لقاء مع فضيلة الشيخ محمّد سبيتي
حوار: الإعلاميّة زينب حيدر
قليلٌ من يتأمّل مرحلة عقد القران من زاوية نفسيّة وإنسانيّة عميقة، أو يلتفت إلى تلك التفاصيل الدقيقة التي تشكّل الأساس الحقيقيّ للمودّة والرحمة بين الزوجين. فالعلاقة الزوجيّة لا تقوم فقط على التوافق في الأهداف الكبرى، بل على الانسجام في الطباع، والوعي العميق بطبيعة «العهد» الذي يربط شخصين تحت سقف واحد، في رحلة تتطلّب فهماً أعمق من مجرّد اتّفاق شكليّ.
أجرت مجلّة بقيّة الله مقابلة مع سماحة الشيخ محمّد سبيتي، وتحدّثت معه عن عقد القران، وما يرافقه من شروط، وتساؤلات، وهواجس، وأحكام.
• متى ينبغي أن ينتقل الخطيبان من مرحلة التعارف إلى عقد القران؟
ج: هذا الأمر يرشدنا إلى مستوى إدراك الطرفين واهتمامهما بطبيعة الأمور الجوهريّة والأساسيّة التي يجب مراعاتها والتفاهم عليها. فبعضهم يغلّبون الجمال، والمال، والسلطة، والشخصيّة ذات الهيبة، أو الشخصيّة الرومنسيّة،... ولكن هنا، يجب تسليط الضوء على أسس هذه الأهداف؛ فإن اجتمعت وانسجمت النسبة الأعلى منها وكانت مشتركة، فعليهم عقد القران سريعاً ولا داعي للانتظار.
فليست المسألة في طول مدّة التعارف كي نحكم من خلالها إن كان ثمّة توافق بين الشريكين أم لا، فبعض الشبّان والشابّات يعرفون بعضهم منذ سنوات، لكنّ العبرة تكمن في الموضوعات التي طُرحت بينهما، وماهيّتها وأهميّتها. ربّما كانا يستعدّان لرحلة الزواج، لكنّ محادثاتهما لم تتناول موضوع الزواج أصلاً. ورحلة العمر هذه تتطلّب تحضيراً شاملاً وتنسيقاً مسبقاً لكلّ تفاصيلها، بما في ذلك دراسة متأنّية لدور كلٍّ منهما في بناء الأسرة، خاصّةً وأنّ ثمرة هذا الارتباط ستكون أطفالاً سينضمّون قريباً إلى هذه العائلة.
كما يجب الأخذ بالحسبان أنّ ثمّة نوعين من الأهل: أهل الزوج وأهل الزوجة، ينتمي كلٌّ منهما إلى بيئةٍ مختلفة، مع اختلافات قد تمتدّ إلى طباع الإخوة من الطرفين، بل وقد تصل حتّى إلى تسمية الأبناء مستقبلاً، وهو أمر قد يثير خلافات غير متوقّعة. لذا، من الضروريّ أن يدرس كلّ شريك بتأنٍّ حجم هذا المشروع، ويقيّم بدقّة مدى أهميّة الخطوة التي هو على وشك اتّخاذها، وذلك من خلال وضع أهداف واضحة ومحدّدة لضمان نجاح مشروع الزواج.
قد يلتقي الشريكان في الأهداف المشتركة على تأسيس بيتٍ ممهّدٍ متديّن، يُنشئ أبناء مؤمنين، بارّين، مجاهدين، نافعين، ممهّدين؛ هذه الأهداف ضروريّة، لكنّ الطّباع قد تطغى عليها، والقاعدة تقول: من ترضَون دينه وخُلُقه فزوِّجوه، فالخُلُق هو الطبع. لذا، قد ينسجمان بالأهداف، بيد أنّ اختلافهما في الطّباع بارزٌ، وهذا يمنع من تحقيق الهدف. من هنا أشدّد على أهميّة دمج الأهداف مع الطباع.
• ما دور الأهل في تحديد المهر لضمان حقّ ابنتهم؟ ألا يشكّل ذلك عائقاً أمام عقد القران في بعض الأحيان؟
ج: ثمّة نموذجان من الأهل: الأوّل لم يصل إلى مرحلةٍ من الوعي والتحرّر من أنانيّتهم، لذلك، يملون على بناتهم ما تهواه أنفسهم، سواء أكان ذلك تعويضاً عمّا حُرموا منه في زواجهم، أم سعياً لكسب القبول الاجتماعيّ، أم حفاظاً على السمعة. لكنّ الحياة الزوجيّة تُبنى على الصفاء والوضوح والتواضع والترفّع عن الكمالات، لا على التقليد والتمثّل بالآخرين بما لا يُرضي الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. ومن أخطر ما يصدر عن هؤلاء الآباء عبارة: «ما سيُكتب من مهر هو حبرٌ على ورق»، وهذا يعني أنّهم بنوا الحياة الزوجيّة على تهديدٍ وسراب، فكيف ستنجح هذه العلاقة إذاً؟
إنّ عبارة (لأقرب الأجلين) تخصّ المهر لا الزواج، وهنا، نطرح مثالاً للتوعية: شابّ عقد قرانه على فتاة، وكان المهر 100 ألف دولار. ولكنّه ما إن خرج من المكان حتّى أُصيب بسكتة دماغيّة وتوفي. في هذه الحالة، يؤخذ من تركة المتوفى نصف قيمة المهر أي ٥٠ ألف دولار كمهرٍ للعروس إن كانت بِكراً، والمبلغ كاملاً إن كانت زوجته. لذلك، علينا البحث عن أهل يشاركون في بناء الحياة الزوجيّة السليمة لأبنائهم، ويسعون لاستقرار نفوس ذويهم.
• نرجو منكم سماحة الشيخ توضيح مفهوم وكالة الطلاق، ما المقصود بها؟
ج: وكالة الطلاق هي وكالة كأي وكالة أخرى في المعاملات، تفيد بأن الزوجة وكيلة عن الزوج في طلاق نفسها، وغالباً توضع الوكالة مقابل شروط في حال أخلّ بها الزوج يحق للزوجة الوكيلة تنفيذ الطلاق، وهي ليست بمعنى أن عصمة الطلاق بيد المرأة، فالطلاق إيقاع بيد الرجل أصالةً، وتبقى المرأة نائبةً عنه في حال الوكالة. ففي عقد الزواج، نقول: «وقد اشترطت الزوجة أن تكون لها وكالة طلاق نفسها نيابةً عن زوجها»، وقد تُوكَل هذه الصلاحيّة أيضاً إلى رجل ثقة يكون وسيطاً بينها وبين الزوج. فإذا خالف الزوج شرطاً اشترطته الزوجة، رفعت الأمر إلى هذا الوكيل، وله حينئذٍ أن يكتفي بأخذ تعهّد من الزوج بعدم المخالفة، أو أن يطلّقها مباشرة من دون إذن الزوج إن رأى في ذلك مصلحة.
• ما هو العهد الذي يُطرح حين التفاهم على عقد القران؟
ج: العهد هو حالة الضمير الأخلاقيّ والوجدانيّ تربط أحد الطرفين بالله سبحانه وتعالى؛ كأن يتعهّد بأمورٍ أساسيّة كالحبّ، والاحترام، والتقدير، والرعاية، والعناية، والحفظ، والصون، وأن لا يعيش أحد وحشة البُعد عن الأمّ والأب والأخ الذين بذلوا المحبّة والاهتمام، وساعدوا في التكيّف مع الأسرة الجديدة، وتأمين المستلزمات من مصاريفَ ونفقةٍ من دون إحراج، وعدم الإساءة إلى الآخر، وملء القلوب بالحبّ، حتّى يمتلئ البيت بالبشرى.
هذه العهود لا علاقة لها بمتن العقد، إنّما هي لحفظ الودّ والحقّ، فالآية الكريمة تقول: ﴿وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾ (النساء: 21). فالله سبحانه وتعالى لم يعدّ الزواج عقداً أو عهداً، إنّما أسماه ميثاقاً ووصفه بالغلظة. فالميثاق هو عهد ذاخر مثقلٌ بالمسؤوليّة والأمانة والضمير، والغلظة تعني التشدّد في حمل المسؤوليّة وحفظ الأمانة (الزوجة) التي أخذها من منزل ذويها معزّزةً مكرّمة مُصانة. لذلك، لا يوجد ضمانة شرعيّة وقانونيّة للعهد، إنّما يُسأل عنه شرعاً وخُلُقاً.
• بعض الشابّات يرغبن في تضمين عقد الزواج شروطاً تعدّ ضمانة لهنّ. فما الشروط التي تعدّ ملزمة في العقد؟
ج: الشرط الملزم في عقد الزواج هو ما يُدرَج صراحة في متن العقد، مثل عبارة: «واشترطت أن تكون عقدة الطلاق أو وكالة الطلاق بيد فلان في حال حدث كذا». أمّا إذا رغبت الزوجة في طلب الطلاق لسبب غير مبرّر شرعاً، ولا يرتبط بالشرط المثبت في العقد، فلا محل للوكالة هنا. ومن المهمّ التنبيه إلى أنّه لا يجوز إضافة أيّ شرط بعد إتمام عقد القران؛ فما يُطرح لاحقاً لا اعتبار له بمجرّد أن تقول الزوجة: «قبلت بالزواج».
وفي ما يتعلّق بالشروط عموماً، ثمّة قاعدة شرعيّة أساسيّة تقول إنّ كلّ ما أوجبه الشرع أو أحلّه، أو جعله جزءاً أساسيّاً من الحياة الزوجيّة لتحقيق التكامل بين الزوجين، لا يحقّ للزوجة أن تشترط إلغاءه، مثال ذلك: اشتراط عدم المعاشرة الزوجيّة، بحيث يكون الزواج شكليّاً فقط، كأن يكون الهدف إرضاء الأهل أو وضع الزوجة تحت رعاية الزوج، فإنّ هذا الشرط باطل شرعاً.
• هل تؤدّي شروط مثل «عدم الزواج الثاني» أو «جعل وكالة الطلاق بيد الزوجة» إلى مشكلات لاحقاً، خصوصاً إذا انقطع الزوج عن زوجته بسبب ظروف قسريّة كالسفر أو حجز جوازه؟ وما الحلّ في هذه الحالة؟
ج: يمكن تحويل الشرط من مصدر تهديد إلى أداة طمأنينة، شرط أن يُصاغ بحكمة لا يخدش بها جوهر العلاقة القائم على المودّة والرحمة، بل يعزّز الأمن والثقة والشفافيّة بين الزوجين. فالطمأنينة والثقة أولى من القلق والتشكيك. كما إنّ بعض الشروط، خصوصاً تلك المبنيّة على فرضيّات وهميّة أو سلوكات لا تتناسب مع طبع الزوجين، لا يمكن تحقيقها، وقد تثير استياء الطرف المقصود أو استفزازه إذا وردت في العقد. لذا، يُنصح بالابتعاد عنها تماماً.
• هل ثمّة حدّ معين للشروط التي يجوز للمرأة أن تشترطها في عقد الزواج؟
ج: طالما وضعت الزوجة شروطاً موضوعيّة ومقبولة وغير مخلّة شرعاً، حتّى لو تجاوزت ألف شرط، والزوج قبل بها؛ فلا مانع من إتمام العقد بما اتّفق عليه الطرفان.
• كيف تحفظ هذه الشروط روح المودّة والرحمة بين الزوجين؟
ج: تُحفظ روح المودّة والرحمة بين الزوجين حين يعامل الزوج زوجته كأنّه عبد لها، وحين تعامله الزوجة كأنّها أمة له. وأساس هذا التآلف صفتان جوهريّتان: التواضع؛ الذي يمكّن كلّ طرف من الاعتراف بخطئه، والشجاعة؛ التي تمنحه القدرة على تجاوز الخطأ وطلب فرصةٍ جديدة. عندها، تتعزّز روح المسامحة بين الطرفين، ليكون ذلك جسراً دائماً للتواصل بين القلوب.
ليكن عقد القران بداية ميثاق مبنيّ على التفاهم، والتواضع، والوعي، لا مجرد ورقة توقَّع، بل عهد يُحفظ.