الشيخ محمّد حسن زراقط
يقول تعالى في كتابه المجيد: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (الحجرات: 13). وبالاستناد إلى هذه الآية، يُفهم من كتاب الله سبحانه أمران: أحدهما عامٌّ، وهو أنّ من أهداف التنوّع إلى شعوب وقبائل التعارف بين الناس. والأمر الثاني، هو دور كلٍّ من الذكر والأنثى في ولادة البشريّة وتكاثرها، من دون أن تميّز الآية بينهما من هذه الناحية. ثمّ من ينظر إلى التحذير الإلهيّ على لسان أحد أنبيائه من الظلم المتبادل بين الشركاء: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ (ص: 24)؛ يدرك أهمّية التعارف بين الزوجين، لما بينهما من شراكة في الحياة الزوجيّة على تنوّع تفاصيلها وجزئيّاتها. انطلاقاً من هنا، يمكن الكلام عن أسس متعدّدة للتعارف بين الزوجين، وهي كالآتي:
• أولاً: المعرفة الشخصيّة المباشرة
على الرغم من أنّ الزواج عقد له طابعٌ قانونيٌّ كسائر العقود؛ لكنّه يختلف عن كثير من العقود في أنّ كلّ واحد من الزوجين هو موضوع العقد، أو على الأقلّ، الحياة المشتركة بينهما هي موضوع العقد. من هنا، وردت في الشريعة توصيات عدّة بضرورة المعرفة بالخصائص الشخصيّة لكلٍّ من الزوجين، سواء أكان ذلك في الخصائص الجسديّة أم النفسيّة أم الأخلاقيّة. والتوصيات في هذا المجال كثيرة، وهي عامّة وخاصّة؛ إذ يمكن أن يُستفاد منها في ما يخصّ أهميّة عقد الزواج وخطورته حسب النظرة الشرعيّة، أو ضرورة معرفة كلّ طرف للآخر بصورة مباشرة. من أهمّ التوصيات العامّة، تشبيه الله تعالى الزواج بالميثاق الغليظ(1). أمّا التوصيات الخاصّة، فيدخل فيها النهي عن الزواج من المشركين والمتّصفين بالزنا(2). ويدخل في هذا السياق كلّ ما ورد في تحديد المواصفات الأخلاقيّة للزوجين.
على الرغم من أنّ النظرة الإسلاميّة إلى الزواج يغلب عليها الطابع المعنويّ؛ بحيث ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «ما يمنع المؤمن أن يتّخذ أهلاً لعلّ الله أن يرزقه نسمة تثقل الأرض بلا إله إلّا الله»(3). وكذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما بُنِي في الإسلام بناء أحبّ إلى الله عزّ وجلّ من التزويج»(4). إلّا أنّ واقعيّة الإسلام أجازت أن ينظر أحد المرشّحين للزواج إلى الآخر في حدود تختلف عن حدود النظر العامّ. وقد ورد تشبيه مشروع الزواج المقدم عليه بأنّه عقد بأغلى ثمن.
• ثانياً: المعرفة عبر البيئة
لأنّ المعرفة الشخصيّة قد لا تكون كافية، ويمكن أن يدخل على الخبرة الشخصيّة ما يشوّش نتائجها، فقد أوصى الإسلام بتعميقها بواسطة معرفة البيئة المحيطة بأحد طرفَي العلاقة. والأحاديث الواردة في هذا المجال كثيرةٌ نكتفي بالإشارة إلى بعضها. فقد ورد عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قوله: «إيّاكم وخضراء الدمن... المرأة الحسناء في منبت السوء»(5). وورد أيضاً: «اختاروا لنطفكم، فإنّ الخال أحد الضجيعين»(6). كما ورد التعبير عن الفكرة نفسها في الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «استجيدوا الأخوال». وأخيراً: «تخيّروا لنطفكم فإنّ العرق دسّاس»(7). وتجدر الإشارة إلى أنّ الاهتمام بالخال قد يكون واسطة لمعرفة خصائص أمّ الزوجة وقياس حالها ومواصفاتها على حال أخيها ومواصفاته. وعلى الرغم من ورود هذه التوصيات في الزوجة، لكن يمكن تعميمها على الزوج أيضاً؛ بالاستناد إلى وحدة المعيار بينهما. أمّا عدم ورود نصّ يتحدّث عن الزوج في هذه المسألة، فربّما يكون سببه أنّ الرجل في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة في ذلك الزمان يُعرف بصورة مباشرة ولا يحتاج إلى توسيط البيئة لمعرفته.
• ثالثاً: المعرفة بالخصائص العامّة
إنّ خالق الذكر والأنثى، والرجل والمرأة، أدرى وأعرف بما خلق: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ (الملك: 14). وقد بيّن اللطيف الخبير في كتابه الاختلاف الطبيعيّ الفطريّ بين الرجل والمرأة في الخصائص النفسيّة، والعاطفيّة، والجسديّة(8). وورد عن أمير المؤمنين عليه السلام بعبارات مختلفة أنّ الاشتراك في الإنسانيّة والمنزلة والمقام عند الله لا يعني بأيّ وجه من الوجوه التساوي في جميع الخصائص الروحيّة والجسديّة: «فإنّ المرأة ريحانة وليست بقهرمانة»(9)، وعنه عليه السلام أيضاً: «خيار خصال النّساء، شرار خصال الرّجال»(10). ويبدو أنّ الاختلاف حقيقة غير قابلة للإنكار، تثبتها التجربة وتدعمها الإحصاءات: «يختلف الجنسان إحصائيّاً في العديد من السمات النفسيّة، مثل الاهتمامات والطبائع وأنماط التفاعل الاجتماعيّ»(11). من هنا، يشير أحد الباحثين في هذا المجال إلى ضرورة تعرّف كلّ من الزوجين على هواجس الآخر واهتماماته لتسهيل التعامل معه: «على الرجل أن يعلم أنّ المرأة بحاجة إلى التواصل...، وعلى المرأة أن تعلم بأنّ الرجل ميّال إلى السكوت في حالات الضغط...، وعلى الرجل أن يعلم أنّ المرأة عندما تأخذ رأيه في ما اشترته، تودّ سماع الإطراء على ذوقها أكثر ممّا ترغب في التحليل الاقتصاديّ والتقنيّ...، كما على الرجل أن يعلم أنّ المرأة تميل إلى أن تُفهم من دون أن تصرّح بما تريد...»(12). وبكلمة موجزة، يمكن القول إنّ الفهم المتبادل بين الطرفين شكل من أشكال التعارف الذي يساعد في استقرار الحياة الزوجيّة.
• رابعاً: تشارك الرؤى والانسجام الفكريّ
ما تقدّم كلّه مؤثّرٌ في حسن إدارة الحياة الزوجيّة والاختلاف فيها. ولكنّ الأهمّ من ذلك كلّه هو استكشاف مدى الانسجام الفكريّ والاتّفاق في النظرة إلى الحياة عموماً والحياة الزوجيّة خصوصاً. من هنا، ورد عن الإمام أبي جعفر عليه السلام أنّ رجلاً أتى إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يستشيره في الزواج، فشجّعه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وقال له: «عليك بذات الدين تربت يداك»(13). وفي هذا السياق، يقع النهي عن الزواج من المختلف دينيّاً على الأقلّ في حالة الشرك. وفي هذا السياق أيضاً، تقع قاعدة التكافؤ بين المؤمن والمؤمنة(14). كما يمكن إدارة الحياة الزوجيّة في ضوء القوانين والتشريعات، وعلى أساس فهم دقيق للحقوق والواجبات، ومثل هذا الأمر مطلوب، ولا يمكن الاعتراض عليه. من هنا، وضعت الشريعة الإسلاميّة ضوابط للحقوق والواجبات في الزواج كما في غيره من العلاقات الاجتماعيّة. فالقوامة مثلاً، من المبادئ الأساسيّة في إدارة الحياة الزوجيّة: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ (النساء: 34). وقد أقرّ الإسلام حقّ المرأة في النفقة، كما أقرّ لها باستحقاقها الأجر على إرضاع ولدها(15)، إلى غير ذلك من التفاصيل الكثيرة التي وردت في القرآن والسنّة والفقه الإسلاميّ. ولكن مع ذلك، فإنّ القاعدة الأساسيّة في إدارة الحياة المشتركة، تقوم على تبادل التسامح والعفو وإدارة الحياة وفق قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الروم: 21). وذلك أنّ الحياة الزوجيّة محلّ للتنافس في التضحية وتنشئة الأجيال، وليست ساحة للغلبة حتّى لو كان ذلك بقوّة القانون وسطوته. وما أجمل أن نختم مقالتنا بهذا الحديث: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنّ لي زوجة إذا دخلت تلقّتني، وإذا خرجت شيّعتني، وإذا رأتني مهموماً قالت: ما يهمّك؟ إن كنت تهتمّ لرزقك فقد تكفّل لك به غيرك، وإن كنت تهتمّ بأمر آخرتك فزادك الله همّاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ لله عمّالاً وهذه من عمّاله، لها نصف أجر الشهيد»(16).
1. مفاد قوله تعالى: ﴿وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾ (النساء: 21).
2. مفاد قوله تعالى: ﴿الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ (النور: 3).
3. الوافي، الفيض الكاشاني، ج 21، ص 33.
4. الهداية، الشيخ الصدوق، ص 257.
5. فقه الرضا، القمّي، ص 234.
6. هداية الأمّة إلى أحكام الأئمّة، الحرّ العامليّ، ج 7، ص 103.
7. السرائر، الحلّي، ج 2، ص 559.
8. انظر: سورة النساء: الآية 34.
9. من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج 3، ص 556.
10. ميزان الحكمة، الريشهري، ج4، ص2874
11. Steven Pinker, the Blank Slate: the Modern Denial of Human Nature, Penguin Books, 2002, p. 342.
ولا نريد صرف البحث إلى غير وجهته، ولكن ثمّة علماء من أهل الاختصاص يؤيّدون هذه الحقيقة ويتبنّونها، في مواجهة من يحاول إنكار الطبيعة الإنسانيّة كما يشير إليه عنوان الكتاب الذي اقتبسنا منه هذا النصّ.
12. موسوعة المعارف الشيعيّة: الأسرة، محمّد رضا زيبائي نجاد، مؤسّسة البيان للتواصل والتأصيل. قيد الطباعة.
13. الوافي، مصدر سابق، ج 21، ص 45.
14. المصدر نفسه، ص 81.
15. انظر: سورة الطلاق: الآية 6.
16. من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج 3، ص 389، ح 4369.