إنّ السيد الشهيد الصدر قدس سره يشكّل ظاهرة ربانيَّة
جديرة بدراسة شمولية متخصِّصة تكون بمستوى دراسة الظواهر الربانيّة التي برزت في
فترات تاريخيّة كثيرة، إذ لا إشكال في كونه ترجمة مختصرة للإسلام فكراً وقيادة
نظرياً وعملياً. وإنّنا كي يمكن أن نقوّم الجانب العلمي عند السيد الشهيد محمد باقر
الصدر قدس سره، لا يكفي أن نتلمّس بعض مظاهر شخصيّته المميِّزة له – بحسب الظاهر –
عن غيره من الشخصيات، إذ إنّنا تارة: ندرس في هذه الشخصيّة الجانب الفقهي، أو
الجانب الأصولي، أو الفلسفي، أو الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو غير ذلك من الجوانب،
فإنّه رغم توفّر كل هذه الخصائص في هذه الشخصيّة، لا نكون قد درسنا إلاّ بُعداً
واحداً من أبعاد تكوّنها، وحينئذٍ، يمكن أن نكتفي باجترار ما كتبه عنه بعض تلامذته،
أو أساتذته، وبهذا نكون قد درسنا الجانب العلمي عنده دراسة ناقصة. وتارة أخرى:
نتعرَّف إلى الجانب العلمي عند السيد الشهيد من خلال كونه ظاهرة اجتماعية ومشروعاً
ربانياً شاملاً يحتضن، مضافاً إلى ما تقدَّم، عدَّة عناصر أخرى متكاملة بحيث نتجاوز
بها الأبعاد الجزئيَّة لشخصيَّته إلى المضمون -الشمولي- الذي تتفاعل في داخله كلُّ
تلك العناصر والأبعاد.
إذاً: لا بدّ من دراسة كلتا الحالتين في شخصيَّة السيد
الشهيد، الحالة التفصيليَّة، والحالة الشمولية الأخرى، كي نقدر على تقويم الجانب
العلمي فيه. وبهذا يتَّضح أن جميع ما كتب إلى الآن حول شخصية السيد الشهيد وعلمه لا
يتناسب في كمّه ونوعه مع حجم ومضمون هذه الشخصيَّة العملاقة التي كانت وما تزال
حاضرةً في كلِّ مجالات واقع الأمَّة الروحي والفكري والاجتماعي والسياسي، بل كانت
حاضرة في كلِّ قضايا الأمة وهمومها وطموحاتها.
* في مواجهة المشروع المناهض للإسلام:
وبهذه الدراسة الشمولية ندرك أنَّ السيد الشهيد الصدر قدس سره يشكّل مشروعاً
تغييرياً كبيراً بحجم قضايا الأمة ورسالتها، ومن هنا فهو أكبر من كونه فقيهاً أو
أصولياً أو فيلسوفاً أو غير ذلك، يدلك على ذلك أنَّه بدأ بوضع الخطوط العريضة
لصياغة المشروع الإسلامي التغييري الشامل في مواجهة المشروع المناهض للإسلام بمجرد
أن أدرك بوعي حال كلِّ المتغيِّرات التي حدثت في الأمة نتيجة غزوها في جميع قضاياها
من جهة، وقصور كلِّ أشكال التصدِّي لهذا الغزو من جهة أخرى، من هنا كان "فلسفتنا"
و"اقتصادنا" و"المدرسة الإسلامية" و"البنك اللاّربوي" و"الأسس المنطقية للاستقراء"،
ومجموعة "الإسلام يقود الحياة" متضمنة مشروع دستور جمهورية إسلامية، هذا مع الإعداد
لمشاريع أخرى تسدّ كلّ الفراغات التي شغلتها المشاريع المناهضة للأمة. على ضوء هذا
وأكثر من هذا، يمكنك أن تتعرف على الجانب العلمي عند السيد الشهيد، حيث إن من
يتصدَّى لهكذا مشروع تغييري شامل لا بدَّ من توفِّر عنصر الأصالة الفكرية المميزة
فيه، وقد كانت هذه هي الميزة البارزة في عقلية السيد الشهيد في كل معالجاته وبحوثه،
بل في كل رؤاه وتصوراته. حيث كان رحمه الله يعتمد فيها على أسس الفكر الإسلامي
الأصيل المتمثلة في كتاب الله، وسنّة نبيه وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام.
* قدرات عقليَّة وعلميَّة عالية جداً
هذا إلى جانب ما كان يمتلكه من وعي عميق لتاريخ الرسالة ومعطياته الأساسيَّة، حيث
كان يتشكَّل من وعي هذا التاريخ رافد هام من روافد الرسالة، يضاف إلى ذلك توفّر
السيد الشهيد قدس سره على رؤية ناجحة وواعية لكلِّ صيغ التراث الفكري الذي أنتجه
العقل الإسلامي في مراحله التاريخية. وكذلك لا بدّ فيمن يتصدَّى لصياغة مشروع
إسلامي كامل أن يتميَّز بقدرات عقلية وعلمية عالية جداً. وقد كانت هذه من أبرز سمات
السيد الشهيد، ما وفّر له إمكانات عالية جداً في فهم الإسلام وفهم جميع المشاريع
المناهضة للإسلام، يضاف إلى ذلك قوَّة الشخصية وصلابة الإرادة والقدرة على الصبر
والثقة العالية بالنفس والطموح الهادف إلى جانب الحركية الفاعلة والواعية.
* مشروع إسلامي تغييري شامل
حيث إنَّ كل ذلك مكّنه من صياغة مشروع إسلامي تغييري شامل بكفاءة عالية جداً وبكلِّ
دقة ووضوح وتحدٍ بما كان يمتلكه من قدرات عجيبة على التعبير الواضح في صياغة
المشروع الإسلامي كما تلمس هذا في كلِّ بحوثه الفكرية الفلسفية أو الاقتصادية أو
الرياضية أو المنطقية أو الاجتماعية أو التاريخية أو التنظيمية أو العقائدية، أو
الأصولية وغيرها. وقد كان للتفكير المنهجيِّ عند السيد الشهيد الدور الكبير في
إنتاج مشروعه التغييري الشامل، بل في جميع إنتاجاته الفكرية ورؤاه الأخرى حيث كانت
تتميز بالتجديد والتطوير دون أن تجمد عند موروثات تتحكم في مسارات الواقع الثقافي
والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، بل الحوزوي أيضاً.
* الإخلاص الخالص لله تعالى
هذا دون أن أنسى أن المكوِّن الأساسي والأقوى في شخصيَّة السيد الشهيد إنَّما هو
الإخلاص الذي يقل نظيره لله تعالى، حيث كان هو المنطلق الأساس والدافع الأساس له في
أعماله. من هنا ما كنت تراه في جميع أطروحاته إلا مسدداً ربانياً دائماً. وقد أبرز
الإمام الخميني قدس سره كل ذلك عندما رثاه ونعاه إذ قال: "... وقد نجح الإمام
الشهيد الصدر في حماية الفكر الإسلامي من التأثر بالتيارات الفكرية الغريبة عن
الإسلام، ونجح في تمييز الخط الفكري الإسلامي الأصيل في أذهان الجيل، وقد وفّق قدس
سره في تناول العديد من قضايا الإسلام الأساسية وحلوله للمشاكل الاجتماعية، ولم تكن
دراساته وقفاً على حقل واحد من حقول الإسلام، وإنما تتناول أهم مسائل الإسلام
ومبنياته...". أما بالنسبة للجانب العلمي والتعليمي في شخصيَّة السيد الشهيد الصدر،
وعن علاقته بطلابه، فلا بد أن ندرك أنّ من يشكل ظاهرة ربانية وترجمة فذة لأهداف
السماء، لا بد أن يكون الجانب العلمي فيه وكذلك علاقته بطلابه متسانخاً ومتماهياً
مع مضمون شخصيته الربانية بكل أبعادها.