"آباء حاضرون غائبون وآخرون غائبون حاضرون". إنّها ليست
أحجية بل واقع يرخي بظلاله وتداعياته على العديد من الأسر على اختلاف وعيها التربوي
ووضعها الاقتصادي، واقع سببه إما غياب قسري لبعض الآباء فرضته ظروف الحياة المختلفة،
وإما غياب طوعي سببه التهرب من المسؤولية التربوية تجاه الأبناء وإن بأوجه وأشكال
مختلفة. فالأب يحتل مكانة مميزة بالنسبة للأسرة، فهو من يؤمّن استقرارها المادي
والمعنوي، ويشرّع القوانين التي توجه وتضبط سلوك الأبناء، والأهم أنّه يشكل القدوة
لهم مما يسهم إلى حد كبير في تكوين شخصيتهم وإضفاء التوازن عليها، كما إنّه يلعب
دوراً هاماً في تماسك الأسرة واستمرارها، وفي غيابه زعزعة لاستقرار الأبناء النفسي
والعاطفي والسلوكي وتفكيك للروابط الأسرية وغيرها من الآثار التي لا تنتهي.
لسنا
بصدد إدانة آباء وتبرئة آخرين، فالحكم الأوّل والأخير هو للزوجات والأبناء الذين
يعانون مشكلة غياب دور الأب، وفي الآتي صور من ذلك الواقع تحكي معاناة العديد من
الأسر جراء غياب الدور التربوي لبعض الآباء الّذين نسوا أن للأبناء حقاً عليهم كما
أن لهم حقاً على أبنائهم.
* رغم ضغط العمل لأولادي حق علي
يؤكد محمد ز. ( 36 سنة، موظف، أب لثلاثة أولاد): "أولادي هم كل شيء في حياتي فأنا
أعيش وأعمل لأجلهم". هذا ما تعنيه الأسرة بالنسبة لمحمد الذي وبالرغم من التعب وضغط
العمل، فإنه لا يوفر جهداً في سبيل إسعاد أولاده: "بمجرد عودتي من عملي أنسى تعبي،
ويكون وقتي حينها ملكاً لأولادي، فللعمل حقه ووقته وللأسرة أيضاً". هذا الدور الذي
تكلم عنه محمد يترجمه من خلال رعايته لأولاده، بالاهتمام بمشاكلهم واللعب والخروج
معهم للتسلية والترفيه. ويتحدث محمد عن وظيفة الأب تجاه أسرته بقوله: "الأب هو
المرشد لأولاده، يعلمهم كيف يتدبرون ويسيّرون أمورهم، وكيف يتحملون المسؤولية في
البيت وخارجه، وكيف يتعاملون مع الآخرين وأنا أحاول أن أفعل ذلك"، مضيفاً أن الأب
يقوّي شخصية أولاده وإذا ترك المسؤولية كلها على عاتق الأم فسيكونون ضعفاء الشخصية
كون شخصية الأب مختلفة عن شخصية الأم. وحول الآباء الذين يهملون أولادهم دون
عذر مبرر، يعتبر محمد أن: "الأب في هذه الحالة يكون أنانياً، لا تعني له أسرته شيئاً،
وعندما يكبر سيجد أولاده بعيدين عنه، لا عاطفة في قلوبهم تجاهه، ولن تكون هناك
روابط عائلية قوية بينهم".
* ضعفت سلطته على أولاده
غادة ك. ( 45 سنة، ربة منزل، أم لأربعة أولاد ) تشكو غياب زوجها قائلة: "يغيب زوجي
عنا بين اليومين والثلاثة أيام، مع أنّه يحب أولاده ويهتم بشؤونهم عندما يعود، إلّا
أن ذلك غير كافٍ، فعندما نحتاجه لا نجده أحياناً". غياب الزوج عن المنزل سببه زواج
ثانٍ كان بالنسبة لأسرة غادة باباً مفتوحاً على المشاكل، ممّا أضعف صورة الأب وألام
معاً أمام أولادهما، لافتة إلى أن المشكلة ليست في الزواج الثاني بحد ذاته، فإذا
كان هناك عدل في الحضور في كلا البيتين، فلن يشعر الأولاد كثيراً بغياب والدهم،
وستضبط أمورهم. كان الإحساس بغياب دور الأب بالنسبة لأسرة غادة يكبر، خاصة عند حدوث
مشاكل خاصة بالأولاد تحتاج لقرارات صلبة وحاسمة. ومن آثار ذلك الغياب كان تأثر
الأولاد النفسي والذي أثّر بدوره على تحصيلهم العلمي، ممّا حدا ببعضهم إلى ترك
مقاعد الدراسة باكراً واللجوء إلى رفقة السوء لغياب من يرشدهم ويصوب خياراتهم.
كما لفتت غادة إلى أن سلطة الأب على أولاده ضعفت، فأحياناً كانوا يتنصلون من تطبيق
قراراته ووعودهم له، لأنه لم يكن يراقب سلوكهم دائماً، وعندما يفترض أن يكون موجوداً
ليضبط تصرفاتهم يكون غائباً عنهم.
* غائب، لكنه حاضر
إنّها ظروف الحياة الصعبة التي اضطرت السيّد أحمد (50 سنة، أب لأربعة أولاد) للغياب
عن أسرته لتأمين عيشة كريمة لهم، عن وضعه يقول: "عملي يضطرني للغياب عن أولادي
بحدود الاثني عشر يوماً تقريباً وإذا تقاعست وبقيت بجانبهم عندها سأكون مأثوماً
أمام الله تعالى". طبيعة عمل السيّد أحمد تفرض عليه الغياب عن أسرته بين الحين
والأخر، لكنّه حاضر يقوم بدوره في تربية أبنائه، عن هذا يقول: "رغم غيابي عن المنزل
فأنا أستطيع ضبط وتسيير أمور أولادي. فهناك قواعد وضوابط موضوعة بالتفاهم بيني وبين
زوجتي". السيّد أحمد يرجع قدرته على رعاية شؤون أولاده رغم غيابه إلى الالتزام
الديني والتربية الإسلامية الصحيحة: "إنّ وجود تربية إسلامية منذ الصغر أمر سيضبط
أمور الأولاد عند الكبر حتى في ظل غياب الأب". إضافة إلى أن التواصل لا ينقطع بين
السيد أحمد وأولاده فهو يتابع أخبارهم من خلال الاتصال اليومي بهم. ومن ناحية أخرى
ينفي وجود آثار سلبية بسبب غيابه، مؤكداً: "لا يتأثر أولادي أبداً بسبب غيابي، فقد
تعودوا على ذلك، كما أني أحاول أن أعوض عنهم بالاطلاع أكثر على أمورهم والخروج معهم
إلى أماكن كثيرة نقضي فيها وقتاً مسلياً".
* غياب القوة والتوجيه والإرشاد
تقول ردينة ج. (30 سنة، ربة منزل، أمّ لولدين): "أبي غائب عنا منذ عشرين سنة فهو
مسافر ولم أره منذ ذلك الوقت". ردينة تتواصل مع والدها عبر وسائل اتصال
مختلفة، لكن رغم ذلك تقول: "في ظل غياب والدي أشعر أن هناك ما ينقصني، فالأب أساس
البيت وأشعر بالحزن الشديد لغيابه". صحيح أن ردينة تعذر والدها على غيابه
بسبب ظروف خاصة به، لكن هذا لا يمنع أن حياتها تأثرت سلباً: "غياب والدي أثّر عليّ
كثيراً فاتخذت قرارات خاطئة في حياتي، هناك أمور تتطلب وجوده كي يتخذ القرار الصحيح
والحاسم فيها". وحول قرارات والدتها فيما يخصهم تؤكد ردينة: "كنا نقف ضد العديد
منها حتى لو كانت صحيحة وتصب في مصلحتنا، لكن لو كان أبي موجوداً لكان أجبرنا على
تطبيق قراراته بسلطته علينا، أما عاطفة الأم فهي تجعلها ترضخ لما يريده أولادها
وليس العكس". وعما كان ينقص ردينة في ظل غياب والدها غير ذلك: "في غياب والدي أحسست
بالضعف، فالقوة في مواجهة صعوبات الحياة يستمدها الأولاد من الأب، فأنا ضحيت كثيراً
كي لا أسبب مشاكل لإخوتي، فلو كان أبي بجانبي لكنت قوية وأخذت حقي، لأنه السند
الوحيد القادر على حماية أسرته".
* حضوره ومساعدته سعادة لنا
تقول رانيا ط. ( 33 سنة، ربة منزل، أم لثلاثة أولاد): "زوجي يعمل منذ الثامنة صباحاً
وحتى الخامسة عصراً ومع ذلك عندما يعود من عمله فإنّه يهتمّ بأولاده كثيراً ويلعب
معهم ويساعدني في كلِّ شيء يخصهم ويعاملنا أفضل معاملة ويهتم بسعادتنا". نموذج من
الاهتمام الأبوي يغني الأسرة ويعكس جواً من التعاون والترابط الأسري، فيكون الأب
قدوة لأولاده يتمثلون بها عندما يكبرون. عن تأثير ذلك الاهتمام تقول رانيا: "إن ذلك
يريح نفسية الزوجة مما سيجعلها تعامل زوجها وأولادها أفضل معاملة الأمر الذي سيبعد
المشاكل وسيؤثر إيجاباً على تربية الأولاد". من ناحية أخرى ترى رانيا أن الأمّ لا
تستطيع تعويض غياب الأب، فالولد يخاف من الأب أكثر لأنّ هيبته وسلطته أقوى.
* فضَّل رفاقه على أسرته
تقول ولاء ب. (29 عاماً، صاحبة محل تجاري، أم لولد واحد): "غياب زوجي عن المنزل غير
طبيعي". أما عن اهتمامه بأسرته عند عودته إلى المنزل: "كان زوجي لا يقضي وقتاً معنا
حتى لو لم يكن لديه عمل، وكان يفضل أن يقضيه مع رفاقه حتى أنّه كان يعود إلى المنزل
في ساعات متأخرة من الليل". زوج ولاء لم يكن يتهرب فقط من الاهتمام المعنوي
والتربوي بأسرته بل كان يتهرب من مسؤوليته المادية أيضاً، عن هذا تروي: "كل ما كان
ينتجه زوجي من مال كان يصرفه على نفسه وعلى أصحابه ولم يكن يعطيني أي شيء فهو متكل
علي كلياً في مصروف البيت لأنني أعمل". أما عن دوره كوالد فقد أشارت ولاء إلى أنه
لم يكن مهتماً أبداً بأمور ولده إن كان من ناحية الحنان أو غيره، حتى عند ظرف المرض
كان يتصرف وكأن لا دخل له. زوج ولاء كان عبئاً على أسرته بدل أن يكون زوجاً وأباً
صالحاً ممّا أشعر ولاء بأنّ وجوده في حياتها كعدمه فكان الطلاق هو مصيرهما نتيجة
غياب إحساسه بالمسؤولية تجاه أسرته.
* غيابه عنا تضحية لأجلنا
فاطمة ح. (25 سنة، ربة منزل، أمّ لولدين) يغيب زوجها عن المنزل لعدة أشهر بسبب
السفر، فهو يعمل خارجاً لتأمين مستقبل أسرته، إلّا أن ذلك لا يمنعه من البقاء على
تواصل دائم معهم ويأتي لزيارتهم كلما سنحت له الفرصة.
الزوج لم يتجاهل مسؤوليته التربوية كونه بعيداً، فهو يهتم بمعرفة كل ما يحصل مع
ولديه أثناء غيابه، لكن بالرغم من هذا الاهتمام، فإن فاطمة مضطرة إلى أن تقوم بدور
الأب أحياناً قائلة: "أحاول أن أجعل شخصيتي قوية أمام ولديّ كشخصية والدهما خاصة
إذا قاما بأخطاء معينة فعليّ أن أقسو قليلاً كي يخافا مني ويسمعا كلامي". كما
اعتبرت فاطمة أن من واجبها كزوجة أن تضحي إلى جانب زوجها وتتحمل المسؤولية كاملة
أثناء غيابه فهو يضحي لأجلهم في بعده عنهم. عن أثار غياب الأب تقول فاطمة: "يشعر
أولادي بغيابه عندما يرون أطفالاً آخرين مع آبائهم، عندها يطلبون أن يأتي والدهم من
السفر لكنني أفهمهم دائماً أنه مضطر إلى أن يكون بعيداً عنهم لأنّه يريد أن يبني
مستقبلهم".
* إهمال ولا مبالاة
ناهد س. ( 45 سنة، صاحبة محل تجاري، أمّ لثلاثة أولاد): "عندما يعود زوجي من عمله
لا يسأل عن أي شيء يخص أولاده أو ما حصل معهم أثناء غيابه، فهو يتناول طعامه ويجلس
لمشاهدة التلفاز أو يخرج لزيارة أحد ما ولا يقضي وقتاً معهم". نموذج يعكس تهرب الأب
من مسؤوليته التربوية وإلقائها كاملة على عاتق الأم رغم وجوده جسدياً إلا أنه غائب
تربوياً عن أولاده. زوج ناهد لا يسأل عن أولاده حتى في حالات صعبة كالمرض، عن هذا
قالت: "عندما يمرض أحد الأولاد كان والدهم يبدي انزعاجه ويتهرب حتى من شراء الأدوية
ويحملني المسؤولية المادية كاملة". أمّا عن الرعاية التربوية فيلجأ الأولاد في حل
مشاكلهم إلى والدتهم التي قالت:" كنت الأب والأم في آنٍ معاً فالقرارات الّتي يجب
أن يتخذها الأب كنت أتخذها حتّى وإن كان موجوداً فإنّه كان يتنصل من تحمل المسؤولية
بطريقة أو بأخرى". شكّل غياب دور الأب غياباً للسلطة داخل المنزل، ممّا أدّى برأي
ناهد إلى نشوء ما يسمى بعدم الاحترام لها ولقراراتها فلا حسيب ولا رقيب على تصرفات
أولادها ولا وجود لمن يوقفهم عند حدهم. غاب الموجه والمرشد عن أسرة ناهد الّتي
أكّدت أن الزوج هو أساس البيت ومهما كانت شخصيّة الأمّ قويّة فإنّ عاطفتها ستتغلب
عليها، أمّا الأب كيفما كان، فله هيبة على أولاده ويستطيع ضبط أمورهم من خلال
شخصيته القوية.
* لا أريد أن يكون زوجي مثل أبي
عبير ن. (20 عاماً، طالبة معهد): "عندما أنجح أو أمرض أو أواجه أيّة مشكلة لا أجد
أبي بجانبي ولا أجد سنداً لي إلا أمي فهي كل شيء بالنسبة لي". غاب والد عبير عن
رعايتها وتربيتها بعد أن انفصل عن والدتها مؤسساً حياة جديدة ناسياً ابنته الّتي
تحتاج إلى رعايته وتوجيهاته واهتمامه. بالإضافة إلى ذلك فإن ما تفتقده عبير أيضاً
هو حنان الأب وعاطفته التي لا يعوضها أحد، كما قالت، وهي تختلف كثيراً عن حنان
وعاطفة الأمّ فلا يستطيع أي منهما التعويض عن الآخر. أمّا عن الآثار النفسية
الّتي خلفها غياب والد عبير عنها فقد قالت عنها: "أصبحت أخاف من الارتباط بأيّ رجل
خوفاً من أن يتهرب من مسؤولية تربية أولاده ورعاية أسرته مثل ما فعل أبي. فلا أريد
أن يكون زوجي مثل أبي".