في ذكراهم العطرة، نستذكر قصصهم ومواقفهم، فهم ما زالوا بيننا وحاضرون فينا، فنرسم منها درباً نسلكه بحبّ واطمئنان، يعجّ بدروس وعِبر فيها صالح دنيانا وآخرتنا.
في هذا المقال، باقة من قصص ومواقف في حياة الشهيدين القائدين سماحة السيّد عبّاس الموسويّ وسماحة الشيخ راغب حرب (رضوان الله عليهما)، وأخرى عمّن لا زالت ذكراهما حاضرة فيهم، فتأثّروا بجميل المسلك والنهج.
•السيّد عبّاس الموسويّ (رضوان الله عليه) في الذاكرة
1- كإخوة لكم: يقول ابنه السيّد ياسر الموسويّ: عندما انتقلنا للعيش في ضاحية بيروت الجنوبيّة، ذهبت والدتي لتسجّلنا في مدرسة، وقد دلَّها أحدهم على مبرّة الإمام الخوئيّ في خلدة، وأخبرها أنّ لها فرعاً آخر لغير الأيتام وأولاد الشهداء، فاختارت أن تُلحقنا بالفرع المخصّص للأيتام.
عندما علم والدي بذلك، أعجبته الفكرة، على الرغم من أنّ المدرسة كانت بعيدة عن مكان سكننا. وراح يوصيني وإخوتي بكيفيّة التعامل مع الأيتام وأبناء الشهداء، وضرورة مداراتهم والعطف عليهم، ومعاملتهم كإخوة لنا، وطلب منّي يومها أن أشتري من المكتبة مجموعة أقلام وأوزّعها على رفاقي في الصفّ.
2- أولادي كباقي الأولاد: ينقل السيّد ياسر أيضاً: كانت مبرّة الإمام الخوئيّ بعيدة عن السكن، فاقترح الإخوة على والدي تأمين سيّارة خاصّة لنقلنا من وإلى المدرسة لأسباب أمنيّة، ولكنّه رفض ذلك قائلاً: "هم ليسوا أفضل من الآخرين. سيذهبون ويرجعون بباص المدرسة كباقي زملائهم. لا أقبل أن يتميّز أولادي عن غيرهم، حتّى لو كان هناك مسوّغات أمنيّة. أكثر تلاميذ هذه المدرسة هم من الأيتام والمستضعفين؛ لذلك يجب أن نحرص على عدم جرح شعور أيّ أحد منهم"!
3- السيّارة للعمل فقط: يسرد السيّد ياسر: ذات يوم، طلب جدّي أبو حسين (والد السيّد عبّاس) من أبي أن يطلب من مرافقيه إيصاله إلى الضيعة، فاعتذر والدي إليه قائلاً: "هذه السيّارة مخصّصة للعمل فقط وليست لخدمات شخصيّة. أنت والدي الذي أحبّ وأحترم، ولكنّني لا أستطيع القيام بذلك".
4- "يكفيني أنّك زرتني": يقول أحد مرافقيه: كان سماحة السيّد عبّاس (رضوان الله عليه) إذا دخل قرية رجل دين معمّم، فإنّه يزوره، حتّى لو كان ذلك خارج المهامّ المحدّدة. وفي أحد الأيّام، كان لديه عمل في جبشيت، وعندما اقتربنا من بيت الشيخ عبد الكريم عبيد، طلب منّي البحث عن والدة الشيخ للسلام عليها والاطمئنان عنها. وكانت في (خيمة المونة)، فذهبنا إليها، ووجدناها تغسل الثياب، وكانت امرأة مسنّة. دخلنا إلى تلك الخيمة المبنيّة من أخشاب وتنك، وإذ بالحاجّة تقول: "انظروا مَن هنا! لقد جاء السيّد عبّاس لزيارتي!". ثمّ قالت بعد ذلك: "إذا متّ قبل رؤية ابني، فيكفيني أنّك زرتني".
5- والدنا العطوف: يقول أحد مرافقي السيّد: كان السيّد يعاملنا كما لو كنّا أبناءه، يتفقّدنا أثناء نومنا، ويغطّينا، وينادينا بأسمائنا لسؤالنا إذا أكلنا وشربنا، وكان يتناول الطعام معنا.
•الشيخ راغب حرب (رضوان الله عليه) في الذاكرة
1- أنا سأربّيه: ينقل ابنه الشيخ راغب: حكى لي أحد الإخوان، أنّه بينما كان ووالدي في طريقهما إلى قرية، شاهدا في الطريق امرأة تضرب ولدها الصغير بشكل قاسٍ، فترجّل والدي من السيّارة، وأمسك بالولد وأصعده معه، ثمّ أكمل طريقه. اعتقدت المرأة أنّه أخذ ابنها منها، فلحقت بالسيّارة وهي تصرخ! وفجأة، توقّفت السيّارة، وإذ بالشيخ راغب يقول لها: "لن أُرجع ابنك إليك إلّا بعد أن تعديني أنّك لن تضربيه مجدّداً! إذا كنت غير قادرة على تربيته، فسآخذه وأربّيه بنفسي".
هذا الأسلوب كان أحد الأساليب التي يعتمدها الشيخ لإيصال رسالة ما، فهو كان يدرك خطورة التربية الخاطئة للأولاد وأثرها في المجتمع.
2- مساعد الفقراء: يذكر ابنه أنّ والده الشهيد كان يتحسّس أوضاع الناس وظروفهم المعيشيّة خلال زيارته لهم، فيلاحظ ماذا يأكلون. وكان يعرف بطريقة ما إذا كان ينقصهم شيء من أصناف التموين والسلع الغذائيّة، فيعمل على تأمينها لهم دون أن يحرجهم. وفي إحدى المرّات، علم أنّ شخصاً ماتت بقرته التي كانت مصدر رزقه الوحيد، فجمع له مبلغاً من المال، وطلب من أحدهم تسليمه إيّاه.
3- ازرعوا واصنعوا: يقول ابن الشيخ راغب أيضاً: كان الشيخ يحثّ الناس على زراعة الشجر المثمر، لكي يستفيدوا من ثماره. وكان أحياناً يزرع بنفسه بعض الأشجار أمام البيت، وهي لا تزال موجودة حتّى الآن. كان يحثّهم على تربية بعض المواشي، خصوصاً بعد ارتفاع أسعار الموادّ الغذائيّة بسبب التدنّي في اقتنائها، فضلاً عن التشجيع على زراعة الخضار والفواكه بسبب الفقر الذي كان يعاني منه الناس في ذلك الوقت. كان الشيخ يولي اهتماماً خاصّاً بالجانب الاقتصاديّ إلى جانب مسؤوليّاته التبليغيّة والجهاديّة، وكان ينظر إليه من المنظور الاستراتيجيّ، وكان يعتبر أنّ لجوء الناس إلى إنتاج محاصيلهم وصناعاتهم الغذائيّة بأنفسهم، سيدفع المجتمع والاقتصاد نحو الاستقرار.
وهو كان قد كتب في إحدى مذكّراته أنّه قلق بشأن أولئك الذين لا يستطيعون بيع محاصيلهم الزراعيّة، وكان يفكّر في كيفيّة مساعدتهم.
4- الله الله في المسجد: ينقل أبو إسلام عبد الله الحسينيّ: كان الشهيد كلّما دخل مسجداً وصلّى فيه، يُحضر بعد القطع الخشبيّة ومسامير ليصنع منها مكتبة، وكان يعمل على تأمين الكتب ووضعها فيها، وذلك ليشجع الناس على قراءة الكتب الدينيّة المختلفة.
وفي أحد الأيّام، كنّا مدعوّين إلى زيارة مختار ضيعة دير الزهراني، وعندما حلّت صلاة المغرب، أصرّ على أداء الصلاة في مسجد مهجور. دخلنا المسجد بثياب نظيفة، وعندما خرجنا منه، كانت ملابسنا متّسخة بالغبار!
كان يحرص على تنظيف المساجد التي يدخلها، ويحافظ على ترتيبها، فكان، مثلاً، لا يقبل بوجود أغراض ممزّقة أو مهترئة داخلها، لأنّ بيت الله يجب أن يبقى نظيفاً ومرتّباً.
5- الأيتام مكرمون معزّزون: يسرد أبو إسلام أيضاً: عندما أسّس سماحته المبرّة، كان بعض الناس يجلبون له ثياباً مستعملة وقديمة ما عادوا بحاجة إليها، لتقديمها للأيتام، فكان الشيخ يرفضها ويقول: "هذه الملابس القديمة أُلبسها لأولادي، أمّا الأيتام فلا. هؤلاء الأيتام يجب أن يكونوا معزّزين ومكرّمين ويرتدون الملابس الجديدة!".
6- اسمه راغب حرب: يقول الشيخ إسماعيل حرب، شقيق الشيخ راغب: في إحدى مناسبات 16 شباط، زارني الشيخ جعفر عاصي، وأخبرني أنّه كان في زيارة لإحدى القرى النائية في دولة أفريقيّة. وبينما هو في ضيافة أحدهم، سمع شخصاً ينادي ابنه "يا راغب حرب"! للوهلة الأولى، اعتقد أنّ ذلك الشخص من آل حرب، وأنّ ابنه اسمه راغب، فانتابه فضول لمعرفة حقيقة الأمر، فسأله عن اسم ابنه، فأجابه: "أسميته راغب حرب، كاسم مركّب، تيمّناً بالشيخ راغب الذي أشاهده عبر قناة المنار، وأنا متأثّر بفكره".
7- المصافحة اعتراف: ينقل الشيخ إسماعيل حرب أيضاً: في يوم التحرير في العام 2000م، دخلت إلى قرية ميس الجبل كما كلّ الناس. وعندما حلّ وقت الصلاة، دخلت مسجداً قديماً، فلفتني وجود صورة قديمة جدّاً للشيخ راغب معلّقة على أحد جدرانه، كتبت عليها عبارة "المصافحة اعتراف". سألت خادم المسجد عمّن علّق هذه الصورة، فقال لي: "عندما اعتُقل الشيخ راغب عام 1983م، وزّع الشباب هذه الصور، وحرصاً منّي على أن لا تجدها قوّات الاحتلال الإسرائيليّ أثناء المداهمات والتفتيش، خبّأتها هنا داخل هذه المكتبة في أحد الكتب. والآن، وبما أنّ قرانا تحرّرت، أخرجتها من مخبئها، وعلّقتها حيث يجب أن تكون".