مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

قيادة الحرب عند الإمام علي عليه السلام

الشيخ حاتم إسماعيل

 



مما لا شك فيه أن علياً عليه السلام يمثل النموذج الأعلى للقائد في تاريخ الإنسانية الطويل، على المستويات كافة، السياسية والفكرية، والإقتصادية، والتربوية، والعسكرية، وغيرها، وبكلمة مختصرة فإنه يمثل حقيقة الخليفة الذي أراده الله تعالى من خلق الإنسان على هذه الأرض، وبهذا فهو عليه السلام الأسوة والقدوة، بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، في مختلف الميادين.

* القيادة العسكرية
ولما كان الإسلام يهدف أولاً وبالذات إلى بناء الإنسان، وإقامة خلافة الله تعالى في الأرض، ونشر العدالة والسلام فيها، فإن إعلان الحرب وتجييش الجيوش ليس أصلاً في هذا الدين، وإن كان ركناً أساسياً في حماية قيمه، وتحصين مفاهيمه، في مواجهة كل ما يواجهه من موجات الظلم والجور. وهذا يقتضي أن يعد العدة لمواجهة كل طارئ، قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ (الأنفال: 60). إن إعداد العدة في مواجهة الأعداء، والعمل على إقامة أحكام الله تعالى، ووضعها موضع التنفيذ، يعني ضرورة الأخذ بوسائل القوة كافة، وأساليب قهر الأعداء، في ما إذا أعلنت الحرب على الإسلام والمسلمين. وهذا ما يتكفل به القائد الناجح، إذ لولا وجود القائد وقدرته وحنكته، لصارت مفاهيم الإسلام، وقيم الإنسانية العليا، في مهب الريح، وأضحت مجرد نظريات لا تمس حياة الإنسان العملية، وبالتالي تنتقض الغاية التي وجد الإنسان من أجلها، وتنتفي أهمية الدين الذي يحميه. ولا شك في أنه لا يوجد من يقارن في قيادته وقدرته مع أئمة أهل البيت وفي مقدمتهم علي عليه السلام.

*التكتيك والهدف
وما دام الهدف بناء الإنسان وتحقيق إنسانيته، فلا يمكن أن تكون الحرب، وتسجيل الانتصارات العسكرية، هدفاً بحد ذاتها، عند علي عليه السلام وغيره من رجال الحق، بل هي وسيلة من وسائل الدعوة، تكون مطلوبة ومرضية، بمقدار ما تؤدي إلى هذا الهدف النبيل.

*اختلاف التكتيك
إن الحفاظ على الإنسان، والسير به نحو الكمال، وتحصيل السعادة في الدارين، من جملة غايات الإسلام وأهدافه، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، إن العمل على تأسيس الدولة، وإقامة بنيانها على أساس العدل، وتحقيق الراحة والاطمئنان، لمن يعيش في كنفها، مسلماً كان أو غير مسلم، من جملة الأهداف التي حرص علي عليه السلام على تحقيقها. ولهذا نجد أن نمط تعامله، في الإعداد للحرب والمواجهة، يعتمد على سياسة الحد من الخسائر ما أمكن، طالما أنه في سبيل تحقيق الهدف الأسمى، الذي يسعى إليه من وراء الحرب.

* تقليل الخسائر
فإذا كانت غاية الإسلام إصلاح الإنسان، والسير به نحو الكمال والسعادة، فإن من الطبيعي أن يعمل على تقليل الخسائر، حتى من الخصوم، والحد منها ما أمكنه إلى ذلك سبيل، أملاً في بخوعهم للحق وقبولهم به. ولذا نراه قد اعتمد في سبيل تحقيق هذا الهدف، سياسة أن تواجه كل قبيلة أختها من جيش الخصوم. ففي حرب الجمل نزل قبالة الخصوم "فنزلت مضر إلى مضر، وربيعة إلى ربيعة، واليمن إلى اليمن"(1). وقد نفذ هذا الأمر بعينه في حرب صفين أيضاً: "فجعلت كندة تقاتل كندة وطيء لطيء، ومذحج لمذحج، والازد للازد، وبجيلة لبجيلة، وهمذان لهمذان، وتميم لتميم، وكل قوم يقاتلون عشائرهم"(2). وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى حرصه عليه السلام على الحفاظ على البنيان الإجتماعي للناس. ذلك أن من أصعب الأمور على النفس الإنسانية قتال العشيرة والأقارب، ولذلك يتردد المرء كثيراً قبل أن يقدم على مثل هذا العمل، بل هو لا يقدم عليه، إلا إذا كان الدافع إليه مبدئياً وإلهياً، بحيث يكون أقوى من رابطة النسب والقرابة. من ناحية أخرى فإن التئام الجرح وذهاب الأحقاد أسرع لدى الأقارب منه لدى الآخرين. ولا يخفى ما لهذا البعد الاجتماعي من أثر على النفس الإنسانية، التي تطمح بذاتها إلى السلام والأمن والدعة، وبه يتحقق الأمن الاجتماعي، ولو بعد حين. وهذا بخلاف ما إذا كانت الدماء والخصومة بين الأباعد، فإنها، إضافة إلى اتصافها بالعنف والشدة، مدعاة لإثارة الأحقاد، على مدى الأجيال، والأخذ بالثأر، ومقابلته بثأر آخر. وهكذا تنتشر العداوة والبغضاء بين الناس، وهو ما لا يتوافق مع تأسيس الدولة، وإقامة العدل بين الناس، وتحقيق الأمن والإستقرار.

* سياسة نبوية
وهذه السياسة ليست جديدة عند علي عليه السلام، فلقد اعتمدها منذ بداياته في الحروب، وتحت كنف النبي صلى الله عليه وآله، كما نراه في معركة بدر، حيث كان الأنصار يشكلون أكثرية المسلمين المطلقة في مقابل المهاجرين، ومع ذلك كان المهاجرون رأس الحربة في تلك المواجهة، بل كان علي عليه السلام نفسه محورها، وهو ما تكشف عنه نتائج هذه المعركة، فقد قتل علي عليه السلام وحده نصف قتلى المشركين، وشارك المسلمين في النصف الآخر، كما صرح به مختلف مؤرخي السيرة النبوية الشريفة. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على حرص علي عليه السلام، مع النبي الأعظم صلى الله عليه وآله، على الحد ما أمكن من إثارة الأحقاد، والطلب بالثأر، بين القبائل العربية.

* الإعداد النفسي للحرب
وما دامت الحرب تعني القتل والموت والدمار، وكل إنسان يحرص بطبيعته على سلامة نفسه، ويبحث عن البقاء ما أمكنه في هذه الحياة، فليس من السهل أن يفرط في حياته. وهذا ما يمكن إدراكه لكل فرد بمجرد رجوعه إلى نفسه، فإن غاية الحروب, أولاً وبالذات، تحقيق النصر، والسيطرة، ما لم تقيدها القيم والمثل الإنسانية العالية. من هنا فإن سياسة علي عليه السلام ارتكزت، في كثير من مفاصلها، على الإعداد النفسي للمقاتلين، ونشر الثقافة الدينية، التي تظهر أن القيم، التي يقاتل المسلم في سبيلها،أسمى من حياة الفرد نفسه. دون أن يهمل الوسائل التي تمكن المرء من الحفاظ على حياته، مع يقينه بأنه لو فقد حياته في الحرب، فإن حياة أخرى أسمى وأشرف تنتظره، في جوار النبيين والصالحين، فهو منتصر على كل حال، وهذا ما لا يحصل لدى الأعداء. وفي هذا المجال نراه يؤكد على حقيقة "إن أكرم الموت القتل، والذي نفس علي بن أبي طالب بيده، لألف ضربة بالسيف أهون علي من ميتة على الفراش في غير طاعة الله"(3). ولا يخفى ما في هذا الإعلان من حث النفوس نحو اقتحام المخاطر، لأنه ما دام فائزاً على كل حال، فلن يحول دون تحصيل بغيته حائل. بينما من يقاتل في سبيل كسب دنيوي، لا يقوى على مواجهة الموت إلا مجبراً، لأنه، والحال هذه، سيرى أن النصر لغيره، لو مات، فهو خاسر على كل حال.

* الإعداد الميداني
وفي وصية له عليه السلام، أوصى بها أصحابه، مبيناً لهم سبل تحقيق النصر، وفنون القتال، اشتملت على مجموعة قوانين لا بد منها في الحروب، سواء كانت بالسيف أم بالرمح أم بالأسلحة النارية، يقول عليه السلام فيها: "فقدموا الدارع، وأخروا الحاسر، وعضوا على الأضراس، فإنه أنبى للسيوف عن الهام، والتووا في أطراف الرماح، فإنه أمور للأسنة، وغضوا الأبصار فإنه أربط للجأش وأسكن القلوب، وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل"(4). ورغم أهمية هذه الوصايا وخطورتها، في إدارة المعركة وتحقيق النصر، إلا أننا سنعرض باختصار شديد للأخيرتين منها، أي غض الأبصار وإماتة الأصوات. أما غض الأبصار, فقد ركز عليه الإمام عليه السلام، في كثير من الموارد، لما له من بعد نفسي على المقاتلين. ذلك أن المرء إذا حدق ببصره تجاه القتل والسيوف، فإنه قد يجبن عن المواجهة، لما يراه من قتل وإطاحة رؤوس، من هنا فإن غض الأبصار سوف يرفع من معنويات المقاتلين وهو ما ينعكس رباطة في الجأش أشد، وأملاً بالنصر أكبر. وأما إماتة الأصوات فيمكن أن يفهم بأحد وجهين كلاهما صحيح، أحدهما: أن الحديث والمناقشة تشغل ذهن المقاتل عن التوجه بكليته إلى مقارعة الأعداء، لما في ذلك من صرف للطاقة الفكرية والبدنية عن المعركة، وهو ما يؤدي إلى الفشل، بخلاف الصمت والتركيز، فإنه أدعى إلى تحقيق النصر. والآخر: أن يكون كناية عن الالتزام بأوامر القائد، وعدم الاعتراض عليها، لما في ذلك من توحيد القوى والجهود، وتوجيهها باتجاه واحد. وهذا من القواعد العسكرية المتسالم عليها في الحروب. بخلاف ارتفاع الأصوات وتعدد الآراء وهو كناية عن الاعتراض على قرارات القائد، فإن عدم الالتزام بأوامر القائد يؤدي إلى الهزيمة لا محالة، فتكون هذه الوصية على وزان قوله تعالى: ﴿لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ (الحجرات: 2). ولهذا علله عليه السلام بقوله "فإنه أطرد للفشل".


(1) الفتوح، ابن أعثم الكوفي، ج2،ص299.
(2) الفتوح، ج3، ص141.
(3) نهج البلاغة، بتحقيق صبحي الصالح، ص180، خطبة 123.
(4) نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، ص180، خطبة 124.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع