مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

مداراة بلا نفاق

السيد علي حجازي

 



كثيرةٌ هي المفاهيم التي تتشابه وتتداخل. وكثيرةٌ هي المفاهيم التي يتراءى منها التشابه، والتي قد تكون في واقعها متباينةً… من هذه المفاهيم مفهوما النفاق والمداراة، حيث يُظنُّ أنَّهما متداخلان ولكن واقعهما الاختلاف. النفاق في اللغة هو الفناء والنقصان والإخفاء والخروج. والمداراة لغةً هي الليونة ولطافة المعشر. والنفاق اصطلاح إسلامي، لم تعهده العرب من قبل، وهو إظهار الإيمان أو الإسلام وإخفاء الكفر، وهو مأخوذ من المعنى اللغوي. ووجه التشابه بين النفاق والمداراة هو وجود إظهار وإخفاء. ففي المدارة إظهار الليونة والقرب والانسجام وإخفاءٌ ما! ولكن في التمعُّن بحقيقة المعنيين يظهر التباين. والكلام في كلٍّ من النفاق والمداراة من وجوه، فتارةً نتحدَّث عنهما من الناحية السلوكية الاجتماعية وأخرى من ناحية الإيمان والإسلام.

* النفاق في التاريخ
ترجع بدايات حركة النفاق إلى بدايات الإسلام على مبدأ مواجهة الإسلام من الداخل. وحركة النفاق تتمثل باتجاهين:
1ـ ما هو معروف من أجل تقويض الإسلام وهدم أركانه وإضعافه من داخله وحبك الدسائس والمؤامرات لإسقاطه.
2ـ ما يعمل من أجل تحقيق مكاسب دنيوية، من خلال استغلال سلطة الإسلام. وهذا النحو لا يعمل على إضعاف الإسلام، بل بالعكس يعمل على تقويته كي يحقق إطاعة سلطته وتثبيتها.

ولهذا النحو جذور تاريخية عند اليهود خصوصاً كأهل كتاب وعند العرب عموماً. ولهذا ورد أن رجلاً من بني عامر قال في حق رسول الله صلى الله عليه وآله "والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب" (1). وهذا كلام واضح الدلالة على مستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وما يدعو له. وهذا ما ذكره القرآن الكريم عن اليهود بمعرفتهم بشخص النبي صلى الله عليه وآله وصفاته وعصره، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ (البقرة: 146). ولهذا كان اليهود يتحدثون عن النبي صلى الله عليه وآله بأنه النبي الخاتَم. هذا الواقع لرسول الله صلى الله عليه وآله كان معروفاً وشائعاً. وهذا ما فتح الباب أمام حركة النفاق من النحو الثاني، وكذلك هو باب للنفاق من النحو الأول للمواجهة من البداية. وقد شهدت بدايات تاريخ الإسلام حركةَ نفاقٍ كبيرة، كان لها حضورٌ بارز في المدينة خاصةً، ومن نتائجها مسجد ضرار. وكان أهم أركانها كعب الأحبار اليهودي وعبد الله بن أبي سلول من المدينة. وهاتان الشخصيتان جمعتا النحوين من النفاق، حيث كان لكعب الاحبار مقام في الدولة الإسلامية بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله، بل كان في مركز القرار للدولة الإسلامية.

هل النفاق مدنيٌّ فقط؟
إن حركة النفاق نشطت في المدينة المنورة. والقرآن ذكرها صراحةً بقوله تعالى: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (التوبة: 101)، وقوله تعالى: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَ قَلِيلاً (الأحزاب: 60). ولهذا يقال إن النفاق موطنه المدينة ولا وجود له قبل ذلك في مكة؛ خاصة مع القول إن حركة النفاق نشأت في ظلّ قوة الإسلام وهيمنته إما خوفاً وإما لمواجهته داخلياً. وحيث إن الإسلام في مكة كان ضعيفاً ملاحقاً فلا مورد للنفاق على النحو الثاني، أما المورد الأول فهو يستدعي نشوء النفاق في مكة طمعاً أو استعداداً للمواجهة خاصة وأن المواجهة مع الضعف أسهل وأنجع. وهناك آيتان من سورة العنكبوت المكية تشيران إلى المنافقين، قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ وَلَئِنْ جَاء نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (العنكبوت: 10 11). فالنفاق كان منذ أن كان الإسلام، ولكن امتداده بالمعنى المصطلح إلى يومنا هذا إما معدوم أو نادر؛ وذلك لليأس من القضاء على الإسلام أو من إضعافه، ولكن صراع الحق مع الباطل لا ينتهي، فتبقى بذرة النفاق غضَّة مع الزمن. أما النحو الثاني وهو نفاق الطمع فيزداد كلما قوي الإسلام وانتشر، ولم يخلُ منه وقت. وحيث إنَّ النفاق عدو داخلي مستور فهو أخطر من الكفر الظاهري. ولهذا ورد أنَّ النفاقِ أسوأ من الكفر (2). وعن رسول الله صلى الله عليه وآله: "مَثَلُ المنافق مَثَلُ جذع النخل، أراد صاحبه أن ينتفع به في بعض بنائه فلم يستقم له في الموضع الذي أراد، فحوّله في موضع آخر فلم يستقم له، فكان آخر ذلك أن أحرقه بالنار" (3).

وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "النفاق على أربع دعائم: على الهوى والهوينا (4) والحفيظة (5) والطمع. فالهوى على أربع شُعبَ: على البغي والعدوان والشهوة والطغيان... والهوينا على أربع شُعبَ: على الغرّة والأمل والهيبة والمماطلة...، والحفيظة على أربع شُعبَ: على الكبر والفخر والحمية والعصبية...، والطمع على أربع شعب: على الفرح والمرح واللجاجة والتكاثر..." (6). وهنا معنى النفاق لا يخرج صاحبه من الإسلام، ولكن ينقص إيمانه. فعن الإمام الصادق عليه السلام: "إياكم والخصومة فإنها تُشغل القلب وتورث النفاق" (7)، وعنه عليه السلام: "إنَّ الفحش والبذاء والسلاطة (8) من النفاق" (9)، وعنه أيضاً عليه السلام: "أكل الطين يورث النفاق" (10). وعنه عليه السلام: "الغناء يورث النفاق..." (11)، وغيرها من الروايات الكثيرة.  والظاهر أنَّ هذا المعنى ليس المعنى الاصطلاحي نفسه الذي هو كفر حقيقي، وإنما هو بمعنى نقصان الإيمان؛ لأن كل ما ذكر نهت عنه الشريعة، فارتكابه يكشف عن نقصٍ في الإيمان. فكيف يدعي شخص الإيمان ثم يمارس خلافه؟ فهو إخفاء لما يصدر عنه، وهذا نفاق.

* حقيقة المداراة
وأما حقيقة المداراة فلم يؤخذ في مفهومها إخفاء شيء وإظهار ما يتراءى أنه خلاف واقع الشخص، لأنّ الذي يداري يدور أمره بين أن يعتمد اللطف واللين أو العنف والقسوة بنحو يؤذي الآخرين. فهو إذاً يرتبط بالجانب السلوكي.  ولا تحكي المداراة عن إيمانٍ مخالفٍ للظاهر، بل معنى المداراة أن تبقى على نفس ما أنت عليه من إيمانٍ وعقيدة؛ فمثلاً المسلم المؤمن لا ينسجم مع الكافر فهنا المداراة أن تنسجم معه وأنت مسلم ومؤمن من حيث العمل، وإلا فلو كانت المداراة تستدعي الانسجام مع الآخر بالعقيدة والإيمان لما بقيت مداراة وللزم من وجودها عدمها؛ لأنها تلغي الجهة التي تستدعي المداراة وهي عدم الانسجام الناشئة من اختلاف العقيدة، ولهذا فلا مداراة إلا مع المحافظة على ما أنت عليه من إيمان وعقيدة وتعمل بما يلائم الآخر المخالف لك في العقيدة. ولهذا كانت المداراة تؤكد الإيمان، بخلاف النفاق الذي حقيقته الكفر. وفي النفاق إظهار الإيمان لأجل الملاطفة مع الآخر، إما خوفاً ومواجهةً ومكيدةً وإما طمعاً. وهذا من الناحية الإيمانية.

* المداراة كمال للإيمان
والمداراة ليست من نقص الإيمان، كما مرّ في النفاق، بل المداراة إكمال للإيمان، بل عدمها نقص. فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "ثلاث من لم يكنّ فيه لم يتم له عمل: ورع يحجزه عن معاصي الله، وخُلُق يداري به الناس، وحلم يردّ به جهل الجاهل"(12)، لأنَّ من أسس الإيمان الأخلاق الحميدة ومعاشرة الناس، ومن لا يداري ويلاطف الناس فقد تصدر عنه الخشونة وتنفر منه الناس. وفي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "جاء جبرائيل إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا محمد ربك يقرئك السلام ويقول لك: دارِ خلقي" (13). إنَّ هذا الأمر بالمداراة هو لنشر الدعوة واستجلاب الناس بالمعاملة الحسنة، وقد قال تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَة (المؤمنون: 96)، و﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (آل عمران: 159). وعن رسول الله صلى الله عليه وآله: "أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بالفرائض"(14). فجعلت المداراة في المطلوبية والمرغوبية كالفرائض اليومية، وفي رواية أخرى عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "مداراة الناس نصف الإيمان" (15). إذاً لا يكمل الإيمان إلا مع المداراة، إذ لولا المداراة لاشتغل القلب والنفس والفكر بمحاججة الناس ومجادلتهم والتغلب عليهم، وهذا يفرغ القلب والعقل من التوجه نحو الله والعيش معه، ويلهي النفس عن العمل الصالح، حيث إن الإيمان عبارة عن توجه القلب نحو الله وترك التعرض لما عداه، وهذا نصف الإيمان، والنصف الآخر المداراة التي تهيئ الإنسان للعمل الصالح.

* بين الخديعة ومحض الإيمان
ولهذا نجد أنَّ المداراة يُنظر إليها تارةً من ناحية الإيمان والكفر فهي ضد النفاق؛ لأنها تؤكد الإيمان، وتارةً من ناحية الإيمان ونقصه فهي الوجه الأكمل إن لم نقل الكامل للإيمان، مضافاً إلى مطلوبيتها شرعاً، فهي جزء من منظومة الإيمان التزاماً وعملاً، ويُنظر إليها تارة من ناحية الأخلاق الاجتماعية فهي أمر حسن عقلاً وعقلائياً؛ لأن الاجتماع الإنساني قائم على لِين العريكة وحسن العشرة والملاطفة والمداراة. وقد تعرَّض الفقهاء لحكم المداراة من الناحية الفقهية، وجعلوا لها الأحكام التكليفية الخمسة، فجعلوا منها التقية الواجبة. إذاً، لا نفاق مع المداراة؛ لأن المداراة محض الإيمان أو امتثال لأمر الشرع والدين، كما أن لا مداراة مع النفاق لأن النفاق خديعة، وخُلقٌ سيىء ومنهيٌّ عنه شرعاً.


(1) السيرة النبوية، ابن هشام، ج 2، ص 289.
(2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ناصر مكارم الشيرازي، ج 3، ص 374.
(3) الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 396.
(4) الهوينا وهو من الهون: الرفق واللين والتثبت، والمراد هنا: التهاون في أمر الدين وترك الاهتمام به.
(5) الحفيظة: الغضب والحمية.
(6) شرح أصول الكافي، المازندراني، ج 10، ص 81.
(7) وسائل الشيعة (آل البيت)، الحر العاملي، ج 12، ص 237، ح 5.
(8) السلاطة: حدة اللسان وشدته.
(9) الكافي، م. س، ج 2، ص، 325.
(10) المحاسن، البرقي، ج 2، ص 525.
(11) الخصال، الشيخ الصدوق، ص 25.
(12) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 26، ص 116.
(13) م. ن، ج 72، ص 427.
(14) الكافي، م. س، ج 2، ص 117.
(15) م. ن.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع