حوار مع سماحة العلّامة الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغرويّ
حوار: محمّد حسين مزيدي
أقبلتْ فاطمة حاملة خير جنين
جاء مخلوقاً بنور القدس لا الماءِ المَهين
وتردَّى منظرُ اللاهوتِ بين العالَمِين
كيف قد أُودِعَ في جنبٍ وصَدرٍ... لست أدري
أقبلتْ تدعُو وقد جاءَ بها داءُ المخاض
نحو ربِّ البيت من ألطافِ ذي اللطفِ المُفاض
فدَعَتْ خالِقَها الباري بأحشاءٍ مراض
كيف ضجّت؟ كيف عجّت؟ كيف ناحَت؟ لَستُ أدري
لستُ أدري غيرَ أنَّ البيتَ قد ردَّ الجواب
بابتسامٍ في جدارِ البيتِ أضحى منهُ باب
دَخَلَتْ فاطمةُ فانْجابَ من دونِ الحجاب
وُلِدَ الطُّهْرُ "عليٌّ" مَن تسامى في عُلاه
بهذه الأبيات الجميلة التي تفضّل بها سماحة العلّامة المحقّق التاريخيّ الشيخ محمّد هادي اليوسفيّ الغرويّ، نستقبل ذكرى ولادة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، بمقابلة أجرتها مجلّة "بقيّة الله" مع سماحته.
•في البداية، يحمل تاريخ والدَيّ أمير المؤمنين عليه السلام جملةً من الخصائص، حبذا لو تحدثتم عنّها.
- أبوه: أبوه هو أبو طالب. كنيته أبو طالب باسم بِكر أولاده طالب، الذي أخرجه المشركون ليكون معهم لحرب بدر، ولكنّه دعا ربّه سبحانه وتعالى ألّا يوصله إلى معارضة المسلمين ومواجهتهم ومقابلتهم ومقاتلتهم، ولذلك جُهل أمره؛ أي لم يُعثر عليه ولا على أثر منه ولا عين. هذا طالب، أكبر أبناء عبد مناف -اسمه الأصليّ عبد مناف-. ومن الشواهد التاريخيّة الأدبيّة الشعريّة على ذلك ما جاء في وصيّة جدّه عبد المطّلب، لمّا قال لأبيه أبي طالب:
"أُوصيكَ يا عبْدَ منافٍ بعدي
بموحّدٍ بعدَ أبيهِ فَرْدِ"
والمقصود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث كان حين وصيّة جدّه عبد المطّلب به لعمّه أبي طالب في حدود الثماني سنين، بعد وفاة أبيه عبد الله بن عبد المطّلب. وعبد الله وعبد مناف، أخوان شقيقَان؛ أي من أبٍ وأمٍّ واحدة. وقد التبس على بعضهم أصل الاسم؛ لأنّه سمع باسم (مَنَاة) في نصّ الذكر الحكيم في سورة النجم، بين كلمتَي مَناف ومَناة؛ فمناة اسم صنم من أصنام أعلام قريش، ولكنّ مُناف هو اسم فاعل على صيغة مفعول، ومُناف بمعنى المنيف، والمنيف: الإنافة، بمعنى الإشراف. والمشرف المطلق على الكون، هو الله سبحانه وتعالى. فعبد مناف -بناءً على الصحيح- إنّما هو بمعنى عبد الله. وبعد طالب ولد له عقيل، وبعد عقيل ولد له جعفر، وهو جعفر الطيّار، وهو الثالث من أبناء أبي طالب، والرابع هو عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
- أمّه: أمّه فاطمة بنت أسد، وهي أوّل هاشميّة ولدت لهاشم. وهذه المرأة قال عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "هي أُمّي بعد أُمّي"؛ أي من حيث العطف واللّطف وكرم الضيافة في بيتها، باعتباره صلى الله عليه وآله وسلم كَبُر في بيت عمّه أبي طالب، حسب الوصيّة التي أشرنا إليها:
"أُوصيكَ يا عبْدَ منافٍ بعدي
بموحّدٍ بعدَ أبيهِ فَرْدِ"
فانتقل من حجر جدّه عبد المطّلب إلى حجر عمّه أبي طالب، وتربّى في ذلك البيت إلى أن تزوّج بالسيدة خديجة، فانفصل عن دار عمّه أبي طالب.
ففاطمة كانت له بمنزلة الأمّ، وهي أسلمت إسلاماً مُعلناً بين أوائل المسلمات في مكّة المكرّمة قبل الهجرة، بعد ابنها أمير المؤمنين عليه السلام، ثمّ هاجرت إلى المدينة المنوّرة بعد وفاة زوجها أبي طالب مع ابنها أمير المؤمنين عليه السلام، بعد أن أوصاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يبيت في فراشه، ويتغطّى ببرده الحضرميّ، تمويهاً على المشركين حتّى يفوتهم اللحاق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى غار ثَوْر، وليس غار حراء.
وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً عليه السلام بعد أن يبيت في فراشه، أن يقف وينادي في الناس بردّ ودائعهم وأماناتهم؛ لأنّ أهل مكة، ومنهم المشركون، استمرّوا على وصفه بمحمّد الأمين وكانوا يودعون عنده ودائعهم وأماناتهم، بعد بعثته بالرسالة، على الرغم من أنّهم ينكرون بعثته ورسالته. ثم أوصى صلى الله عليه وآله وسلم أميرَ المؤمنين عليه السلام أن يرحل مع الفاطميّات: فاطمة بنت أسد أمّه، وفاطمة بنت محمّد صلى الله عليه وآله وسلم -قبل زواجهما-، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطّلب. ففاطمة بنت أسد هاجرت وتوفّيت بالمدينة المنوّرة، في السنة الثالثة أو الرابعة بعد الهجرة، ودفنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بقيع الغرقد، ونزل في قبرها؛ لأنّها كانت أوصت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يكفّنها بقميصٍ من قمصانه، لتتشفّع إلى ربّها، ولتتبرّك به في خلوتها، خلوة اللّحد.
•صاحبت ولادة أمير المؤمنين عليه السلام مجموعة من الأحداث، أبرزها شقّ زاوية من الكعبة المشرفة لولادته، ما هي دلائل ذلك؟
وُلد أمير المؤمنين عليه السلام في شهر رجب بعد ثلاثين عاماً من عام الفيل، أي بعد ثلاثين عاماً من ميلاد رسول الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم. وعليه، كان عمر الإمام عليّ عليه السلام عند بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نحو عشر سنوات؛ لأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد بُعث بعد أربعين سنة من عام الفيل.
لذا، فالمعروف من التاريخ أنّ فاطمة بنت أسد لجأت إلى بيت الله الحرام تزور في البداية، لكنّ ألم المخاض أخذها فجأة، وكان بيد زوجها أبي طالب مفاتيح البيت، ولكنّه لم يكن حاضراً، كانت ملتجئةً إلى بيت الله تتوسَّل، وأقسمت على ربّها بجدّها إبراهيم الخليل عليه السلام -وهذا ممّا يؤشّر إلى إيمان هذه الأسرة أيضاً، أسرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآبائه إلى نبيّنا إبراهيم عليه السلام، بل إلى آدم عليه السلام - انشقَّ لها جدار البيت حصراً، فدخلته، ولمّا أُخبر أبو طالب وجاء ليفتح الباب، ما فُتح إلى ثلاثة أيّام، بعدها خرجت من الكعبة وعلى يدها وليدها عليٌّ عليه السلام.
•مَن الذي سمّى الإمام عليّاً عليه السلام ؟
من العادات العربيّة، أنّه كان يُترك تسمية الابن للأمّ؛ لأنّها عاكفة على حماية جنينها في بطنها إلى أن تلده، فتتحمّل داء المخاض، كما في الآية الكريمة: ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾ (آل عمران: 36)، الأمّ هنا هي سمّتها مريم. وكذلك الإمام عليّ عليه السلام يقول: "أنا الذي سمّتني أمّي حيدرة".
وفاطمة، نحن نقول في نسبها، بنت أسد، والأسد في العربيّة له ستّون اسماً، ومن أسماء الأسد الحيدرة، ولذلك عندما يقول عليه السلام: "أنا الذي سمّتني أمّي حيدرة" فالتسمية على اسم جدّه (والد أمّه فاطمة بنت أسد)، فحيدرة اسمٌ من أسماء الأسد، فسمّته باسم أبيها (أسد)، لكنّ والد الوليد أبا طالب غيَّر هذا الاسم إلى عليّ.
•ورد أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لفاطمة بنت أسد: "اجعلي مهده بقرب فراشي". ما سبب هذا الاهتمام؟
إنّ من خصوصيات رعاية الله سبحانه وتعالى للإمام عليّ عليه السلام أنّ يتربَّى عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ذلك أنّ قريشاً أصابها قحطٌ، وكان عمر عليٍّ عليه السلام نحو ستّ سنين؛ فاجتمع النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم مع عمّيه أبي طالب والعبّاس بن عبد المطّلب وتقاسموا أبناء أبي طالب، ليعينوه ويساعدوه في أيّام القحط والأزمة، فاختار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً عليه السلام ليكون عنده، فهذا صار من مصاديق ما يُقال: "إذا أراد الله شيئاً هيّأ أسبابه". وأراد الله أن يربّي عليّاً عليه السلام تربيةً نبويّة رساليّة؛ على يد مَن وصفه بالآية الكريمة: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم: 4). وإنْ كان قد ورد الخبر المعتبر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ المقصود بذلك شريعته، وقرآنه، فإنّ ﴿خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ يعني على شريعة عظيمة، والشريعة العظيمة هي أمّ الأخلاق، والأخلاق الإسلاميّة هي من شريعة الإسلام، من شريعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. على أيّ حال، فهذه من تقديرات الله سبحانه وتعالى ليكون الإمام عليّ عليه السلام وصيّاً على رسالته صلى الله عليه وآله وسلم وشريعته ودينه من بعده.
•سجّل التاريخ لأمير المؤمنين عليه السلام أنّه كان أوّل مَن أسلم، وأوّل من صلّى، وأوّل من أجاب الدعوة. وكان السبّاق في أمور كثيرة، على ماذا تدلّ هذه الأوّليّة؟
تدلّ هذه الأوّليّات على ما جاء في الذكر الحكيم، عن عديدٍ من أنبياء الله ورسله، أنّهم يقولون عن أنفسهم إنّهم أوّل من يُؤمنون بالله سبحانه وتعالى، وهذا يدلّ على شدّة علاقة هذا العابد بربّه سبحانه وتعالى، وبما يجيء من عند ربّه؛ فشدّة العلاقة يُعبَّر عنها بـ﴿وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ (الأنعام: 163). ما معنى ﴿أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾؟ لا يُقصد بذلك أوّل العدد والأرقام، وإنّما يُقصد بذلك أنّه مشتاقٌ إلى أن يكون الجنديّ الأوّل في هذا السبيل، ويُبدي اشتياقه واستعداده لأن يكون أوّل جنديّ يضحّي بنفسه في هذا السبيل. فأوّليّات أمير المؤمنين عليه السلام من هذا القبيل.
•في ذكرى مولد أمير المؤمنين عليه السلام ؛ أيّ نصيحة تعطونها للموالين والسائرين على نهجه الشريف؟
السلام عليه يوم وُلد في الكعبة، ويوم زُوّج في السماء من سيّدة النساء، وبارك الله لنا ولأوليائه المؤمنين، شيعة أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الذكرى المباركة، وبارك لنا في كلماته القيّمة التي ملأت الأجواء الفكريّة والعقليّة والإيمانيّة بذلك الضوء والنور المشعّ في نهج البلاغة بأقسامه الثلاثة: خطبه وكتبه وكلماته القصار. ونكتفي بتذكّر أنّنا أولياء له، ولا نكون أولياء إلّا إذا سلكنا خطاه عليه السلام، وإنّما تقرَّب أمير المؤمنين عليه السلام بهذا المقام العظيم لا لشيء إلّا بمقدار تمسّكه بإيمانه بربّه سبحانه وتعالى، وتقيّده والتزامه بما جاء عنه سبحانه وتعالى على لسان رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، وأن يكون إلى جانبه طول حياته على كلّ مفترق، وهذا هو الفارق العظيم، الفارق بين أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك المقام السامي إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبين غيره من أفاضل الصحابة، لا يمكن لأحد مُنصف أن يدرس حياة أمير المؤمنين عليه السلام، ثمّ لا يجزم أنّه معصوم، كما في آية التطهير: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ (الأحزاب: 33).
كما جاء في أخبارهم عليهم السلام وأحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم من السنّة أن يختم المرء حديثه بالاستغفار له وللمؤمنين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.