اخرج إلى الضوء | عندما يكون القائد والداً للمجاهدين مهارات | المساندة النفـسيّة في الأزمات والحروب الملف | كيف نواجه إشاعات الحرب؟ الملف | بصبركنّ... ننتصر الملف | دعاء أهل الثغور: مدد المجاهدين الملف | الشهداء المستبشرون معالم المجتمع الصالح في نهج البلاغة الملف | قيم المقاومة آخر الكلام | تحت الركام.. الافتتاحية | الصبر حليف النصر

الأب والدور المعطّل

د. حسن سلهب



لم تحظ الأبوة بالاهتمام المناسب في الأبحاث والدراسات التربوية، حيث ظلت على هامش العوامل المؤثرة في الواقع التربوي للأسرة، وقد عكس ذلك، بصورة ما، الدور الفعلي للأب في مسار التربية البيتية. تحاول هذه المقالة مقاربة هذا الموضوع من زاوية الأسباب والآثار المترتبة.

أولاً: في الأسباب
1- التقاليد والأعراف العامة

حسمت التقاليد والأعراف العامة الكثير من الواجبات والحقوق الخاصة بالأم والأب، متأثرة ببعض المعطيات الطبيعية من جهة، والكثير من موازين القوى الخاصة بكل منهما من جهة أخرى. فقد اقترنت معظم الأعمال التربوية بالأم على اعتبار اختصاصها بالحمل والرضاعة، فضلاً عن تمايزها بقدرٍ غير محدود من العواطف والميول التي تشكل مقدمات ضرورية لإنجاز أكثر المهام التربوية الخاصة بالأطفال. لقد تم الانطلاق من هذه الحقائق الواضحة لإشاعة العديد من التقاليد والأعراف الخاصة بالمسؤولية التربوية للأم وتالياً الأب. ومن جهة أخرى تمكن الرجل، وبفعل قوته وسطوته الشخصية، من تثبيت ذلك والحؤول دون الخروج عليه، فضلاً عن الإضافات العديدة التي فرضها بحكم الاتجاه العام. ومن الطريف هنا أن المرأة عموماً، والأمّ على وجه الخصوص، انخرطت في هذا الاتجاه كما لو أنها هي التي فرضته، فغدت داعية له وأشدّ المدافعين عنه. فالنساء، على سبيل المثال، يتوجهن باللوم الشديد والكلمات اللاذعة لأي منهن عندما يصدر عنها ما يخالف أبسط التقاليد والأعراف في هذا الشأن، كأن يقوم الأب بإطعام ابنه وتنظيفه أو تغيير ملابسه. فما قد يغفل عنه الرجل في هذا المجال، نجد النساء في حال تيقظٍ له مع حرص شديد على الالتزام الكامل به. نعم، إن أول الأسباب التي تقف خلف الدور المعطّل للأب مع الأولاد يكمن في شيوع تقاليد وأعراف تعفي الأب من أية مسؤولية تربوية أساسية، وتحمّل الأم مجمل المسؤولية في الأحوال والظروف كلها.

2- الأعمال الخاصة بالأب

بعد التقاليد والأعراف العامة يمكن الحديث عن أعمال الأب كمؤثر يأتي بالدرجة الثانية في التسبُّب بغياب الأبوة أو تعطيلها. فتحت عنوان (مسؤولية الأب عن تأمين مصادر الإنفاق لأسرته) يذهب الآباء بعيداً في التحرر من أية مسؤولية تربوية للأولاد، فلا مانع لديهم من القبول بأي عمل يبدأ قبل بداية يوم الأولاد ولا ينتهي إلا بعد نهاية يومهم، ولا حرج عندهم من أن يكون هذا العمل يحول دون أدنى تواصل يومي مباشر مع الأولاد، ويكفي في شروط الأعمال وفاؤها بمتطلبات الإنفاق التي كثيراً ما يُبالَغ فيها، أو تتعدى الحدود المقبولة. ولن يعدم الأب العناوين المتنوعة في دعم موقفه والتي تبدأ بتأمين لقمة العيش ولا تنتهي بمهمة تغيير وجه التاريخ. وإذا كان بعض الآباء يتشوقون للحظات يتحمّلون فيها مسؤوليتهم التربوية، دون أن يتمكنوا من ذلك، لأسباب خارجة كلياً عن إرادتهم، فإن نسبة هؤلاء محدودة، على الأقل في الظروف والأحوال الطبيعية.

تجدر الإشارة هنا إلى أن معظم القيّمين على أعمال الآباء، فضلاً عن أعمال الأمهات خارج الأسرة، لا يُولُون أدنى اهتمام للمسؤولية التربوية للأب، فتراهم يحشدون المهام ويحصرون الثّقة بنماذج خاصة من الرجال، غافلين في كثير من الأحيان عن أدوارهم الأسرية أو مبررين ذلك بالمصلحة العامة، ولا يطول بهم الوقت حتى يكتشفوا أنهم كانوا مبالغين في تقدير الحاجة، لكن بعد فوات الأوان أو خراب البصرة.

3- غياب الرؤية التربوية عند الآباء

وقد لا يكون ثمة تقاليد مانعة، أو أعمال ضاغطة، بل رؤية تربوية غير واضحة، إن لم نقل غير موجودة، أي إن الأب لا يحمل أدنى تصوّر عما يجب أن يكون عليه الأولاد من الزاوية التربوية البحتة. والعلاقة معهم أقرب إلى التسلية والاستئناس منها إلى التربية والإرشاد. فالأوقات التي يقضيها الأب مع بنيه هي أوقات حرة على الأغلب ولا تتصل بأي نوع من البرامج التربوية المطلوبة. ولا نبالغ إذا قلنا إن معظم الآباء يتجاوبون مع الحاجات الفطرية للأبوة فيهم أكثر من اجتهادهم في سبيل تحقيق صورة تربوية يحلمون بها لأولادهم. بهذه الطريقة نفهم الممازحة والمفاكهة العفوية التي تطغى على فترات التواصل، حتى إذا ما حان وقت مسؤولية معينة تراهم يقطعون هذا التواصل قبل أن يأمروا الأولاد بوجوب التوجه الفوري نحو أمهاتهم لتتحمل هذه المسؤولية التي أعفوا أنفسهم منها بكل ثقة وراحة بال. إن غياب الرؤية التربوية عند الآباء يعني أنهم لا يملكون فكرة عن السلوك المرغوب أو المرفوض لأولادهم، ولا يعبأون بأي تعبير يصدر عنهم أو شكل يظهرون فيه، وإذا ما بدا لهم شيء من هذا القبيل فإنهم يرونه من زاوية الاستئناس وما يتطلبه من مرونة وتساهل قد تضرب بعض قواعد الأدب في الصميم. إننا هنا بلحاظ نوع من الفراغ التربوي الذي قد يتسبّب بهدر العديد من الجهود التربوية البنّاءَة.

ثانياً: الآثار والعوارض
1- الأسرة في مهب المؤثرات الخارجية

أما آثار وعوارض غياب أو تعطيل الأبوة فهي في حجم الدور المحوري الذي تتأثر به كل مكوّنات وأعمال الأسرة. والبيانات تشير إلى أن أعلى نسب السلوك السلبي عند الأولاد تتركز في الأُسر التي تشهد غياباً قسرياً وطويلاً للأب بداعي العمل في السفر، أو الخدمة العسكرية، أو متابعة الشأن العام. يمكن القول بأن أخطر الآثار تكمن في تعريض الأسرة لمختلف المؤثرات الخارجية، وبعبارة أخرى تدني المناعة الداخلية أمام المؤثرات الخارجية. إنها فترة انكشاف ملحوظة أمام الجديد الغامض أو الدخيل المغمور، مع موجات متلاحقة من التأثّر والتفاعل غير المفهوم أو الممسوك. نعم، إن من أبرز مكوّنات الأبوّة هي السلطة أو القدرة على الحماية وتقديم المساعدة في اللحظات التي تختل فيها المعادلة مع الخارج، أو عندما تفرض هذه المعادلة شروطاً لا تقوى على تأمينها الأسرة من دون الأب.

إننا ندرك ذلك بشكل أوضح عندما نطّلع على الصلاحية الممنوحة للأب، كربٍّ للأسرة، في الشرع الإسلامي، فضلاً عن الشرائع والقوانين الأخرى. تجدر الإشارة هنا إلى أن استقالة الأب من دوره، أو عدم قدرته على القيام بهذا الدور أخطر على الأسرة من موته أو عدم وجوده مطلقاً. ذلك أنه في حال الوفاة أو الغياب القسري التام تتصدى مؤسسات المجتمع للتعويض النسبي وهو أمر غير متاح في غير هذه الحالة.

2- تفاقم الضغوط على الأمومة

إن غياب الأب أو تعطيل دوره سوف يؤدي، بشكل تلقائي، إلى تحويل العديد من مسؤولياته إلى الأم، شاءَت أم أبت، وسواء أكانت قادرة على ذلك أم غير قادرة. وإذا كنا نعرف بأن مسؤوليات الأمومة تكاد، لوحدها، تستهلك معظم أوقاتها وطاقاتها وأعصابها، فهذا يعني أن ضغوطاً جديدة سوف تُضاف من دون أي تغيير أو تعديل بالإمكانات المتاحة. والتوقّعات في مثل هذه الحالات متشائمة للغاية. ثم إن ارتباط الأمومة بالأبوّة، والعكس أيضاً، أي ارتباط الأبوّة بالأمومة، لا تقل أثراً عن ارتباط أيٍ منهما بالأبناء، بل إن الكثير من مهام كل واحدٍ منهما تتحقق في ظل وجود الأخر، وبدعمٍ ملحوظ منه، ما يعني أن الأم عندما تعاني من غياب الأب أو تعطيل دوره لا تتحمّل مسؤوليات جديدة هي مسؤولات الأب فحسب، بل إن مسؤولياتها هي غدت أكثر صعوبة بفعل الفراغ الذي يتركه الأب، ما يعني ضرورة توافر شروط جديدة لقيامها بمهامها الخاصة وهي غير موجودة في كثير من الحالات، وهذا يعني إمكانية اضطراب العملية التربوية الأسرية بشكل كلي. إن تفاقم الضغوط على الأمومة لا يطال الأم فقط، بل يطال كل ما تبقى من جهد تربوي في الأسرة، فالأب عندما يحرم الأبناء من بركات أُبوَّته إنما يتسبّب بحرمانهم من نوع آخر من البركات، تفوق الأولى أثراً، إنها بركات الأمومة.

3- تدني التفاعل مع المجتمع

والحديث عن أثر غياب الأبوّة أو تعطيل دورها على الأم ينسحب على الأقارب والجيران والمدرسة والمجتمع المحلي بشكل عام. فالأبوة بما تنطوي عليه من صلاحية شرعية وقانونية وأخلاقية قادرة على منح هذه الجهات بعضاً من سلطتها، وبالتالي إجراء المقتضيات اللازمة من إعلان ومتابعة ومحاسبة، ولكنها تحرم هذه الجهات من ذلك بقدر تقاعس الآباء وعدم قيامهم بصلاحياتهم. وباستثناء الدور المحدود الذي تلعبه الدولة في هذا المجال، لا توجد سلطة أخرى من شأنها تعويض هذا الفراغ الذي ينجم عن غياب أو تعطيل الأبوّة.

قد ينطبق هذا الكلام على الأبناء الذكور أكثر من الإناث، كما قد يختلف تبعاً للخصائص النفسية والعقلية والاجتماعية التي تميّز الأم والأبناء، ولكن بصورة نسبية لا تحول دون ظهور هذا الفراغ وكثيرٍ من تداعياته المحتومة. فالأقارب والجيران والمدرسة وسائر المؤسسات الاجتماعية ذات التأثير المباشر على الأبناء، إنما تلعب دورها الإرشادي والتوجيهي بفعل الصلاحية والمسؤولية التربوية التي يقوم بها الأب، ولن تجد هذه الجهات بديلاً عن الأب يعطي أدوارها مضموناً مفيداً أو مؤثراً في حياة الأبناء، من دون أن يعني ذلك التقليل من دور الأم الذي يكتسي طابعاً مختلفاً عن دور الأب في هذا المجال.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع