعاء نبيّ الله موسى عليه السلام: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي﴾ (طه: 25- 27).
•كنوز نورانيّة
في الختام، لا بدّ من الحمد والشكر لله الكريم المنعم على ما وصلنا على لسان النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الأطهار عليهم السلام من عظيم أدعية صافية نورانيّة. فبلمح البصر، وقبل أن نقوم من مقامنا، أو يرتدّ إلينا طرف، يحضر بين أيدينا المأثور من أدعية الإمام السجّاد عليه السلام من الصحيفة السجّاديّة والمناجاة ودعاء أبي حمزة الثماليّ، وكذلك أدعية الأمير عليه السلام من دعاء كميل ودعاء الصباح، وهكذا عن لسان جميع الأئمّة الأطهار عليهم السلام.
1.مكارم الأخلاق، الطبرسيّ، ص 311.
2.أصول الكافي، الكلينيّ، ج 2، ص 467.
3.(م.ن.).