نسرين إدريس قازان
اسم الأمّ: نجاح علي حدرج.
محلّ الولادة وتاريخها: سحمر 5/12/1996م.
الوضع الاجتماعيّ: عازب.
رقم السجل: 89.
مكان الاستشهاد وتاريخه: القلمون، سدر البستان 28/7/2014م.
ملأت رائحةُ البخور مسام روحها، ومشت بين القبور تمسحُ دمعات مجلس عزاء، عندما لمحته واقفاً يتّكئ على درّاجته الناريّة، وعرفت من ثيابه أنّه قد وصل لتوّه من الدورة العسكريّة الأخيرة التي التحق بها، فتسارعت خطواتها ناحيته وهو يقترب منها فاتحاً ذراعيه ليضمّها بشوق كلّ الأيّام التي مرّت، والأيّام التي ستأتي، وزاد بكاؤها وهي تتلمّسُه، ثمّ نظرت إليه مبتسمة، وداعبت لحيته بأصابعها: "لقد اكتملتْ لحية القمر.. أخبرتُهم في البيت أنّك ستعود بلحية مكتملة"!
•أمارات الشهادة
لم تكن لحية عليّ في دورته الأولى قد نبتت بعد، وتوقّع والداه بعد عودته أن يتراجع عن قرار التحاقه المبكِّر بصفوف المجاهدين، لما سيكابده من جهدٍ بدنيّ مرهِق، ولكن عودته أُلحقتْ بدورتَين، كانتا كفيلتَين بأن تعيداه رجلاً ذا لحية مخطّطة جميلة، ولم يكن قد أكمل الثامنة عشرة من عمره، وأعقبها بغيابٍ وحيدٍ، رجع على إثره شهيداً.
لم يتفاجأ والده من خبر الاستشهاد، فقراءته المتعاقبة لسلوك عليّ أوصلته إلى هذه النتيجة، فكلّ ما فعله ولده منذ صغره كان مقروناً بالوعي، وهذا ما جعله غالباً ما يرافق مَن يكبرونه سنّاً، لتكون الصداقة أكثر من مجرّد رفقة، بل فيها نوعٌ من التعلّم المقرون بالحكمة. أمّا أمّه، فمنذ أن جاءها ضاحكاً مسروراً ليبلغها بقبول طلب الانتساب إلى المقاومة، وكانت حينها تفترش سجّادة صلاتها، أدركت أنّ عليها البدء بتوطين نفسها على غيبات طويلة، وعلى خبر رحيل صغيرها يوماً ما، ولكنّ التوقيت الذي اختاره عليّ فاجأها كما الجميع، فرحلة جهاده كانت قصيرة جدّاً!
•طفل المسجد
غياب عليّ الأوّل عن المنزل كان وهو في عمر التاسعة، عندما رجع والده من عمله إلى البيت ليجد العائلة تحاول العثور عليه؛ لأنّه لم يعد من المدرسة، فتوزّعوا للبحث عنه في الدائرة الضيّقة من جيران ورفاق، فأرشدهم رفيقه إلى المسجد؛ لأنّ عليّاً كان يقصد المسجد مباشرة بعد المدرسة، وفعلاً وجده والده في إحدى زواياه نائماً يتوسّد حقيبته!
تأثّر الأب كثيراً بتعلّق ولده بالصلاة في المسجد، وأنّبه ضميره على عدم قيامه بذلك، مع أنّ ظروفه العمليّة والصحيّة، لم تساعداه على ذلك، ولكنّ مراقبة سلوك ولده جعلته يعقد العزم على تحيُّن الفرص للذهاب والصلاة هناك.
•خدمة الأهل والناس
ملأ عليّ أيّامه بما كان يراه الناس بسيطاً وعاديّاً، ولكنّه في حقيقته عظيم؛ فلهفته لمساعدة الناس في حمل أشيائهم، أو سؤال مَن حوله عن حاجتهم إلى مساعدة ما، وهمّته في ذلك، أنبتت في قلوب الجيران محبّة لهذا الصبيّ المتميّز. أمّا في البيت، فكان يساعد والدته في شؤون المنزل، من خلال مراقبتها والتعلّم منها، دون الخجل من قيامه بذلك أبداً، خصوصاً وأنّ أمّه كانت في بعض الأحيان تذهب لمساعدة والده في الفرن. وفي كثير من المرّات، تلوح أمام ناظريها، في طريق عودتها إلى البيت، الثياب المغسولة معلّقة على الحبال، فتبتسم ويفرح قلبها لعمله، الذي وإن لم يكن متقناً، ولكنّه مليء بالحبّ، فكانت تترك الغسيل على ما هو عليه.
•حياة جديدة
انتقلت العائلة من منطقة المريجة، حيث ولد عليّ ونشأ، إلى القرية بسبب أعباء الحياة، وهناك وضعت مخطّطاً واضحاً لحياتها؛ كلّ فرد منهم أخذ دوره، فترك عليّ لإخوته مساعدة والدهم في الفرن، وانتقل هو للعمل في كلّ ما تيسّر له: في الكهرباء، في البلاط، في الباطون، لا يهمّ، ما هو مهمّ أن يدّخر القليل للمعهد الذي انتسب إليه لدراسة المحاسبة، ولشراء ما يحتاج إليه المنزل.
•نحو الجبهة
هذه الشخصيّة المتواضعة والزاهدة في جميع شؤون الدنيا، لم تستطع الانتظار عندما دقّ نفير الدفاع عن المقدّسات، فعقد العزم على الالتحاق بالمجاهدين، بعد أن مال قلبه ميلة واحدة نحو الجبهة. لم يعارضه أبوه، وكيف يعارضه وهو في أكثر من مكان لمس في ولده ذلك الانقياد للوصول، حتّى عندما ألحقه بالكشّافة، لم يذهب عليّ سوى مرّات قليلة، ولمّا سأله عن سبب انقطاعه، أجابه بأنّ ما يريده هو أكبر من ذلك، ما يريده هو الجهاد في ساحة المعركة.
•الوصايا الأخيرة
أمضى عليّ معظم أيّام شهر رمضان المبارك في العمل، وقد تسنّى له قضاء بضعة أيّام مع أهله. وخلال هذه الفترة القصيرة، زار أقاربه كلّهم، وتفقّد جميع معارفه، وحاول تأمين احتياجات أهله، حتّى إنّه أوصى أمّه بأن تنبّه أخاه ألّا يستخدم الدرّاجة الناريّة؛ لأنّه اكتشف خللاً ما فيها، وطلب إليها أن تبتاع لأختيه ثياباً من راتبه، وهي أمام ذلك كلّه تنظر بصمت وترتقب!
في الجبهة، كان عليّ يخدم رفاقه، حتّى إنّه اهتمّ بتشذيب لحاهم أوقات الاستراحة. وفي القتال، كان شجاعاً مضحّياً ثابتاً لم يتزلزل قلبه، إلى أن استشهد بقذيفة سقطت بالقرب منه.
•الرحلة الأخيرة
كان عرسه جميلاً. نثرت أمّه فوق جثمانه أوراق الورد، عطّرتها بحرقة القلب، وضمّه والده إليه فخوراً ومسروراً أنّ صغيره قد نال ما يصبو إليه، وهو يستحقّ ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.