الشيخ حسن حمادي
عندما نتعرض في البحث عن قضية التقليد أو التجديد في مراسم عاشوراء، فإننا نعبر خضم قضية حساسة وجدية، لا على المستوى الفكري أو النظري فقط، بل على مستوى النتائج والآثار البالغة الأهمية والخطورة والناجمة عن التطبيق العملي لهذا الفكر هنا أو ذاك الفهم هناك.
ومنشأ الحساسية هنا أمران: الأول: طبيعة البحث حول مسائل من قبيل الحداثة، التجديد، التقليد والسنن وما يحيط بهذا البحث من تباينات واختلافات في وجهات النظر وفي المفهوم وتطبيقاته ما أدى إلى الخلط الذي أوقع الكثيرين من المثقفين الإسلاميين وغيرهم في متاهات عديدة مسبباً العديد من الانحرافات الفكرية والعملية، وكاشفاً ثغرات حادة في جدار ثقافة الأمة نفذ الاستعمار من خلالها ما شكل مزيداً من الضياع المفاهيمي وكماً من الأبحاث التي لا تستند إلى منطق صحيح.
والثاني هو تعلق بحث التقليد والتجديد بموضوع حساس وهام أي موضوع المراسم العاشورائية وما تختزنه من قيمة وأهمية قصوى على مستوى حفظ الإسلام وصيانة المفاهيم الدينية الرسالية عند المسلمين الشيعة. لذلك سأبدأ الحديث حول مفهومي التقليد والتجديد والنظرة إليهما بالإطار العام، ثم أعرض بشيء من الإيجاز انطباقهما على مراسم عاشوراء وذلك من وجهة النظر التي نعتقد أنها تعبر عن الإسلام المحمدي الأصيل. التقليد يعني الحفاظ على تقاليد وعادات أو عقائد وأفكار الأقدام السالفين والاعتقاد أو العمل بمقتضاها بالنسبة للأجيال الحاضرة. التجديد يعني إدخال التعديلات على تلك العادات أو الأفكار والعقائد أو حتى استبدالها بعادات وعقائد جديدة ومختلفة بالكامل.
إن من الخطأ الفادح ما ذهب إليه بعض الناس من التقليديين والتجديديين لجهة سلوكهم منهجاً تقليدياً أو تجديدياً على طول الخط وفي جميع المسائل والمواضيع والقضايا الفكرية، من غير النظر إلى كل فكرة أو قضية على حدة وما يلائمها من منهج تقليدي أو تجديدي أو الجمع بينهما. فلا التقليد في كل المسائل والأمور صحيح، ولا التجديد هو كذلك أيضاً، إذ يمكن في مورد معين أن يكون التقليد واتباع سنن الأولين صحيحاً وموافقاً للمصلحة والهدف ويمكن أن لا يكون كذلك في مورد آخر، وكذلك التجديد. ومن المتفق عليه بين العقلاء أن التقليد في العقيدة والفكر ليس أمراً صحيحاً على الإطلاق بينما هو في الأخلاق واكتساب العادات الحسنة أمر مستحسن ومطلوب وقد يكون التقليد في الأساليب والوسائل ضرورياً في زمن ما ومستهجناً وقبيحاً في زمن آخر. فقبل ابتكار وسائل مريحة في الصناعة أو الزراعة يعدُّ تقليد القدماء في أساليبهم ضرورياً أما مع وجود وسائل الإنتاج المتطورة يعدُّ تقليد السلف أمراً قبيحاً وتخلفاً وبعداً عن المنطق الإنساني، فالمدار إذاً بين التقليد أو التجديد يجب أن يدور مدار المصالح والأهداف والمنطق السليم ومطابقة الأساليب أو الأفكار التقليدية أو الجديدة لتلك المصالح والأهداف وذلك المنطق أو عدم مطابقتها ليس إلا.
ومن هنا ندخل للبحث باختصار شديد عن التقليد والتجديد في مراسم عاشوراء الإمام الحسين عليه السلام، من أجل تحديد المطلوب في هذا العصر، أهو اتباع المراسم العاشورائية التقليدية أم استبدالها بأخرى جديدة؟!. كمقدمة يجب أولاً تحديد الهدف الأساس من إقامة مراسم عاشوراء، لأن تحديد الهدف يعدُّ هنا ضرورة لا بد منها لاستبيان النتيجة التي نرمي إليها. ويمكن القول بإيجاز شديد إن الهدف من إقامة مراسم عاشوراء هو ربط المسلمين على المستويين العاطفي والعقلي الاعتقادي بشخصية الإمام الحسين عليه السلام لكي يتحول هؤلاء الاتباع المخلصين إلى نماذج سائرة على خطى متبوعهم فيما سار عليه من رفض للظلم وسعي لإقرار العدل الإلهي في هذا العالم. وهنا أؤكد على عبارة الربط على المستويين العاطفي والعقلي معاً، إذ إن الارتباط بالهدف على المستوى العقلي فقط ومن غير تفاعل عاطفي متناسب لا يمكن أن يولد إيماناً يحرك الإنسان تجاه القيام بالواجبات وبالأخص تلك المكلفة منها والتي تستلزم بذل الجهد وتقديم التضحيات.
فالمطلوب إذاً إقامة المراسم التي تحقق الغرضين معاً المحبة في القلب والقناعة في العقل. ونحن إذا ما أجلنا النظر سريعاً في تفاصيل المراسم العاشورائية التقليدية والمتبعة حالياً، نجد أن بعضها يغذي الجانب العاطفي والآخر يغذي الجانب العقلي الاعتقادي. طبعاً إلى جنب ذلك يوجد أيضاً بعض الشوائب التي لا تؤدي إلى أيٍ من هذين الغرضين بل تضعفهما معاً كالتطبير أو سرد بعض القضايا غير الواقعية أو غير المنطقية، فإن أمثال هذه التصرفات والشوائب يجب تجنبها وتخليص المراسم التقليدية المباركة منها.
أما فيما يغذي الجانب العاطفي فنجد أن البكاء والتباكي على سيد الشهداء عليه السلام يعدُّ العنصر الأبرز والعامل الأساس في تثوير العواطف الصادقة ودفع الشخص المتأثر إلى حد البكاء للتفاعل مع شخصيات أبطال كربلاء وروحياتهم وعقائدهم إلى درجة يصل معها إلى حالة الاستعداد التام للتضحية في سبيل الحق كما ضحى هؤلاء الأبطال، ومن الصعب جداً أن يصل إنسان ما إلى هذه الحالة من الاتباع الصادق والاستعداد الدائم للتضحية في سبيل اللَّه من غير هكذا تأثر وتفاعل عاطفي يكون البكاء تعبيراً صادقاً عنه. وهنا ينبغي الإشارة إلى أن تأكيدات الأئمة الأطهار عليهم السلام حول البكاء على الحسين عليه السلام وما وعد اللَّه تعالى من الأجر على ذلك، ليس بهدف حصول الأجر والثواب للباكين رغم حصوله قهراً، بل هو بقصد تحصيل حالة الاتباع الصادق للإسلام ورواده والتوحد خلف الحق والدفاع عنه بالغالي والنفيس، وفي هذا المجال يقول الإمام الخميني المقدس: "القضية ليست قضية بكاء فحسب، إنما هي قضية سياسية، فأئمتنا عليهم السلام يريدون وعبر عمق رؤيتهم الإلهية أن يوحدوا صفوف الشعب ويعبئوه بالطرق المختلفة كي يصان من الأذى"* ويقول أيضاً: وأساساً ما حاجة سيد الشهداء عليه السلام إلى البكاء؟! إن تأكيد الأئمة عليهم السلام على أن تقام التجمعات والبكاء إنما يستند إلى ما لذلك من شأن في حفظ كيان الدين وصيانة المذهب"**. فالبكاء إذاً ليس وسيلة لاكتساب الأجر والثواب رغم حصولهما بذلك بل من أجل حفظ الإسلام عبر بناء نماذج مسلمة ومؤمنة تقدم أنفسها على نفس الطريق الذي سلكه سيد الشهداء حفظاً للإسلام وصوناً للدين. وهكذا فإلى جنب البكاء نجد العديد من الأنشطة في ضمن المراسم العاشورائية تغذي الجانب العاطفي كالمراثي والأشعار واللطميات الحسينية.
أما فيما يغذي الجانب العقلي والاعتقادي فهو سيل المواعظ والخطب التي تبين سيرة كربلاء العظيمة ومواقف أبي عبد اللَّه الحسين عليه السلام وتحكي ما جرى من مأساة وملحمة بشكل منطقي ومتناسب مع واقع الحال، وكذلك المواقف التي تتناول مشاكل العصر وحجم التحديات وتطرح الحلول من وحي ثورة كربلاء وأبطالها العظام، وطبيعي أن خلو هذه الكلمات والخطب من الحشو والمطالب الضعيفة يعد ضرورة في تحقيق المطلوب. وعلى ضوء ما تقدم وبالعودة إلى مراسم عاشوراء التقليدية لا سيما تلك السائدة في إيران والعراق ولبنان وأنحاء أخرى من العالم الشيعي نجد أنها في الغالب تحتوي على أنشطة وبرامج ومضامين وأساليب غنية ومتنوعة ورائعة تشبع جانبي العاطفة والعقل الإنسانيين بشكل مذهل، وقد ساهمت في الماضي في تربية نماذج فردية واجتماعية فذة دافعت عن الإسلام والحق بكل إباء، وهي إلى اليوم تربي هكذا نماذج محققة الأغراض المقدسة للإسلام والتي لا يُظن أنها يمكن أن تحقق فيما لو أقلع عن هذه المراسم التقليدية واستعيض عنها بأنشطة وأساليب حديثة تنسجم مع العصر الحديث كنمط المهرجانات السياسية والمسيرات الحاشدة والمظاهرات الشعبية والمؤتمرات الفكرية وما شاكل، فضلاً عن التفكير الخاطئ بأن البكاء لم يعد له جدوى في هذا العصر، إنه يكفي التفاعل الثقافي والفكري مع أحداث كربلاء وتحليلها لاكتساب التجربة؟!
ونحن نجد اليوم أن دولاً غنية جداً وتملك كل الوسائل الحديثة تنفق المبالغ الضخمة لأجل التأثير بالرأي العام لخدمة أهدافها لا تستطيع أن تؤثر بعشر معشار ما تفعله المراسم الحسينية التقليدية في الاتباع والمتعاطفين، فأي إنسان عاقل يجرؤ أن يتخلى عن المراسم التقليدية الناجحة والمؤثرة جداً والتي تخدم الغرض والهدف بقوة، ليستبدلها بأساليب جديدة هي أقل تأثيراً وأكثر كلفة.
وفي الختام لا بد من القول بأن المحافظة والثبات على المراسم العاشورائية التقليدية مع تخليصها من الشوائب لا يعني عدم الاستفادة من الوسائل الحديثة والمتطورة وتقنيات الاتصال والإعلام وما شاكل ذلك فهذا غير التجديد المحظور في هذا البحث، بل على العكس فإن استخدام الوسائل الحديثة المتطورة لنشر ثقافة عاشوراء ونقل أحداث هذه الملحمة للأمم كافة يعد عملاً لازماً وواجباً ولا يتعارض مع الحفاظ على المراسم التقليدية لعاشوراء بل يتكامل معها في طريق تغذية جانبي الروح والعقل ولا يخدش بهما.
* نهضة عاشوراء ص 82.
** نهضة عاشوراء ص 83.