مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

مناظرات الإمام الرضا عليه السلام في طوس


د. علي الحاج حسن‏


مما لا شك فيه أن سيرة أئمة أهل البيت عليهم السلام تشكل مدرسة بالغة الأهمية، فقد كان الأئمة عليهم السلام النماذج الواقعية للإنسان الكامل المتصف بجميع صفات الكمال البشري. ويقدم الإمام الرضا عليه السلام في سيرته وحياته وجهاده وعلومه، أروع الصور للإمام المعصوم الذي اختصه الله تعالى بالفضل، وكرّمه بجميع الفضائل الإلهية.

* الإمام الرضا عليه السلام وولاية العهد
لقد تمت البيعة للإمام عليه السلام بولاية العهد، وقبلها الإمام مكرهاً رافضاً لها(1). ذلك أن المأمون-ومن خلال عمله هذا-أراد أن يوجّه ضربة للدور الإلهي الذي يقوم به الإمام عليه السلام، بما يخدم مصالح سلطته الحاكمة. ومع ذلك، فإن اللقاءات التي أجراها الإمام عليه السلام أثناء سفره والحوارات والمناظرات التي حصلت مع الكثيرين وبترتيب من المأمون نفسه ما كانت إلا شاهداً حقيقياً على عظمة الإمام عليه السلام.

* حركة الإمام عليه السلام في طوس
فيما يتعلق ببعض الملاحظات حول حركة الإمام عليه السلام ودوره في طوس، يُستنتَج ما يلي:

1- شكلت مناظرات الإمام الحركة الأساسية لإظهار عقم ما تخطط له السلطة.
فقد سعى الإمام عليه السلام ومن خلال هذه المناظرات واللقاءات التي كان يجريها للتأكيد على دور المعصوم وما له من حقوق في عيون الناس، فواجه الإمام عليه السلام ما سعت إليه السلطة السياسية آنذاك من طمس الحقائق وإبعاد أهل البيت عليه السلام، لا بل وإظهارهم بما لا يليق بمقامهم الشامخ. أما المأمون، فقد عمل على جمع الكثير من العلماء ومن البلدان كافة مسلمين وغير مسلمين، والهدف المعلن أو الظاهر هو تشجيعه للحركة الثقافية، أمّا الواقع فإظهار ضعف الإمام عليه السلام، بما يترتب عليه من ادعاء المعصومية وخلافة الرسول صلى الله عليه وآله وامتلاك العلم اللدني. ومع ذلك، فلم يكن للمأمون ما أراد، إذ خرج الإمام عليه السلام من جميع المناظرات وهو الأعلم والأعرف وصاحب الفضل. يتحدث الإمام عليه السلام عن المأمون والمناظرات قائلاً: "إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم وعلى أهل الزبور بزبورهم وعلى الصابئن بعبرانيتهم..."(2) إلى آخر الحديث حيث يظهر مدى إلمام الإمام عليه السلام وفضله وقدرته على تقديم الحجة البالغة لمن لم يتمكن من إدراكها.

2- كانت اللقاءات والمناظرات تؤدي دوراً أساسياً آخر غير إظهار علم الإمام وقدرته وأحقيته، حيث سعى المأمون جاهداً لحصر شخصية الإمام عليه السلام في الجانب العلمي البحت، ليقول إن الإمام لا يهتم بالمسائل الأخرى، لا بل يصور لنا دائرة الإمامة على أنها لا تتعدى الجانب العبادي البحت. هنا سعى الإمام لإظهار حقيقة دور المعصوم، وهو الإمامة والقيادة والاهتمام بشؤون الأمة وشجونها ومشكلاتها. فكان الإمام عليه السلام ومن خلال مناظراته ولقاءاته بالناس يوجه النقد للمأمون بسبب الأسلوب الذي يعتمده في قيادة الأمة، ويبين له الخلل في إدارته.

3- أعاد الإمام عليه السلام من خلال المناظرات التأكيد على العلاقة التي تربط الدين بإدارة شؤون المجتمع. فقد أكد الإمام أن إدارة شؤون المجتمع تنطلق من صميم اهتمام الدين، وبذلك لا معنى ليكون هناك ولي للعهد ترجع إليه الناس في مسائل الدين، بينما يمارس المأمون سلطته الظالمة، معتبراً أنه الأحق بقيادة المجتمع. هنا أوضح الإمام أن ولاية العهد غير مقبولة في ظل نظام تختلف ماهيته عن حقيقة الدين. لذا، كانت محاورات الإمام عليه السلام ولقاءاته تأكيداً على الدور الحقيقي للإمام في مجال هداية الناس وتعريفهم مكانة ومقام الإمام المعصوم عليه السلام .

* مناظرات الإمام عليه السلام
أما مناظرات الإمام عليه السلام فكثيرة، أهمها مناظرة الإمام مع الجاثليق وهو رئيس الأساقفة، ورأس الجالوت عالم اليهود وهربز الأكبر وعمران الصابي. أما المناظرة مع الجاثليق فقد تمحورت حول إثبات التوحيد وإبطال ألوهية عيسى عليه السلام وذلك بالاعتماد على الإنجيل. وفي حواره مع رأس الجالوت عمد الإمام عليه السلام لإثبات نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله من خلال ما نطقت به الكتب السماوية السالفة. فبعد أن احتج عليه بأن من علائم النبوة الإتيان بما يعجز الخلق عن مثله سأله عن السبب في عدم تصديقهم بمن أتى بالمعجز من الأنبياء غير موسى بن عمران، فأجابه رأس الجالوت بأنه لا يجب علينا الإقرار بنبوة من ادعاها حتى تأتي من الإعلام بمثل ما جاء به موسى. فقال له الإمام عليه السلام : فكيف أقررتم بالأنبياء الذين كانوا قبل موسى ولم يفلقوا البحر، ولم يفجروا من الحجر اثنتي عشرة عيناً، ولم يخرجوا أيديهم مثل إخراج موسى يده بيضاء، ولم يقلبوا العصا حية تسعى؟ فسلّم رأس الجالوت بكلام الإمام بعد أن عجز عن ردّه، وتمكن الإمام عليه السلام في مناظرته هذه من أن يثبت له أن عدم إيمانهم بنبوة عيسى عليه السلام ونبوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله لا دليل ولا حجة له. ويناقش الإمام هربز الأكبر في حجته على نبوة زرادشت، فيقول الهربز بأنه أتى بما لم يأتنا أحد من قبله، ولم نشهده ولكنّ الأخبار دلت عليه. فقال الإمام عليه السلام : أفليس إنما أتتكم الأخبار فاتبعتموه؟ قال: بلى. قال عليه السلام : هكذا سائر الأمم، أتتهم الأخبار بما أتى به النبيون، وأتى به موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله، فما أعذركم في ترك الإقرار لهم، إذ كنتم إنما أقررتم بزرادشت من قبل الأخبار المتواترة، بأنه جاء بما لم يجئ به غيره؟ وتمحورت مناظرة الإمام عليه السلام مع عمران الصابي حول إثبات وجود الخالق، وتشعب الحوار إلى أدق التفاصيل وكان الإمام عليه السلام يجيب بالحقائق العلمية الواضحة. فعندما سأل عمران عن الخالق، وهل هو في الخلق أم الخلق فيه، أجاب الإمام عليه السلام : أجل هو يا عمران من ذلك، ليس هو في الخلق ولا الخلق فيه تعالى عن ذلك، وساء علمك ما تعرفه به، ولا قوة إلا بالله. أخبرني عن المرآة، أنت فيها أم هي فيك؟ فإن كان ليس واحد منكما في صاحبه فبأي شي‏ء استدللت بها على نفسك يا عمران؟ بالإضافة إلى المناظرات المذكورة شارك الإمام عليه السلام في مناظرات أخرى لعل أبرزها مناظرته مع سليمان المروزي وعلي بن الجهم وآخرين(3)...

* لقاءات الإمام بالناس
أما لقاءات الإمام بالناس فكثيرة أيضاً، ويحدثنا التاريخ عن حوادث هامة حصلت أثناء إحضار الإمام عليه السلام من المدينة، فقد كانت له محطات مع الناس قدم لهم فيها نصائحه وعلومه... يقول رجاء بن أبي الضحاك وقد بعثه المأمون لإحضار الإمام عليه السلام: "والله، ما رأيت رجلاً كان أتقى لله منه، ولا أكثر ذكراً له في جميع أوقاته منه، ولا أشد خوفاً لله عزَّ وجلَّ، إلى أن قال: وكان لا ينزل بلداً إلا قصده الناس يستفتونه في معالم دينهم فيجيبهم ويحدثهم..."(4). ولعل أبرز لقاء للإمام عليه السلام بالناس، كان أثناء خروجه لصلاة العيد مجبراً من قبل المأمون. يقال إن الإمام عليه السلام خرج في هيئة الخاشع المتبتل المتجه إلى الله سبحانه بعيداً عن مظاهر الأبهة والملك والسلطان، خلافاً لما ألفه الناس وعرفوه في مثل هذه المناسبات، ما أثر على جموع المصلين المحتشدة وأثار عواطفهم، وذكرتهم هيئته هذه برسول الله صلى الله عليه وآله وسيرته في المسلمين، فاضطرب الموقف وتفاعل المصلون وانشدّوا إلى الإمام وتعلقت به قلوبهم، وتحولت الصلاة إلى مظاهرة صاخبة تعلن الولاء لأهل البيت عليهم السلام ، فتحركت سلطة المأمون مسرعة لمنع الإمام عليه السلام من إقامة الصلاة والحيلولة بينه وبين المصلين(5). وأما اللقاء الهام الثاني، فكان خروجه عليه السلام إلى صلاة الاستسقاء، بما كانت تحمله من دلالات وأبعاد، بعد أن راهن الآخرون عليها من أجل إسقاط الإمام عليه السلام .

وهكذا فإن الإمام في كل اللقاءات والمناظرات التي أجراها في طوس، كان يقف موقف الإمام والقائد والمدير الذي طالما افتقدته الأمة الإسلامية... يقول إبراهيم بن العباس الطوسي: ما رأيت أبا الحسن الرضا عليه السلام جفا أحداً بكلامه قط، وما رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه، وما رد أحداً عن حاجة يقدر عليها... إلى أن قال: فمن زعم أنه رأى مثله في فضله فلا تصدقوه(6)..


(1) راجع كتاب الأستاذ الشهيد مطهري: "من حياة الأئمة الأطهار".
(2) بحار الأنوار، ج‏49، 175.
(3) راجع: عيون أخبار الرضا، ج‏2، 1150، والاحتجاج، ج‏2، 35463.
(4) في رحاب أئمة أهل البيت عليهم السلام ، السيد محسن الأمين، ج‏ 5، 106.
(5) عيون أخبار الرضا عليه السلام ، ج‏2.
(6) المصدر نفسه، ج‏2، 184.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع