الأستاذ الشيخ مصباح اليزدي
ذكرنا سابقاً وجوب تحكيم القانون الإلهي في المجتمع الإسلامي، وأنه لا حق لأحد بوضع القانون بدون إذن الله المتعال. فأينما وجد مجتمع مسلم وحكومة إسلامية ينبغي الأخذ بالقوانين الإلهية. ولا يختلف هذا الأمر من ناحية الزمان والمكان والأشخاص. وهذا الأمر يطرح عدة أسئلة جلية، فطالما أن قانون الله واحد لماذا نجد في كل مجتمع إسلامي قانوناً خاصاً به؟ أو أننا نرى في المجتمع الواحد أن أهل القانون أو مراجع التشريع يمتلكون آراءاً مختلفة حول القانون الإسلامي! أو أن القانون يسري في المجتمع لفترة ما ويتم تغييره! وببيان آخر: إذا كان الواجب تحكيم قانون إلهي واحد في المجتمعات الإسلامية فبماذا نفسر هذا الاختلاف أو التغيير الحاصل في القانون؟
أولاً: ينبغي الإلتفات إلى أن للقانون الإلهي مقام ثبوت ومقام إثبات. فحقيقة قانون الله هو الإرادة التشريعية الإلهية، أي ذلك الأمر الذي يريده الله تعالى من عباده، فهذا هو قانون الله، ولكن ليس جميع البشر مطلعين على هذه الإرادة التشريعية. فهم لا يعلمون في كل زمان ومكان ماذا يريد الله منهم. فما تعلقت به الإرادة الإلهية (أي المقام الثبوتي) لا اختلاف فيه، بل إنما يحصل الاختلاف في مقام الإثبات. ولو ابتعد الأفراد عن اتباع هوى النفس لاستطاعوا أن يزيلوا الاختلافات من خلال الطرق المقترحة.
*طرق الكشف عن القوانين الإلهية
إذا أردنا الكشف عن الإرادة الإلهية وفهم قانون الله، يوجد عدة طرق:
1- العقل
قد يكشف الناس أحياناً من خلال حكم العقل الواضح ماذا يريد الله منا، سواء أتتهم الرسل وأنزلت إليهم الكتب أم لا، فإنهم يفهمون بواسطة العقل ما هو الأمر الذي يرضي الله تعالى. من جملة الأمور التي تقع مورد كشف العقل وهي من أعم المواضيع مسألة "العدل والظلم". وصحيح أن مصاديق العدل والظلم ليست واضحة دائماً ولكن الإنسان يمكن أن يدرك بعضها ويعرف أن العدل محبوب عند الله وأن الظلم مبغوض لديه. وحتى لو لم يصل إلى هؤلاء قانون شرعي مصطلح، فإنهم يدركون أن الله يرضى عن هذا الفعل ويبغض الآخر. فهنا يكشف قانون الله بواسطة حكم العقل الصريح. وفي الفقه يوجد الكثير من الموارد التي يستدل الفقهاء عليها من خلال "المستقلات العقلية". ولهذا نقول أن أحد الأدلة الشرعية هو العقل. ولكن، ما هي منزلة العقل في الفقه الإسلامي؟ وما هي حدود قدرته على كشف الأحكام الشرعية؟ فهذا ما يتطلب أبحاثاً مستفيضة ينبغي إيكالها إلى مكان آخر. ولكنا نعلم إجمالاً أنه في فقه الإمامية يقال أن العديد من الأحكام العقلية الواضحة (أي ما يسمى في أصول الفقه بالمستقلات العقلية) يمكن أن تكون كاشفة عن الحكم الشرعي. وهذا أول طريق لتشخيص حكم الله. أفرضوا أن هناك أناساً يعيشون في جزيرة لم يصل إليها الإسلام، ولكنهم يفهمون بحدود عقلهم ما هي الأعمال التي يجب أن يقوموا بها وما هي الأمور التي ينبغي أن يجتنبوها ليرضى خالقهم عنهم، مثل هؤلاء الأفراد مستضعفون بالنسبة للأحكام الشرعية، لأنهم كانوا بمعزل عن تبليغ علماء الدين والدعوة إلى الواجبات الفردية والاجتماعية، ولكنهم مسؤولون تجاه ما وصل إليه عقلهم وسوف يحاسبون عليه. لأن استضعافهم كان بدرجة لا تمكنهم من كشف الحكم الإلهي، ولكن ما وصلوا إليه بعقولهم وتيقنوا أنه مورد رضى الله تعالى فإن العمل به واجب عليهم، وكذلك إذا علموا أن الأمر الفلاني مبغوض عند الله يجب عليهم تركه. وأؤكد هنا على أن ما عنيته من فهم المسائل بواسطة العقل لا يعني أن كل إنسان يمكنه أن يقول أن ما وصل إليه ذهني فإن عقلي يحكم به وهذا هو حكم الله! فهذه هي البدعة التي تعرضت لها رواياتنا تحت عنوان القياس والرأي وحاربتها بشدة. فالمقصود من حكم العقل هو الحكم العقلي الذي يدركه جميع العقلاء بدون شك وترديد. فهنا يكوم حكم العقل حجة كاشفاً عن الحكم الشرعي.
2- الوحي
الطريق الثاني لكشف قانون الله هو الوحي. وهو الكلام الذي أنزله الله تعالى على نبيه وبلّغه للناس. والكلام الإلهي في الإسلام هو القرآن، وفي الشرائط والأديان السابقة كان في قالب التوراة والإنجيل و... الكتب الإلهية التي أنزلت على انبياء من أولي العزم. فهذه الكتب هي الوحي الإلهي الكاشفة عن الإرادة التشريعية. ولكن بعد ظهور نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم فما هو معتبر لجميع البشر هو القرآن الكريم.
3- حديث المعصومين
إن كلمات النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وكلمات الأئمة المعصومين سلام الله عليهم وفق عقيدة الشيعة هي الكاشفة بعد القرآن عن الإرادة التشريعية لله، وفي الحقيقة عن القانون الإلهي. أي عندما يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو الأئمة المعصومون عليهم السلام بالقيام بعمل ما أو ينهون عنه فهو حجة على الناس، وحجية هذا الأمر ثابتة بصريح آيات القرآن الكريم. وهذا ما يسمى بالاصطلاح الفقهي "بالسنّة" وهي قول المعصومين عليهم السلام وأفعالهم وتقريراتهم. فإذا تعرفنا على شيء من هذه الأمور، وهي العقل والوحي والسنّة يشكل قطعي فهذا كاشف عن القانون الإلهي. وهنا ينبغي إضافة هذا الطريق وهو أن هذه الأمور مجتمعة لا تضاد فيها ولا تناقض، بل هي طرق تكشف عن حقيقة واحدة ولذلك لا يمكن أن يكون بينها أي تناقض أو تضاد. وهذه هي القاعدة الملازمة المعروفة: "كل ما حكم به العقل حكم به الشرع، وكل ما حكم به الشرع حكم به العقل". وكذلك فإن الإحكام التي تأتي من هذا الطريق لا يمكن أن تتعرض للاختلاف أو التغيير أو التحول. فحيث يكون مفاد الحكم العقلي القطعي، أو مفاد الآيات والروايات المتواترة، فإن الأحكام التي ننسبها للإسلام تكون قطعية، ولا يمكن أن يكون فيها أي اختلاف. وكل إنسان منصف، لو صول إلى هذه الدلائل وأعمل عقله لأجل الفهم الصحيح للآية والرواية فسوف يصل إلى اليقين.
فهذه ضروريات الدين وقطعياته عرفت في جميع المذاهب وعلى مر العصور ولا خلاف فيها، وإذا أظهر أحد خلاف ذلك فإنه يكون قد ابتدع شيئاً وهو يريد أن يشق الدين. وفي الكتاب الفقهية- سواء عند الشيعة أو السنّة- نجد العديد من المواضيع التي لا اختلاف فيها. فالجميع نقلوا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفهموا معنى واحداً ولم يترددوا في تاريخ الإسلام بقيت محفوظة عند الفرق الإسلامية بدون أي اختلاف. من هذه الأمور التي لم تكن لتخطر ببال اتفاق الرأي الذي حدث مؤخراً بين فقهاء الإسلام- شيعة وسنّة- حول كتاب "آيات شيطانية"، فمن المعلوم أن الجميع يحكمون على من يسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإهدار دمه. فهذا حكم إسلامي ثابت مستفاد من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهنا لا يوجد آية قرآنية أو حكم عقلي قطعي، ولكنه أمر مستند إلى سنة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. وفي هذا الخصوص لا نجد أي اختلاف بين المذاهب الإسلامية. فليس صحيحاً إذن أن جميع الأحكام الإسلامية كانت في معرض الاختلاف أو التحول، بل هناك إحكام قطعية مشتركة كالصلاة والصوم والحج و... وبعبارة أخرى يوجد سلسلة من الأحكام والقوانين الإلهية ثابتة وغير متعيرة قطعاً. وهذا القطع إما أنه بواسطة حكم العقل أو صريح القرآن أو السنة الشريفة. وفي هذه السلسلة من الأحكام السماوية لا يوجد أي اختلاف، ولم يحصل أي تغير في فهمها ومعرفتها ولن يحصل. وأولئك الذين ادعوا مسألة التغير في هذا القسم من الأحكام، قد وقعوا في خطأ فادح.
* رأي الفقيه الأعلم
يوجد بعض الموارد التي لا نملك بصددها حكماً عقلياً قطعياً أو دليلاً من الكتاب والسنة. وبالطبع يرجح العقل شيئاً في هذه الموارد، ولكنه لا يستطيع أن يقطع بأن هذا هو حكم الله ولا غير، وكذلك في موقع الرجوع إلى القرآن والسنة لا تكون جهة الفهم واستنباط الحكم الإلهي يقينية، ولا نقطع عندها بأن ما فهمناه هو حكم الله أو قصد النبي والإمام. ففي مثل هذه الموارد ما هو التكليف؟ وما ينبغي فعله؟
هنا ينبغي إجراء "مبنى العقلاء" الذي استعملناه في المعارف الأخرى على التوضيح التالي: في الموارد التي لا يوجد معرفة عقلية قطعية أو معرفة نقلية قطعية، يرجع الإنسان عادةً بالقريحة العقلائية التي يمتلكها إلى الخبرة، أي المصدر الذي يمكن الاعتماد عليه، فبناء الإنسان العاقل الذي يقف عند حدود الخير والشر هو الرجوع في كل عمل إلى أكثر الناس خيرة وعلماً، ليحل مشكلاته، ولأن بحثنا يدور حول كيفية الوصول إلى حكم الله، ينبغي الاستماع هنا إلى حديث الذي أحاط بشكل كامل بالمصادر الإسلامية، وله قدرة كبيرة على الغوص في الأدلة الشرعية وهو صاحب الدراسات والتحقيقات الأكثر عمقاً، وهذا ما يشار إليه في الفقه "بتقليد الأعلم". وبالطبع فإن العمل بمصادر استنباط الأحكام يكون رأيه معتبراً بحكم العقلاء (وإن لم يكن رأيه قطعياً) وكذلك في سائر الموارد كلما صادف العقلاء مجهولات فإنهم يرجعون إلى الخبير، وما أكثر ما تكون كلماته غير يقينية، ولكنهم يعتمدون على رأيه، لأنه لا يوجد طرق أفصل من هذا. فحيث لا يمكن الوصول إلى الدليل اليقيني، لا مناص من الرجوع إلى أهل الخبرة. ولا شك أن الاختلاف يحدث بين أهل الخبرة وهو أمر طبيعي لا يمكن تجنبه، لأنه لا يمكن رفع هذه الاختلافات إلا في حضور الإمام المعصوم عليهم السلام، أما في عصر الغيبة حيث لا يمكن الناس أن يتصلوا به، فإن هذه الاختلافات تحدث حتماً.
ولا يختص هذا الأمر بالأمور الدينية، بل يتعدى إلى جميع المناهج الأخرى والأنظمة الحقوقية. ويوجد نماذج كثيرة من هذا الأمر، فافرضوا أن أمة ما تمتلك دستوراً عاماً تقدسه وتحترمه كثيراً، ولكن هذه الأمة قد تختف ف فهم إحدى مواده الأساسية. ولأجل رفع هذا الاختلاف فإنهم يعينون مرجعاً يفسر لهم المواد. كمجلس الشورى أو الخبراء أو شورى صيانة الدستور، وهكذا، ففي كل أمة يوجد مرجع معتبر لتفسير الدستور العام. ثم يقع الاختلاف بين المفسرين أنفسهم، ولا بد عندئذ من الاتفاق على رأي يحترمه الجميع ويعملون به. ولا مناص من ذلك وأنه عندما لا يمكن الوصول إلى ما يفيد اليقين، لا بد من الرجوع إلى الخبير الأعلى والأخذ برأيه. وإذا أظهر أحد الخبراء الآخرين رأيه الأصوب فيؤخذ به. وهذا الكلام لا يعني أن حكم الله قد تغير، لأن حكم الله ثابت ولا يتغير في مقام الثبوت، بل إن فهمنا وتشخيصنا هو الذي يتغير، أي أن الحكم في مقام الإثبات قد تغير. ولكن أيضاً لا يعني هذا أن جميع الأحكام الإلهية تكون عرضة لمثل هذه التغيرات والتحولات، بل إن ما يختلف بشأنه هو الأحكام الظنية التي نثبتها بالأدلة الظنية، حيث أنه في مثل هذه الموارد تكون الطريق لرفع الاختلاف هو الأخذ بالرأي الصادر من الأكثر خبرة وعلماً والعمل به. وهذا ما تقتضيه القريحة العقلانية للناس، وهو معتبر في فقهنا.
فتقليد الأعلم والرجوع إلى الفقيه الأفقه والأعلم الذي يحيط أكثر من غيره بالمصادر الفقهية واجب على الآخرين. وإن طرح فيما بعد، رأي آخر أو تغير رأي الفقيه نفسه أو قام أحد الفقهاء بتخطئته، فالاختلاف الحاصل في الفتاوى وتغير آراء الفقهاء، وتنوع الأحكام التي يصدرها مرجع هنا ومرجع هناك لا يؤثر سلباً في طاعة الناس لكم الله. وعلى الناس أن يتبعوا الأعلم. وفي المكان الذي يكون حكم الفقيه مطابقاً للواقع فإن الله يقبل منهم، وفي المكان الذي لا يكون مطابقاً للواقع يعذرهم الله. لأن عليهم أن يتبعوا ما وصلوا إليه وهذا ما يعبر عنه بحجية رأي الأعلم بالنسبة للمقلدين. والاختلاف الموجود بين مراجع التقليد أو تغير رأي الفقيه لم يكن قليلاً. فالمرجع قد يكون له رأي، ثم ومن خلال التأمل الزائد والتدقيق والبحث في الروايات الجديدة والأدلة أخرى يلتفت إلى عدم صوابية هذا الرأي. ولكن هذا الرأي كان في وقته حجة، والآن بعد اكتشاف الرأي الجديد يكون حجة، وقد ذكرنا أن هذا الأمر لا يختص بمذهب الشيعة أ بالدين الإسلامي أو الأديان الأخرى، بل إنه نهج عقلائي حيث يرجع جميع العقلاء إلى أهل الخبرة لرفع الاختلاف الحاصل فيه.
* منشأ تغيير الحكم في مقام الثبوت
يوجد نوع من الاختلاف الآخر يرتبط بنحو ما بمقام الثبوت، ولا يرتبط باختلاف اجتهاد واستنباط الفقهاء فقط، بل يتبع متغيرات أخرى. أي أنه من الممكن أن يثبت حكم ما في أحد الأزمنة لموضوع ما، ولكن هذا الحكم لا يبقى ثابتاً في زمان آخر. أي أن هذا الحكم له قيد زماني. مثل الأحكام القابلة للنسخ، كالحكم الذي كان ثابتاً في شريعة ما ثم جاءت شريعة أخرى ونسخته، أو أن يحدث هذا في الشريعة الواحدة. فهذا الاختلاف والتغيير لا يرتبط بمقام الإثبات، بل إن نفس الحكم قد تغير ثبوتاً. وبالطبع فإن التعبير عن الحكم بالتغيير هو نوع من المسامحة، لأن الحكم لم يتغير بل هناك حكمان لموضوعين مختلفين لهما قيدان زمانيان خاصان ومنفصلان أيضاً. فافرضوا مثلاً أن حكماً قد صدر في كتاب ما حول الموضوع الفلاني أنه جار حتى عشرين سنة، وفيما بعد جاء حكم يقول أنه بعد العشرين سنة فإن حكمه يتغير، إن هذا ليس تغيراً في الحكم بل هو بلحاظ تعدد القيد الزماني تعدد في موضوع الحكم.
* تغيير الحكم تابع لتغيير الزمان
لأن هذا الجانب من البحث فيه شيء من الدقة فإنه لم يعتمد عليه، ونحن نقول أن الحكم في مقام الثبوت قد تغير أيضاً، وذلك باعتبار تغير موضوعه الذي له قيد زماني، فإذا تغير هذا القيد يتغير الحكم. فهذا التغير واقع في مقام الثبوت. ويوجد مثل هذه الأحكام في الشرائع الإلهية المختلفة. فقد كان في شريعة نوح عليهم السلام وإبراهيم عليهم السلام وموسى عليهم السلام وعيسى عليهم السلام وشريعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحكام قد تم نسخ بعضها. ففي شريعة الإسلام مثلاً كان المسلمون يصلون مستقبلين بيت المقدس ولكن هذا الحكم نسخ فيما بعد وأمر المسلمون بالتوجه إلى الكعبة. هذا الحكم تغير حسب الظاهر، ولكن حقفيقة الأمر هي هكذا: إن الإرادة الإلهية كانت متعلقة منذ البداية بهذا الحكم وهو أن على الناس أن يصلوا بتجاه بيت المقدس حتى فترة معينة وبعد ذلك عليهم أن يتجهوا نحو الكعبة، ولكن بما أن هذا الحكم قد بين لهم في البداية فإن تغييره الآن يعتبر نسخاً. وعلى كل حال، فإن هذا النوع من التغيير في الحكم معقول وواقع. وهاذ إنما يحدث عند وجود قيود متغيرة.
فإذا كان لموضوع الحكم قيود خاصة تتغير بتبع الزمان، والمكان فإن هذا الحكم سوف يتغير بتبع القيود. وفي الواقع لم يكن الحكم تابعاً للزمان والمكان، فهما علامتان على تغيير الموضوع، وليس لهما أي خصوصية لتكون منشأ تغيير الحكم. فاختلاف الأزمنة والأمكنة علامة على أن التغيير الحاصل في موضوع الحكم الذي حدد بالزمان فيه مصلحة مرتبطة بالزمان. فملاك التغيير في موضوع الحكم هو "المصلحة الخاصة" وليس الزمان، وقد يكون ذلك مرتبطاً بالمكان. فالقيد الحقيقي لموضوع الحكم ليس الزمان والمكان، بل وجود المصلحة الخاصة. ولكن يقال ذلك من باب التسامح في التعبير. وأولئك الذين يدققون في استعمال العبارات يعتنون جيداً بهذا الأمر، ولكن بما أن الناس لا يلتفتون إلى هذه الدقائق، فلا إشكال أن يقال في المحاورات العرفية: إن للزمان والمكان تأثيراً في تغيير موضوع الحكم، وبعبارة أخرى إن من عوامل تعيين الحكم الزمان والمكان. وهذا لأجل تسهيل التفاهم، وليس للزمان والمكان خصوصية تؤدي إلى تغيير الحكم، فإن منشأ تغيير الحكم ومنشأ الاختلاف والتعدد هو "تعدد المصالح والمفاسد" التي تبدو في الأزمنة المختلفة أو الأمكنة المتعددة. على كل حال، بما أ هذه المسألة أصبحت اليوم مثاراً للجدل وتطرح ضمن القضايا الحيوية في مجتمعنا، فمن المناسب أن تقدم بشأنها توضيحاً إضافياً وإن كان هذا يعد خروجاً عن جدول بحثنا قليلاً. ولأجل توضيح هذا المطلب نذكر مقدمة لا تخلو هي الأخرى من الدقة، وإن كان المخاطب هنا عموم الناس، ولكن طبيعة البحث تقتضي أن تقفز قليلاً فوق مستوى المعلومات العامة. ونحنى نسعى في هذا المجال لتبسيط المطلب بلغة سهلة.
* تغيير الحكم تابع لتغيير قيد الموضوع
قد يكون موضوع الحكم أمراً عينياً مشخصاً، والله تعالى قد وضع قانوناً في مورد الأمر العيني الشخصي وأنزل حكماً قد بيّنه النبي والإمام، كالحكم فيما يتعلق "بماء المطر". فالمطر أمر عيني مشخص، وجميع الناس عبر الأزمنة يعلمون ماذا يعني ماء المطر، فيمكن الإشارة إليه وتشخيصه بصورة كاملة. فماهية ماء المطر لا تتغير لأن ماهيته مشخصة وقبالة للتعريف والإطلاع العام، فله حكم وهو "ماء المطر مطهر".
* مثال آخر
بعض الأشياء هي أعيان نجسة أو بعض الحيوانات نجسة العين كالكلب والخنزير. فهذا موجودان عينيان ومشخصان، فإن الكلب أمر عيني وجميع الناس يعرفونه ويمكن تعريف ماهيته وكذلك الخنزير. والله تعالى قد بّن حكماً في مورد هذين الموجودين: لحم الكب والخنزير ولعابهما نجس"، وتبعاً لحرمة لحمهما، هناك أحكاماً اجتماعية ومعاملتها باطلة. وكذلك فإن إتلاف هذين الحيوانين، إذا لم يكن فيه منفعة محللة أو يؤدي إلى منفعة محللة، فإنه لا يوجب الضمان، لأن ليس لهما مالية وهناك العشرات من المسائل الاجتماعية والحقوقية الأخرى المترتبة عليهما. جميع هذه الأحكام أمر خارجي معين، وموضوعه وحكمه ثابتان. أي على مر الأزمنة لن يطرأ أي تغيير لا في الماهية ولا في الحكم، فخنزير اليوم هو نفس خنزير القرون السابقة، لحمه كان حراماً وما زال منذ ذلك الزمن، وقد كان نجساً ولا زال، ومعاملته كانت باطلة وما زالت. ولكن قد تكون الأحكام الشرعية متعلقة بالموضوعات بقيد خاص، أي أن الأمر العيني المشخص لا يكون وحده موضوعاً للحكم بل يكون فيه قيد آخر. فعصير العنب إذا غلي بحيث يصبح مسكراً يكون نجساً ومعاملاته باطلة وشربه حرام ومن يشربه يقام عليه الحد و... فنحن نرى هنا أحكاماً مختلفة عبادية وحقوقية ومعاملاتية وجزائية تترتب على هذا الحكم. فجميعها ثابتة لثبوت نجاسته. والجميع تعلم ما هو عصير العنب، ولكن لهذا قيد وهو صفة "الإسكار". فما زالت هذه الصفة يصبح هناك حكم آخر. فالشيء الذي كان في زمان ما مسكراً ولكنه تبدل فيما بعد إلى مائع آخر، أي أنه انقلب خلاً، فهنا يتغير حكمه، لأن الحرمة هنا لم تكن بصورة مطلقة، بل كان لها قيد. وما دام هذا القيد موجوداً فإن حكمه يبقى محفوظاً.
*القيود العينية والاعتبارية
وهنا أيضاً يكون الموضوع المعين على قسمين: فأحياناً لا يكون القيد المأخوذ للموضوع عينياً بل اعتبارياً. فالموضوع عيني ولكن يصبح له حكم شرعي خاص بالقيد الذي ليس له صفة خارجية أو عينية. ففي المثال الذي ذكرناه حول العصير العنبي الذي غلي حتى أصبح مسكراً فيكون نجساً، نجد أن الإسكار صفة عينية يمكن تجربتها والاطلاع عليها بالوسائل الطبيعية، ولكن قد تكون قيود الموضوع اعتبارية لا تقبل التجربة، ويكون العقل هو الذي يعتبرها في شروط خاصة، كما أنه يقال: "كل ما هو طاهر بذاته ويكن الانتفاع به يجوز تملكه" (ونحن هنا لسنا في مقام البحث عن أسباب الملكية). فهذا الشيء الخارجي له حكم مع صفة الملكية التي أعطيت لهذا الشخص، أي أنه لو عنوان المملوك. الآخرون لا يمكنهم التصرف بدون إجازة المالك. فحرمة التصرف في هذه العين الخارجية مختصة بها، ولكن ليس بشكل مطلق، بل بملازمة هذا القيد الذي يرتبط بالمالك، أما إذا لم يكن هنا من مالك فيمكن للآخرين أن يتصرفوا فيه. فحكم حرمة التصرف أصبح مختصاً بهذا الشيء من خلال القيد. ولكن هذا القيد ليس كالإسكار له صفة عينية يمكن ملاحظتها في ذلك المائع، بل هو قيد اعتباري أوجده العقلاء في ظرف الاجتماع. فهذا الملك لفلان وقد ورثه عن أبيه أو حصل عليه من خلال العمل أو أي سبب آخر يعطي عنوان الملكية.
* مثال آخر
عندما يعقد الرجل والمرأة عقد الزواج يصبحان زوجين، وقبل هدا العقد لا يجوز لهما الاقتراب من بعضهما، أما بعد العقد فتترتب سلسلة من الأحكام الاجتماعية. وهنا نلاحظ عدم تغير الصفة العينية لكل منهما، فلا تحول في الطول ولا في الشكل، فبعد التلفظ ب (أنكحت وقبلت" أو "زوجت وقبلت" برضا الطرفين أصبحنا نعتبرهما زوجين. فأصبحت هذه المرأة حلالاً على ذلك الرجل بصفة "الزوجة"، ووجب على الرجل نفقتها إضافة إلى أحكام أخرى متفرقة. فهذه أحكام تتعلق بهده العين الخارجية (المرأة والرجل): ولكن بقيد اعتباري. والاعتباريان تتغير، فما دام عنوان الزوجية موجوداً فإن هناك سلسلة من الأحكام الخاصة تتعلق به، أما عندما ينعدم من خلال الطلاق فإن هناك أحكاماً أخرى. فهذه المرأة إلى الأمس كانت حراماً على الرجل، وهي اليوم حلال عليه، فكيف تغير هذا الحكم؟ لأن العنوان الاعتباري قد تغير دون الشخص ذاته، فهو ما زال كما هو، وكلنه حصل على عنوان الزوجية. فهذه العناوين قد تؤخذ أحياناً بقيد الموضوع، كقيد الزوجية مثلاً، ولكن إذا دققنا أكثر- على الأقل في العديد من الأمور- فإن الحكم مختص بذلك القيد، وبتعبير فلسفي يكون الحكم بالذات للقيد وبالعرض للمعنون، ولهذا يكون الحكم الشرعي بالنسبة للعناوين انتزاعياً واعتبارياً. هذا العنوان إذا صدق في أي زمان، ومكان وتحت أي ظرف فسوف يكون له حكم خاص، وإذا لم يصدق فإن له أحكاماً أخرى، هذا والموضوع واحد. فالزمان والمكان ليست موضوعاً للحكم في الواقع، بل هما علامة على موقعية الحكم وزمانه. فهنا نعود ونكرر هذه النقطة الدقيقة ونقول مسامحة: الزمان والمكان عنصران متغيران ويتبعهما يتغير الحكم، ولكن المتغير الحقيقي هو المصالح والمفاسد لا الزمان والمكان.