السيد عباس نور الدين
يرتبط مفهوم الأمانة بقضيّة عظيمة لا تفوقها قضيّة في عالم الوجود كلّه؛ لأنّها تتعلّق بأمرٍ جوهريّ في علاقة الإنسان بربّه سبحانه. ولو اختصرنا سرّ وجودنا في عالم الدنيا بأنّه عبارة عن أداء الأمانة لما كنّا مبالغين أو مخلّين. قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ والْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ (الأحزاب: 72). فقد كان مشهد الكون كلّه، السّماوات والأرض والجبال، يحكي عن قضيّة بحجم العوالم كلّها، وعن دور الإنسان في أداء الأمانة وهو ما أبت كل الموجودات وأشفقت من القيام به. لذا، نحن مدعوّون للتفكّر في هذه القضيّة لأنّها تعني كل واحد ينطبق عليه عنوان الإنسان.
*مسؤوليّة كبرى
ومعنى الأمانة يقتضي ردّها إلى صاحبها وإلّا كنّا من الخائنين. فعلينا أن نعرف إذاً ماذا نحمل، حتى نردّ ما حملنا إلى صاحبه. وإلّا.. فكيف نردّ ما لا نعرفه؟!
يظهر لنا من خلال المقارنة بين ماهيّة الإنسان وماهيّة الأشياء، التي أبت حمل الأمانة، أنّ الفارق الجوهريّ هو في الاختيار. فقد أُعطي الإنسان القدرة على الاختيار بين النّجدين، ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ (البلد: 10) بين الخير والشرّ، والحسن والقبح.
والسؤال الذي يبرز هو: كيف يحمّل الحقّ تعالى أمانة بهذه العظَمة لموجودٍ يُتوقّع منه الظّلم والعدوان والإفراط والتفريط؟ إنّ ذلك غير ممكن إلّا في حال قام هذا الموجود المختار بتغيير ماهيّته الظّلومة الجهولة، وبدّل الإنسان كل صفاته التي ينبع منها الظلم والجهل إلى صفات تجعله لائقاً لتلك المسؤولية الكبرى.
*القوى أمانات إلهيّة
يقول الإمام الخميني قدس سره: "وليُعلم أنّ جميع القوى الظاهريّة والباطنيّة التي أعطانا الله إيّاها وأنزلها من عالم الغيب، هي أمانات إلهيّة كانت طاهرة من جميع القذارات، وكانت مطهّرة، بل كانت متنوّرة بنور الفطرة الإلهيّة وبعيدة عن ظُلمة تصرّف إبليس وكدورته"(1). فها هنا قُوى يمكن للإنسان أن يستعملها ويحقّق من خلالها الآثار، وأن تنتج ما يتناسب معها من الطّهارة الخالصة. فمن القوى الظاهرة، العين، وسوف ينظر بها، ومن القوى الباطنة الخيال، فسوف يخلق الصّور بواسطته.
لكنّ هذا الإنسان صار إلى عالم الطبيعة وأُهبط إلى هذه الأرض، حيث يوجد التّزاحم، والجوع، والعري، والميل، والسوأة (وهما مظهر الشهوة)؛ ويعني ذلك أنّ هذا الإنسان المختار سوف يكون أمام الخير والشرّ. وقد لحق به إبليس المرجوم ليكمل عمليّة التزيين والغواية حتى تخرج تلك القوى عن طهارتها الأولى وحقيقتها الإلهيّة.
*ومرآة الحق
إنّ القوى الظاهرة والباطنة لمّا كانت طاهرة، كانت مرآة لفيض القدرة الإلهيّة. وبتلوّثها سيعجز الإنسان عن شهود عظمة الله وتجلّياته في الأنفس التي هي آيات الله، فكيف يمكن لخيال تعبث به الصور الباطلة والفاسدة أن يكون مرآة صور الحقّ وانعكاس جماله؟ وتلك اليد التي تمتد إلى الآثام كيف يمكن أن تصبح بيضاء من غير سوء آية كبرى؟!
يقول الإمام الخميني قدس سره: "فلمّا نزلت- هذه القوى- إلى ظلمات عالم الطبيعة وامتدّت يد تصرّف الشيطان الواهمة ويد الخيانة الإبليسيّة إليها، خرجت عن الطهارة الأصلية والفطرة الأوليّة، وتلوّثت بأنواع القذارات والأرجاس الشيطانيّة"(2).
إنّ خيانة الأمانة، بحسب كلام الإمام قدس سره ، تحصل إذا تبدّلت هذه القوى الظاهرة والباطنة ولم تعد مرآة صافية لإظهار عظمة الله تعالى. وذلك إنّما يحدث عند تلويثها بأنواع الكدورات. فتلويث القوى الظاهرة يكون بالمعاصي الظاهرة، وتلويث القوى الباطنة يكون بالاتّصاف بأرجاس الأخلاق الفاسدة، والتعلّق بغير الله تعالى وبحب الدنيا وحبّ النفس. ثمّ يقول الإمام الخميني قدس سره: "فالسّالك إلى الله إذا أبعد يد الشيطان- متمسّكاً بذيل عناية وليّ الله- وطهّر المملكة الظاهرية وردّ الأمانات الإلهيّة كما أخذها، فلن يكون خائناً للأمانة حينئذٍ".
*إعادة الأمانة
فإعادة الأمانة الأولى أو المرتبة الأولى منها تكون في التوبة من تلك المعاصي والإقلاع عن ارتكاب الذّنوب والتمسّك بتربية وليّ الله وصراطه، صراط الذين أنعم الله عليهم. والدّخول تحت ظلّ الغفّاريّة والستّاريّة الإلهيّة. وهذا هو أحد مراتب تبديل صفات الظّلوميّة والجهوليّة.
أمّا المرتبة الثانية، فيقول الإمام قدس سره : "... ويقوم بتخلية الباطن من أرجاس الأخلاق الفاسدة... وما دام الخلق الباطني للنفس فاسداً والقذارات المعنويّة محيطة بها، فلا تليق بمقام القدس ومحفل الأنس".
ويؤكّد الإمام قدس سره على أنّ إعادة القوى الباطنة سالمة كما كانت يتطلّب مجاهدة ورياضة شرعيّة تقوم على العلم النّافع الطّاهر الطّهور، ليتمكّن السّالك سبيل إرجاع الأمانة من تطهير القلب الذي هو أمّ القرى والمرتبة الأخيرة في القوى الباطنة. يقول قدس سره: "وقذارات عالم القلب مبدأ القذارات كلّها، وهي عبارة عن التعلّق بغير الحقّ والتوجّه إلى النّفس وإلى العالم، ومنشؤها جميعاً حبّ الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة وحبّ النّفس الذي هو أمّ الأمراض".
*رسول الله الأمين
هذا هو أداء الأمانة. فمن قدر عليه استحقّ صفة الأمين كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، "لم يكن لإبليس من أول الفطرة إلى آخرها تصرّف في فطرته، فهو إنسان إلهي لاهوتي، وهو من قرنه إلى قدمه نور وطهارة وسعادة. فقلبه نور الحقّ ولا يتوجّه لغير الحقّ، وقواه الباطنية والظاهرية نورانية وطاهرة، ولا يتصرّف فيها سوى الحقّ، وليس لإبليس فيها حظّ ولا لجنوده فيها تصرّف. ومثل هذا الموجود الشريف طاهر مطلقاً ونورٌ خالص، وما تقدّم من ذنبه وما تأخّر فهو مغفور له، وهو صاحب الفتح المطلق والواجد لمقام العصمة الكبرى بالأصالة، وبقيّة المعصومين واجدون لذاك المقام تبعاً لذاته المقدّسة. وهو صاحب مقام الخاتمية الذي هو الكمال على الإطلاق".
وإنّ من قدر على نفسه فهو على غيرها أقدر. ويعني ذلك أنّ من استطاع أن يعيد نفسه إلى ربّها طاهرة كما أعطاه الله إيّاها طاهرة، سيكون قادراً على أداء كل الأمانات لله تعالى.
*"أنتم الأمانة المحفوظة"
فإذا كانت العبادة أمانة أدّى حقّها. وإذا كانت النّعم أمانة أدّى حقّها. وإذا كانت العهود أمانات وفى بها؛ والعمر والنّاس وغيرهم...
إنّ نظرة المؤمن إلى الأشياء تنبع من إيمانه بالله تعالى وكونها جميعاً مخلوقات الله ومتعلّقة به سبحانه. فلئن سخّرها الله له، فهي بالأصل لله عزّ وجلّ. ولا ينبغي له بحال أن يراها لنفسه فيفعل بها ما يشاء، بل سيسعى ليعرف كيفيّة أداء حقّها انطلاقاً من موقعها عند الله تعالى، فيكون الولاء لإمام الزّمان عجل الله تعالى فرجه الشريف من مصاديق أداء الأمانة كما جاء في الزيارة الجامعة "أنتم الأمانة المحفوظة". وهو الذي كان الأنبياء عليهم السلام يدعون إليه ﴿أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ الله﴾، ويقول عزّ من قائل: ﴿أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِهْ﴾ (النساء: 58).
عندما يدرك الإنسان أنّ العالم بكل ما فيه عبارة عن ملك، وأنّ هذه المالكيّة ستظهر يوم الدّين، ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ﴾ (غافر: 16)، فإنّه لن يتصرّف فيه إلّا على أساس الأمانة، ويسعى جهده لمنع امتداد الأيادي الآثمة إليه. فيغار على ربّه، لأنّ الأشياء كلّها ظهرت بمقتضى حبّه.
1- كلمات الإمام الخميني قدس سره جميعها مأخوذة من كتاب الآداب المعنوية للصلاة.
2- مفاتيح الجنان، الشيخ عباس القمي، ص786.