الدكتورة نوال حلال
الروح عرضة للإصابة بالأمراض النفسية، كما الجسد عرضةٌ للإصابة بالأمراض العضوية. وفي مجتمعاتنا الحديثة، أصبح مرض الاكتئاب في صدارة قائمة الأمراض النفسية، لما تتعرّضُ له شريحةٌ كبيرة من الناس من ضغوط نفسيةٍ يوميةٍ تفوق قدرتهم على تحمّلها ومواجهتها أو حتى التكيّف معها، مما يؤدي عندهم إلى حدوث مرض "الاكتئاب" كردّةِ فعلٍ على عجزهم عن التصدي لأعباء الحياة وتعقيداتها. وكما أنَّ الأمراض العضوية قابلة للشفاء عبر العلاج، وإهمالها يفاقم من مخاطرها التي قد تهدِّد حياة الإنسان، كذلك الأمر بالنسبة لمرض الاكتئاب، إذ إنه من الأمراض القابلة للشفاء التام مع تداركه بالعلاج قبل أن يتفاقم ويصل إلى مراحل خطيرة قد تؤدي بصاحبه إلى الانتحار...
* ما هو الاكتئاب؟
هو أحد أمراض اضطرابات المزاج، حيث يشعر المريض بحالةٍ من انخفاض المزاج، والحزن الدائم والمتواصل طيلة ساعات النهار، وتتشكل لديه حالة من الإحباط وعدم الرغبة بالقيام بأي عملٍ أو فعلٍ مما يؤثر على فاعليته الإنتاجية والاجتماعية سواءً على صعيد الفرد أو في المجتمع...
* لماذا نصابُ بالاكتئاب؟
يحصل الاكتئاب في حال توفر هذين العاملَيْن أو كليهما مجتمعين:
1ـ عامل بيولوجي: والذي هو نقص في أحد مكوّنات المواد الدماغية، وهذه المادة تدعى "السيروتوينين". وهذا النقص يؤدي إلى الشعور بمزاج مكتئب. إضافة إلى ذلك فإن الخلل في بعض الهرمونات في الجسم يؤدي إلى الشعور بالاكتئاب.
2ـ العوامل الحياتية والبيئية: بحيث يتعرَّض الإنسان لأسباب ومشاكل تؤثر به وتسبب له الشعور بالاكتئاب بعدما تفوق قدرته على تحملها كخسارة مادية، أو وفاة شخصٍ عزيزٍ على قلبه، أو تراكم الضغوط الحياتية، أو مشاكل زوجية وطلاق وغيرها من الأسباب الكثيرة والمتنوعة.
* الاكتئاب والنساء...
أصبح مرض الاكتئاب من الأمراض التي تحتل الصدارة بالنسبة للأمراض النفسية، وهو في تزايد مستمر، ويُتوقع سنة 2012 أن يحتل الصدارة أيضاً في نسبته إلى الأمراض العضوية. والأكثر عرضة للإصابة به هم النساء، إذ إن نسبة الإصابة به "2 إلى 1" قياساً إلى الرجال وقد تكون أكثر من ذلك، والسبب أنَّ المرأة تخضع لتأثيرات هرمونية كالدورة الشهرية، وخللٍ في بعض الهرمونات نتيجة الحمل والولادة. كذلك، فقد أصبح للمرأة دور كبير في الحياة على صعيد العمل، وهي في الوقت نفسه تتحمل أعباء الحياة المنزلية، وتربية الأولاد، والاهتمام بزوجها، فأصبحت في حالة من الضغط النفسي الكبير لتنجز ما عليها إنجازه في الخارج (أي العمل)، وفي الداخل (أي كل ما يتعلق بشؤون المنزل) ما يؤدي في بعض الحالات إلى الإحباط والشعور بالاكتئاب، خاصة إذا لم تتوفر المساندة والدعم النفسي لها من قِبل الشريك...
* حالة اكتئاب ما بعد الولادة
كذلك الأمر بالنسبة لهذه الحالة فإنها نوعٌ من أنواع الاكتئاب يُصيب نسبة من النساء نتيجة خلل في هرمونات الجسد، أو جرّاء العبء الجديد في كيفية التعامل مع مولودٍ جديد أفسد نظام حياتها، إذ يتوجب عليها أن تسهر لأجله ليلاً، فيما تقوم بكامل الواجبات الملقاة على عاتقها نهاراً، مما يشكل عندها الشعور بالاكتئاب.
* عناصر الاكتئاب
* هل أنَّ كلَّ من لا يشعر بالسعادة هو "مكتئب"؟
في حالات الأمراض العضوية، يتم تشخيصها بناءً على أعراض فيزيولوجية يشعر بها المريض ويُجري لها الفحوصات المخبرية اللازمة، أما في مرض الاكتئاب فهناك مجموعة من العناصر يجب أن تتوفَّر في الشخص المصاب به:
1ـ فقدان المتعة بأيِّ شيء في الحياة.
2ـ المزاج المكتئب طيلة ساعات النهار بشكلٍ متواصلٍ ولفترة أسبوعين على الأقل.
ثمّ بعد هذين العارضين يجب أن تتوفر خمسة أعراض من الأعراض السبعة المذكورة:
1ـ النسيان وانعدام التركيز.
2ـ حالة من التعب والوهن الجسدي يتركز عند المفاصل أكثر من بقية الأعضاء ويشعر المريض بعدم القدرة على القيام بالأعمال.
3ـ اضطراب في النوم (زيادة أو نقصان).
4ـ اضطراب في الوزن نتيجة الاضطراب في تناول الطعام زيادةً أو نقصاناً.
5ـ الشعور بالذنب تجاه نفسه فيرى أنه سبب كل المشاكل التي تواجهه.
6ـ الانزواء والعزلة عن الناس.
7ـ النظرة السلبية وانعدام الثقة بالنفس إذ يعتبر أنه إنسان فاشل ويبدأ باستحضار كل المواقف السلبية التي تعرَّض لها وينسى كل عمل جيد قام به وحققه.
* مخاطر هذه الحالة
وربما يتساءل هنا بعض الناس عن أن الشخص المصاب بالاكتئاب قد لا يعرف أنه مريض وعليه معالجة نفسه، وهنا قد يحتمل تطور الحالة لديه دون أن يدرك. والجواب أن علامات هذا المرض يشعر بها المريض والمحيطون به من حوله إذ يدركون كم تسوء حالته النفسية. وهنا يتوجب عليهم مساندته ومساعدته بالعلاج عبر الطبيب المختص. لأنه إذا ما تطورت الحالة لديه وأصبحت في مراحلها القصوى فإن أفكار تمني الموت تجتاحه ثم يبدأ التفكير بالانتحار كي يتخلص من نفسه ومن مشاكله.
* كيف تتخلص من الاكتئاب؟
أثبتت الإحصاءات العالمية أن 50 % من أسباب الانتحار في العالم تعود للإصابة بمرض الاكتئاب. ومن هنا تكمن أهمية العلاج لأن المقدور عليه من حيث الشفاء التام يعني القدرة على تخفيض نسبة الانتحار إلى 50% في العالم. وعلاجات أمراض الاكتئاب بدأت أولاً في مجتمعاتنا العربية حيث كانت بغداد ودمشق أول من خصصت مستشفيات لأجل هذه الغاية. أما العلاج فيكون عبر:
1ـ أدوية مضادة للاكتئاب: وقد ذكرنا أنَّ عامل انخفاض المزاج يعود لنقص في مادة "السيروتوينين" فتناول الدواء يساعد على تعديل هذه المادة. ولقد ثبت من خلال التجارب أن بعض المرضى الذين خضعوا لعلاجات نفسية ولمدة طويلة فشل علاجهم بسبب عدم استخدام أدوية مضادات الاكتئاب في حين نجح العلاج النفسي وحده دون الدواء عند بعضهم الآخر لعدم نقص هذه المادة في دماغهم.
2ـ العلاج النفسي: يترافق العلاج النفسي مع العلاج الدوائي عبر جلساتٍ يفرِّغ المريض من خلالها كل الأمور التي أدّت به للإصابة بالاكتئاب. وهنا يقوم الطبيب بدوره بتحليلها وإيجاد الحلول لها...
* هل يغيِّر الطبيب واقع المرضى ليعالج اكتئابهم؟
الطبيب لا يستطيع أن يغير واقع كل المرضى، إذ تتنوع الحالات. وإذا استطاع الطبيب مساعدة المريض الذي يعاني من مشكلةٍ في حياته الزوجية عبر جعل الشريك الآخر يقف إلى جانبه، فإنه لن يستطيع تغيير واقعٍ بكامله لدى مريضٍ آخر في عمله، مثلاً. لكن المهم في خطوات العلاج أن يصرّح أولاً بما يشعر به، وهنا يأتي دور الطبيب والكاريزما التي يجب أن يتمتع بها فيعلمه طرق التكيّف مع الواقع وتقبّله للأمور وتنمية الثقة في نفسه حتى يبدأ ينظر للأمور بإيجابية أكثر وشجاعة على مواجهة المشاكل التي تعترضه.
* توقَّفَ عن متابعة الدواء فَقَتَل نفسه
إذا أردنا شرح هذه المسألة من ناحية التفصيل العلمي؛ فالمريض الذي وصل إلى درجة خطيرة من حالة الاكتئاب لا يقدم على تنفيذ الانتحار لوهنه الجسدي، لذلك عندما يبدأ العلاج بتناول مضادات الاكتئاب التي تجعل منه حيوياً ونشيطاً فإنه يُتخوف عليه من الإقدام على الانتحار؛ وذلك لأن كل مفاعيل مضادات الاكتئاب بحاجة إلى يوم حتى تعدل المزاج ولذلك يترافق مع إعطاء مضادات الاكتئاب في الفترة الأولى الأدوية المهدئة لضمان سلامته. وفي هذه الفترة إذا توقف عن تناول الأدوية فقد يُقدِم على الانتحار ليس بسبب الدواء إنما لأنه وصل إلى مرحلة خطرة جداً من حالة الاكتئاب فيكون السبب المرض وليس الدواء كما يعتقد الكثيرون.
* نصيحة أخيرة
لقد أعطانا الإسلام الكثير من العِبر كي نكون سعداء في علاقتنا بأنفسنا، والآخرين. فالكلمة الطيبة صدقة. وما أحلى وصية الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله عندما قال: "تهادوا تحابوا" فيمكن لهدية صغيرة رمزية "كوردة" أن تزيح أعباءً ثقيلة عن كاهل الآخر سوأ كان "شريكاً" أم صديقاً... وتجعله يشعر بأن هناك من يشعر به ويقدره.