يقول أمير المؤمنين عليه السلام عن عصر الجاهليّة الذي بدأ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مبعثه فيه: «وَالدُّنیا کاسِفَةُ النّورِ ظاهِرَةُ الغُرور»؛ كان العالم ظلمانيّاً ولم يكن ثمّة رُشد ووعي وبصيرة بين الناس. ولم يقتصر هذا الظلام على البيئة والجزيرة العربيّتين، بل كان ظاهرة عالميّة طالت حضارتي ذاك العصر الفارسيّة، والرومانيّة، والحضارات الكبرى الأخرى. «قَد دَرَسَت مَنارُ الهُدى»؛ فقد طُمست الهداية التي جاء بها الأنبياء عليهم السلاموعُبِث بها وخُرِّبت، وحُرِّفت، «وَظَهَرَت أَعلامُ الرَّدىٰ»؛ انتشرت علائم الانحطاط وسقطت قيم الإنسانيّة.
• أهداف المبعث
حدث المبعث، فما كانت خطّته؟ يقول الله تعالى في سورة الجمعة: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ (الجمعة: 2). هذه خطّة العمل، وتُقسم ثلاث مراحل:
1. الإيمان: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾؛ أوّل عمل هو فتح باب الارتباط بالغيب وبالألوهيّة: أن يُخرجوا الإنسان الماديّ الحبيس والأسير لإطار المادّة ويدخلوه في فضاء المعرفة الربوبيّة الرّحب.
2. التزكية: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾؛ التزكية، تعني الارتقاء والتنمية برفع العيوب والنقائص، وإقصاء النقاط السوداء عن الشيء الذي يُراد تزكيته، وجعله حاضراً ومستعدّاً للرشد والنموّ، وإيصاله إليهما. وليست المسألة مجرّد تزكية الفرد أخلاقيّاً، بل هي أيضاً حركة شاملة لإصلاح شؤون الفرد والمجتمع في الأبعاد كافّة التي تشمل السياسة والعلاقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة.
3. التعليم: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾؛ بعد أن تُطرح مسألة التزكية، يأتي دور التعليم. لا يعني ذلك أنّ هذه الأمور متعاقبة، إنّما تدريجيّة.
عندما يصبح الذهن نقيّاً، والروح مستعدّة، بعد زوال الظلمات، والانحرافات، والعيوب، والباطل، تتهيّأ الأرضيّة البشريّة لتلقّي أنوار الحكمة والعلم الإلهيّ.
التزكية تنظّف القلب، وتزيل الشوائب النفسيّة، بينما التعليم يُثري الإنسان علماً ومعنى ومعرفة، فيُبنى بذلك إنسانٌ جديد: من طرازٍ إسلاميّ أصيل، قادر على فهم الحياة بمنظور ربّانيّ. وهنا، تتحقّق التربية الإسلاميّة الحقيقيّة التي يريدها الإسلام للإنسان.
• للبشريّة جمعاء
إنّ هذه البعثة، وما حملته من تحوّل وتغيير، ونشر للخير والجمال والنور، وإزالة للظلمة والمصائب والشقاء، ليست حدثاً عابراً أو دفعاً واحداً.
فلا يجوز أن نقول: «كانت بعثة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مرّة واحدة، فتحقّقت، وانتهى الأمر»، وأن نعدّ كلّ ما بعدها مجرّد نتائج مترتّبة عليها.
فالآية لا تقول هذا، إنّما تقول: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ* وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ﴾ (الجمعة: 2 - 3)، من أولئك «الآخرين»؟ هم الذين «لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ»؛ لمَّا يأتوا بعدُ، وإنّنا إلى اليوم مخاطَبو المبعث، والنبيّ المكرّم للإسلام صلى الله عليه وآله وسلم يمارس في هذا الحين تعليمنا وتزكيتنا، وسيبقى كذلك على مرّ تاريخ البشريّة الأبديّ.
إذاً، نحن أيضاً موضع خطاب مبعث النبيّ المكرّم للإسلام صلى الله عليه وآله وسلم. فإن لم [نستجب]، فسيكون الأمر مثل تلك التتمّة للآية الشريفة: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا﴾ (الجمعة: 5)؛ لقد أعطوهم التوراة –وكانت مجموع الأحكام الإلهيّة– ولم يعملوا [بها]. فإن لم نعمل أيضاً [بوصايا المبعث]، فسيكون الأمر كذلك.
إنّ العالم يحتاج إلى هذه الدعوة والمبعث. فحياة سكّانه ليست جيّدة اليوم. إنّ الإنسانيّة أسيرةٌ في إطار المادّة، وهي بحاجة ماسّة إلى التزكية والتعليم النبويّين. لذلك، تقع على عاتقنا مسؤوليّة، وهي أن نصلح أنفسنا ونبنيها، وُنظهر للعالم كيف تمكّنا من إدارة بلد ومجتمع إسلاميٍّ.
• الثورة الإسلاميّة تلبية للمبعث
إنّ ما حدث في ثورتنا كان تلبية للمبعث. لقد عرض الإمام [الخمينيّ] قدس سره الجليل كلام النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبعثته للناس، وطالبهم بالنضال، فلبّوا نداءه. فانطلقت هذه الحركة العظيمة وأُنجزَ هذا العمل العظيم. ثمّ واصل شعبنا أيضاً -بتوفيق من الله وفضل منه- حركته في المسار الصحيح وجرى تحقيق نجاحاتٍ أيضاً.
هذه السُنّة مستمرّة، وهي دائمة، فما دمنا نجيب دعوة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، تحدث تلك التزكية والتعليم، ويأتي ذاك النموّ والتقدّم. كما أنّ النموّ لا يقتصر على الجانب الروحيّ والأخرويّ فقط، وإنّما الدنيويّ والأخرويّ معاً: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ (البقرة: 201)، أي بناء أنموذج لأفضل حياةٍ لدنيا الإنسان.
*خطاب الإمام الخامنئيّ دام ظله خلال لقائه مسؤولي البلاد وسفراء الدول الإسلاميّة بمناسبة ذكرى المبعث النبويّ الشريف، -2024 12 02-م.