مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

لكل قائد ومسؤول

السيد عباس نور الدين

 



نتوقف عند بعض المقاطع الأخلاقية الواردة في عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الأشتر لمّا ولّاه مصر، لنستلهم منها بعض الدروس والعبر. هذا، وإن كان العهد كله يمثل دستوراً جامعاً للأخلاق القيادية والسيرة الإدارية التي ينبغي أن ينتهجها كل من يتحمل مسؤولية المجتمع والناس والموارد المختلفة.

* العلاقة بالله
مما جاء في العهد عن العلاقة بالله أنه عليه السلام أمره "بتقوى الله، وإيثار طاعته، واتِّباع ما أمر به في كتابه: من فرائضه وسننه، التي لا يسعد أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها" (1). فتقوى الله مفتاح كل فلاح، وعصيانه سبب كل شقاء. وإذا كان من الممكن أن يحقّق الإنسان نجاحاً ما في أحد المجالات بعيداً عن التقوى، فإنّ هذا النجاح يكون سبباً في شقائه وازدياد عذابه. وإنّ أي نصر يناله من خلال معصية الله سيزيده ضلالةً وحيرةً. وإذا كانت الآخرة حصاد الدنيا الفانية فزرعها وزادها التقوى. قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِين (المائدة: 27).

* تهذيب النفس
وأمره "أن يكسر نفسه من الشهوات، ويزعها عند الجمحات (2)، فإن النفس أمارة بالسوء، إلا من رحم الله" (3). قد يُظَنُّ أنَّ المرء إذا وصل إلى المناصب العالية، يصبح آمناً من الغواية. وعليه، فلا يحتاج إلى الوعظ والإرشاد. ولكن أمير المؤمنين عليه السلام يعلّمنا في هذا العهد أنّ كل إنسان مهما بلغ من مرتبةٍ في الدنيا فهو بحاجةٍ إلى من يرشده. حتى أن أمير المؤمنين عليه السلام نفسه كان يُطالَب من بعض أصحابه أحياناً أن يقف على المنبر لِيَعِظَهُم، وذلك لأن الأصل في المسألة هو أن النفس إذا تُركت وشأنَها تسقط في أسفل سافلين، وأن الركون إلى المنازل والمقامات من أعظم أسباب الهلكة، بل هو الهلاك بعينه، كما يقول الخميني قدس سره في الآداب المعنوية للصلاة. الأصل إذاً، هو أن الإنسان في خُسر، والاستثناء هو من يفوز برحمة الله ورعايته. ولا يُنال ذلك إلا بالانتباه من الغفلة وصيانة النفس من الوقوع في حضن الشيطان الذي جهّز أفخاخ الشهوات والأهواء، "حُفّت النار بالشهوات" (4). والشهوة المذكورة هنا هي كل رغبة جسدية تزيد عن الحد المطلوب، لأن جسم الإنسان له حدّ من الحاجات. وقد يتوّهم صاحبه أنه بحاجة إلى المزيد نتيجةَ الوقوع في أسر الوهم. لذا ينبغي التعامل مع النفس دائماً على قاعدة الاتهام وسوء الظن، وطلب الهداية والتأييد من الله تعالى.

* قصة عن الشهيد رجائي
ينقل أحد عمّال التنظيفات في مبنى رئاسة الجمهورية الإسلامية أن الشهيد محمد علي رجائي عندما كان رئيساً، استدعاه ذات يوم، وقال: "سأطلب منك طلباً ولا أريدك أن تخالفه". فقال هذا العامل: "بكل سرور، روحي فداك"، قال له الشهيد رجائي: "أنت تعلم أنني أنا وأنت نأتي كل يوم صباحاً قبل مجيء الجميع. فأريدك أن تدخل عليّ كل صباح دون استئذان، وتقول لي: محمد علي! لا تنسَ أنك كنت بائعاً متجوّلاً في أزقة طهران".

* تجاوز الأنا
"فاملك هواك، وشحّ بنفسك عما لا يحل لك، فإن الشحّ بالنفس (الأنفس) الإنصاف منها فيما أحبَّت أو كرهت"(5). هوى النفس هو كل أمر يصدر عنها حسناً أو سيئاً. وبما أن الأصل في التعامل مع النفس هو سوء الظن والتهمة الدائمة كما في كلام أمير المؤمنين عليه السلام في وصف المتقين: "فهم لأنفسهم متَّهمون" (6)، لهذا يجب مخالفة الهوى مطلقاً. وهذا لا يحصل إلا بطاعة الله مطلقاً. فقد تأمر النفس بأمر حسن إلا أن موقعه لا يكون مناسباً ويؤدّي إلى السوء. وعليه، يجب أن لا تُطاع النفس بشيء، بل الطاعة المطلقة لله بالرجوع إلى أحكام دينه. وحيث إنّ حدود سلطة القائد تتّسع باتّساع مسؤوليته، فقد تزيّن له نفسه الانتفاع الشخصي من السلطة، ويجد فيها رغبةً جامحةً للاستفادة. والإنصاف يقتضي أن لا يترك النفس تتّخذ القرارات من المنظور الذاتي.

* حبُّ الناس
"وأَشْعِر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونَنَّ عليهم سَبُعاً ضارياً (ضارباً) تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخٌ لك في الدين، أو نظيرٌ لك في الخلق"(7).  السعي لخدمة الناس، التي تعتبر من الأهداف الأساس للحكومة الإسلامية، لا يمكن إلا مع وجود محبةٍ خاصةٍ لهم في القلب. فما يدفع الإنسان للخدمة إما أن يكون الانتفاع المادي، وهذا الأمر لا يستمر مع وصوله إلى مراتب عليا في القيادة، أو أن يكون الحب الذي يجعل صاحبه قادراً على تحمّل أعباء الخدمة الثقيلة. فليست خدمة الناس بالعمل العادي، لأنها غالباً ما تتطلب تحمّل أذيتهم أو إلحاحهم أو طلبهم ما لا يستحقون. وهم بين جاهلٍ أو صاحب حاجة. وصاحب الحاجة – كما في المثل أعمى لا يرى ما وراء حاجته. ولعلّنا قرأنا قصة النبي صلى الله عليه وآله مع ذلك الأعرابي الذي قام أمام أصحابه يطالبه بحصته من الغنائم وبشدّة، فانتفض أصحاب النبي مغضبين، فهدأهم صلى الله عليه وآله وأمر له بحصّته. مع أن ذلك الأعرابي لم يكن قد شارك في تلك الغزوة. لقد تجاوز الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله هذا الموقف الأرعن لرجل لا يستحق شيئاً من تلك الغنائم. وقابله بابتسامة أدهشت الأصحاب، ثم قدّم حصته متنازلاً عن حقّه.  يقول الإمام الخميني قدس سره: "لماذا كان النبي الأكرم صلى الله عليه وآله يأسف ذلك الأسف المرير على عدم إيمان المشركين إلى الحد الذي خاطبه الله تعالى بقوله: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (الكهف:6)؟ فليس هذا سوى أنه عشق جميع عباد الله، وعشق الله هو عشق تجلّياته... أنا وأنت إذا وُفّقنا لإيجاد بصيص من هذا العشق لتجلّيات الحق الموجود في أولياء الله في أنفسنا، وأردنا الخير للجميع، فقد بلغنا مرتبة من الكمال المطلوب" (8).

إدراك حقيقة النفس
والقاعدة التي نؤسس عليها هذه الأحاسيس والتوجهات الحبّية اللطفيّة هي إدراك حقيقة النفس بأنها لا شيء، وأن أي كمال حصلنا عليه هو محض التفضل من الله. فكيف نتفاخر على غيرنا بما لا نملكه؟! ويذكر الإمام قدس سره هذه القصة مشيراً إلى هذه القاعدة قائلاً: " يروى أن الله قد خاطب أحد أنبيائه عليهم السلام، فطلب إليه أن يأتيه بمخلوق أسوأ منه. فقام النبي عليه السلام بعدها بسحب رفاة حمار قليلاً، إلا أنّه ندم فتركها، فخوطب بالقول: لو أنك أتيتني بتلك الجيفة لكنت سقطت من مقامك.  وإنّي لا أعرف مدى صحّة الحديث، ولكن لعلّ الأمر بالنسبة لمقام الأولياء يُعد سقوطاً حينما يرون الأفضلية لأنفسهم على غيرهم، فتلك أنانية وغرور"(9). ولا شك بأن هذه القاعدة تشمل العصاة أيضاً، وليست منحصرة بين المؤمنين أنفسهم، بل على المرء أن لا يتفاخر بنفسه على الآخرين ولو كان عاصياً. وإن من الابتلاءات الكبرى للقائد أنّه يشاهد معاصي الناس أكثر من غيره. كما يصطدم كل يوم بسقوط مؤمن هنا ومؤمن هناك. والإمام الخميني قدس سره يبين هذه النقطة في تحرير الوسيلة – باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – فيقول: "..على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن لا يرى نفسه منزّهة، ولا لها علواً أو رفعة على المرتكب. فربما كان للمرتكب ولو للكبائر صفات نفسانية مرضية لله تعالى، أحبّه تعالى لها وإن أبغض عمله. وربما كان الآمر والناهي بعكس ذلك وإن خفي على نفسه" (10).


(1) نهج البلاغة، ج 3، خطبة رقم 53، ص 83.
(2) أي يكفها عن مطامعها إذا جمحت عليه.
(3) نهج البلاغة، م. س، ص 83.
(4) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 67، ص 78.
(5) نهج البلاغة، م. س، ص 84.
(6) مكارم الأخلاق، الشيخ الطبرسي، ص 476.
(7) نهج البلاغة، م. س، ص 84.
(8) وصايا عرفانية، الإمام الخميني قدس سره، ص29-30.
(9) م. ن، ص 29.
(10) انظر: تحرير الوسيلة، الإمام الخميني قدس سره، ج 1، ص 481

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع