الشيخ معين دقيق
يلمح المتأمّل في سيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
دلالات خاصّة تنجم من مسؤولية كونه الرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّ
رسالته هي الرسالة الأتمّ، واللافت تميّزه ببعض الأحكام الخاصّة به؛ كوجوب صلاة
الليل مثلاً. فما هي هذه الأحكام؟ وما حكمتها؟
*الأحكام الخاصّة
في ضوء الشَّخصية الفذّة التي يتمتّع بها نبيّ الإسلام الأكرم صلى الله عليه وآله
وسلم صاحب الخُلُق الرَّفيع
﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم: 4)، وصاحب المقام المحمود، وعلى أساس المصالح التي
نجهلها ويعلمها الله تبارك وتعالى من جهةٍ أُخرى، من الطبيعيّ أَن يتمتَّع صلى الله
عليه وآله وسلم بمجموعةٍ من الحقوق والواجبات الفردية والعائلية والاجتماعية التي
تختصُّ به، ولا يشاركه بها أيٌّ من أفراد الأُمَّة الإسلامية، وهي ما أُطلق عليها
(الأحكام الخاصّة) بالنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم؛ فهي التشريعات الخاصَّة به،
سواء أكان طرف تنفيذها شخص النبيّ أم غيره من أفراد الأُمَّة.
فهل وجود أحكام مختصّة بالنبيِّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم تكريمٌ لمقامه
الشريف أَم زيادة في تكليفه صلى الله عليه وآله وسلم؟
قد يتّضح ما نقصده عند النظر إلى أصناف هذه الحقوق والواجبات وأنواعها، فما كان
منها مرتبطاً بفعل غيره رعايةً لحقِّه صلى الله عليه وآله وسلم، فيرجع ذلك إلى
تكريم المقام، وما كان من صنف الأُمور العبادية المفروضة عليه، مع استحبابه على
غيره، فربّما يرتبط ذلك بمقام الدعوة والتبليغ وقابليّة التأثير بالغير.
وفيما يلي نشير إلى بعض هذه الأحكام الخاصّة على ضوء تصنيفٍ ثنائيٍّ أوَّليّ:
*التصنيف الأوّلي لتلك الأحكام الخاصة
يمكن تصنيف ما اختُصَّ به صلى الله عليه وآله وسلم إِلَى صنفين رَئِيسَيْنِ:
أ- ما ثبت في حقِّه، وهو على أقسام:
-1 الأحكام الوجوبية: من قبيل السّواك، وصلاة الوتر، والأُضحية، فقد رُوِيَ
عَنْهُ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ قَالَ: "ثَلَاثٌ كُتِبَ عَلَيَّ وَلَمْ
يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ: السِّوَاكُ وَالْوَتْرُ وَالْأُضْحِيَّةُ". وَفِي حَدِيثٍ
آخَرَ: "كُتِبَ عَلَيَّ الْوَتْرُ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ وَكُتِبَ عَلَيَّ
السِّوَاكُ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ وَكُتِبَتْ عَلَيَّ الْأُضْحِيَّةُ وَلَمْ
تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ"(1). وقد ناقش بعض الفقهاء القول بوجوب هذه الثلاثة عليه؛
لضعف أسانيد هذه الأخبار، ولكنّهم سلّموا بوجوب قيام الليل عليه بشكلٍ عام؛ لقوله
تعالى:
﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا *
نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ
تَرْتِيلًا﴾ (المزمل: 2 - 4)، وقوله:
﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ
نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً﴾ (الإسراء: 79). وهذا التعليل الأخير للأمر بالتهجُّد فيه
دلالةٌ على هذا الحكم الاختصاصيّ لأجل ترفيع المقام والشأنِ ونيل الكمالات، الأمر
الذي يُشعر -أيضاً- بنوعٍ من التكريم.
-2 الأحكام التحريمية: من قبيل عدم نزع لامة الحرب حتَّى يلقى العدوَّ،
فإنّه حرام عليه دون غيره، وقد صرّح بالحرمة بعض فقهائنا؛ استناداً إِلَى قوله صلى
الله عليه وآله وسلم: "مَا كَانَ لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَامَتَهُ أَنْ
يَنْزَعَهَا حَتَّى يَلْقَى الْعَدُوَّ"(2)، واللّامة: عدَّة الحرب من السيف،
والدرع.
ويمكن المناقشة في دلالة مثل قوله: "مَا كَانَ لِنَبِيٍّ" على التحريم
والحكم الإلزاميّ التكليفيّ، بل هو تعبير شائعٌ للدلالة على نفي الشأن، نظير قوله
تعالى:
﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى
نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ (الإسراء: 15)، أي: لا يليق بنا، وليس من شأننا.
فتكون الرواية المتقدمة دالة على أَنَّه لا يليق بمن كان في مقام النّبوَّة أنْ
يجبن في الحرب، أو أنْ لا يحقّق الأهداف التي لأجلها استعدّ للنزال ومقارعة
الأعداء. ولا يخفى دلالة ذلك على عظم مقام النبوَّة من جهةٍ، وتناسب التشريع مع
كونه في مقام الأسوة والاقتداء.
ومنها: إنشاد الشعر؛ استناداً لظاهر بعض الآيات، كقوله:
﴿وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما
يَنْبَغِي لَهُ﴾ (يس: 69).
ولكن، يمكن القول إِنَّ الآية لا علاقة لها بالحرمة كحكمٍ تكليفيٍّ إلزامي، وإنَّما
هي ناظرة في قوله:
﴿وَمَا عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ﴾
إِلَى نفي أن يكون تعالى قد علَّمه الشعر، ولازمه أن يكون بحيث لا يحسن قول الشعر،
لا أنْ يحسنه ويمتنع عن قوله لنهي من الله متوجّه إليه، ولا أَنَّ النازل من القرآن
ليس بشعر، وإنْ أمكنه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقوله. وبه يظهر أَنَّ قوله:
﴿وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾
في مقام الامتنان عليه بأنّه نزّهه عن أن يقول شعراً.
فالمحصّل أَنَّ عدم تعليمنا إيّاه الشعر لا يوجب نقصاً فيه، ولا أنَّه تعجيزٌ له،
بل لرفع درجته وتنزيه ساحته عما يتعارفه العارف بصناعة الشعر، فيقع في معرض تزيين
المعاني بالتخيّلات الشعريّة الكاذبة التي كلّما أمعن فيها كان الكلام أوقع في
النفس، وتنظيم الكلام بأوزان موسيقيّة ليكون أوقع في السمع، فلا ينبغي له صلى الله
عليه وآله وسلم أن يقول الشعر وهو رسول من الله، وآية رسالته، ومتن دعوته القرآن
المعجز في بيانه الذي هو ذكر وقرآن مبين(3).
ومنها: حرمة نكاح الإماء بالعقد، حيث ذكر الفقهاء في جملة خصائصه صلى الله
عليه وآله وسلم حرمة نكاح الإماء عليه بالعقد؛ بأن يعقد عليها ويتزوّجها وهي أَمَة
لم تتحرّر بعدُ. وعلّلت الحرمة بأنّ نكاحها مشروط بالخوف من العنت والمشقة والوقوع
في الزنا، وهو ممنوع في حقّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لعصمته، وباستلزامه
رقّيّة الولد، وتحكُّم مالِكِ الأمَة في زوج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وهو
ضعة لمنصب النبوّة(4).
-3 الأحكام الترخيصيّة: من قبيل نكاح ما زاد على الأربع بالعقد؛ إذ توفّي
صلى الله عليه وآله وسلم عن تسع نساء، وجمع بين إحدى عشرة.
ومنها: النكاح بغير مهر وبلفظ الهبة، وقد ورد به القرآن الكريم:
﴿وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ
نَفْسَها لِلنَّبِيِّ﴾ (الأحزاب: 50)؛ فإنّه جوّز له النكاح بالهبة، ومقتضاه عدم
المهر أيضاً.
ولعلّ في هذه الأحكام المختصّة نوعاً من الدلالة على تشريعها في مقام الحاجات
الاجتماعية للنّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المساعدة على التأثير في الدعوة وما
شابه.
ب- ما ثبت في حقِّ غيره لأجله.
ويظهر ذلك فيما يلي:
أ- حرمة زوجاته على غيره؛ لقوله تعالى:
﴿وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ
الله وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً﴾ (الأحزاب: 53).
ب- تشديد العقوبة على من ارتكبت القبيح من نسائه؛ لقوله تعالى:
﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ
مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ
ذلِكَ عَلَى الله يَسِيراً﴾ (الأحزاب: 30).
وهذا الصِّنف واضح الدلالة على عظم مقامه من جهةٍ، وعلى تنزيه ساحته عن المداهنة مع
مَنْ يرتبط به من جهةٍ أُخرى.
وقد ذكر الفقهاء بعض الأحكام الأخرى التي صارت موضعاً للنقاش عندهم، وقد اقتصرتُ
على أهمّها وأشهرها، وإنْ كان قد وقع فيها البحث أيضاً بين الفقهاء.
كما عدّت من خصائص النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الكرامات التي كرَّمه الله بها،
ككونه خاتم النبيّين، وكون أُمّته خير الأمم، ونسخ الشرائع غير شريعته، وغير ذلك
ممّا لا دخل له بالفقه.
1- بحار الأنوار، العّلامة المجلسي، ج16، ص382.
2- م.ن، ص387.
3- الميزان في تفسير القرآن، العلّامة الطباطبائي، ج17، ص108.
4- جواهر الكلام، العلّامة الجواهري، ج29، ص125.