تحقيق: غدير مطر
كانت تنظر إلى مكتبتها المتواضعة مليّاً، تختار كتاباً تنفض بعينيها الغبار عن سطوره، وما إن تفرغ منه متمعّنة في كلِّ لفظةٍ فيه، حتى تتسمّر أمام شاشة "حاسوبها المحمول" الصغيرة تشاهد واحداً من الأفلام "المكدّسة" لديها. لم تتعوّد ندى (23عاماً) أن تجلس يوماً، بين جدران المنزل دون عمل أو دراسة و"لن يطول ذلك كثيراً" حدّثت نفسها. هي خرّيجة كليّة الحقوق التي عاشت مع موادها أربع سنين، ولم تتخيّل أن تعمل في غير مجالها يوماً. "إنّها الساعة العاشرة صباحاً، لا هذا غير ممكن، الوقت يمرّ ببطء والملل رفيقي"، لم تعد تطيق فراغها الذي يشاطرها العمر رغماً عنها... وحالها كحال الكثيرين مع مشكلة الفراغ القاتل...
* الفراغ حَيْرة أم وقت راحة؟
يمرّ دون الاكتراث بمشاعر الندم على ضياعه، هو العمر تجرّه خيول الوقت، وما على الإنسان إلّا أن يعمل على الاستفادة من كل دقيقة منه، وأوقات الفراغ قد تكون فرصة لتحقيق الأحلام أحياناً... جميلةٌ هي، ساعة راحة وثقافة وعبادة لا لهو وندم...
الحاج جودت (50 عاماً) يمثّل وقت الفراغ بالنسبة له "الوقت الحر، الذي له حريّة التصرف فيه، بعيداً عن التزامات العمل المرهقة"، فلهذا الوقت المعنى ذاته لدى العديد من الناس، إلّا أنهم يختلفون بطريقة التعبير عنه. "هو وقتي الذي أصنع فيه ما أشاء" تقول فاطمة (19 عاماً)، و"هو الوقت الذي أحتار كيف أمضيه؟" تعرّفه حوراء (19 عاماً) بطريقة أخرى.
لكن هل هو وقت الراحة أو وقت الـ "لا شيء"؟ إن "الفراغ هو اللاشيء" هكذا عرّف المتخصّص التربوي الدكتور محمد رضا فضل الله وقت الفراغ الذي "يُحاول الإنسان تمضيته كيفما كان"، حيث يعتبر أنه "يمثّل مشكلة بالنسبة لنا، فالإنسان مخيّر بين استغلال هذا الوقت الحرّ بما يفيده وغيره أو تمضيته بما لا ينفعه أو يؤذيه أحياناً".
* للفراغ أسبابه
يزور وقت الفراغ الحاجة مريم (46 عاماً) كما تعبّر "بعد إنهاء كامل الواجبات المنزليّة المعتادة"، ويشعر به "العاطلون عن العمل أو المسنون وربات المنازل". في حين يُؤكد الحاج جودت مطلقاً العنان لشكواه "لا يأتي الفراغ إلا بعد يوم طويل من العمل". يقولها وعلامات التعب تحدّث عن أمنياته بتمضية دقائق دون عمل. الأَوْلى تسميته "فترة الراحة"، اصطلاح اتفقت الحاجة مريم مع جودت عليه.
* ليس لا شيء
لكن، الفراغ الذي يعني "لا شيء" وأن لا يرافق وقتك أيّ نشاط لتشعر بالخواء، لا يمكن أن يكون ناتجاً عن لا شيء، "لدينا يومياً أربع وعشرون ساعة، وهذه الدقائق والساعات يجب أن يملأها الإنسان بشيء ما" يُؤكد د. فضل الله، مضيفاً: "كلّما كان لدى الإنسان وعي وثقافة وفَهم لما يجري في الحياة، استطاع الاستفادة من فراغه". ويُرجع أسباب وقت الفراغ إلى أمور عدّة، فهو يكون نتيجة "للجهل لدى الإنسان الذي لا يدري ما هو دوره في هذه الحياة مستسلماً للّهو، معتبراً حياته عبثيّة". كما يكون الفراغ نتيجة "للبطالة بمعنى اللاعمل، ما يجعل الإنسان محتاراً كيف يمضي ساعات عمره المتتالية، لاجئاً أحياناً إلى أشياء غير مفيدة".
ولأن أسباب الفراغ تختلف من شخص لآخر، يعتبر د. فضل الله أنه يمكن تقسيمها إلى نوعين:
أ - أسباب مبرّرة، إذا كان الحديث عن كبار السن أو الأطفال.
ب - أسباب قاتلة، إذا كان الحديث عن الأشخاص العاملين والممارسين لدورهم في الحياة.
ويعتبر د. فضل الله البطالة سبباً قاتلاً؛ بالإضافة إلى "وجود الملهّيات الكبرى"، حيث "يرغب الإنسان بالفرح، ويتمنى الراحة مستسلماً لها، فيلجأ إلى الراحة المؤقتة من خلال قراءة النكت والطرائف أو من خلال التواصل الاجتماعي".
*الفراغ: بين حقيقي ومقنّع
"فاضي مشغول" يشاع بين الناس هذا المثل الدارج، حينما تسأل شخصاً عما يشغله فيجيب به، دلالة على انشغاله بشكل دائم ومتعب دون جدوى أو إنجاز حقيقي يُذكر. وهنا، يمكننا التمييز بين فراغ في الوقت وفراغ في مضمون وقيمة العمل، وما يمكن أن نسميه فراغاً موهوماً (مقنّعاً) وفراغاً حقيقياً (منتجاً). كالتالي:
أ - "فاضي مشغول": "أنا مشغولة دائماً، وليس لدي أي وقت فراغ، لكن عندما أفكّر كيف قضيت وقتي أجد أنّني لم أكن مشغولة فعلاً" تقول ليال (21 عاماً) ضاحكةً، وحالها لا يختلف عن مروة (24 عاماً) التي ليس لديها أي وقت فراغ، كما قالت أيضاً، رغم أنها تقضي وقتها في المنزل، وخادمتها تقوم بكافة الأعمال المنزلية عنها.
يُطلق د. فضل الله على الحالات المماثلة لليال ومروة اسم "الفراغ المقَنّع"؛ وهو نمط حياة الإنسان "الذي يُقنع نفسه بضغط العمل والدراسة، بالتالي هو بحاجة إلى الراحة لساعات وساعات"، ويضيف: "هناك أشخاص ليس لديهم رغبة بعملهم، يُقنعون أنفسهم بأن وقتهم منشغل. فالفراغ المقنّع يصيب الأشخاص الذين يتوهمون أنهم بحاجة دائماً إلى الفراغ، وهم الأشخاص الذين لا أهداف كبيرة لديهم".
ب - "أستحق قدراً من الراحة": فقد يكون الفراغ حاجة حقيقية بعد وقت من العمل أو الدراسة، حين "يشتاق الفرد إلى دقيقة راحة بلا تفكير" تقول ولاء (22 عاماً) مؤكّدة أن "من يستحق هذا الوقت هو من يعمل بجدّ طوال النهار، فيصبح بحاجة إلى وقت يرتاح فيه، ويمارس هواياته". وهذا النوع الذي عرّفه د. فضل الله بأنه "الفراغ الذي يأتي بعد العمل بحيث يكون قد حقّق أهدافه وغاياته التي تتطلب منه جهداً ومشقة"، ويتابع: "بعد هذا العمل الجاد، لكي ينتقل الإنسان إلى جوّ مثمر ومنتج آخر، عليه المرور بفترة تجديد لنشاطه"، هذه الفترة هي الفراغ التي قد "لا يكون لها مضمون معرفي، فقد تعيد نوعاً من الفرح الداخلي والراحة النفسية للإنسان ليعود أكثر جدّاً وإنتاجية" يقول فضل الله، مستعيناً بالعلماء والمثقفين كمثال لذلك، فقد كانوا "يقرأون في كتبهم التي تحتاج لجهد وتفكير وتحليل لساعات، وعندما يتعبون كانوا يلجأون إلى قراءة القصص"، إذاً الفراغ الحقيقي هو "الفراغ المنتج والإيجابي والمجدّد للنشاط" فراغ الراحة، كما يخلُص فضل الله.
*املأ فراغك فائدةً
يطرح د. فضل الله أهمية الاستفادة من كلّ أوقات الفراغ بنوعَيْه الحقيقي والوهمي، حيث توجد "محطات في حياة الإنسان يرجع فيها إلى ذاته ورغباته، وإلى ميوله التي يسعى لتحقيقها بما لا يتناسب مع أجواء اللهو والاسترخاء اللامفيد". مضيفاً، "علينا التفكير دائماً بأوقات الفراغ، كيف نقضيها بما يجدّد لنا النشاط والحيوية، أو التواصل الاجتماعي مع الأرحام، وغيرها من الأمور التي تجعلنا نقضي فراغنا بما هو أكثر فائدة". وبما أن الوقت "كالسيف إنْ لَمْ تقطَعه قطَعك"، ينصح فضل الله الأهل "بتعليم أولادهم التفكير بأهمية استغلال الوقت بما هو مفيد، وبالعمل الذي سينتقل من جيلهم إلى الأجيال الأخرى"، ويؤكّد أن "الحياة فرصة، والذي يمر لا يعود، فعلينا التفكير بأن نملأ أوقاتنا بالعلم والمعرفة قبل أن نصل إلى مرحلة الندم".
*للمؤسسات دورها أيضاً..
قليلة هي المؤسسات أو الجمعيات التي تساعد الأفراد على تمضية أوقات مفيدة واستثمار الفراغ، رغم ذلك تبرز بعض الجهود، كالأنشطة المختلفة في التعبئة التربوية:
- التعبئة التربوية واستثمار وقت الطالب
تهتم التعبئة التربوية في حزب الله بإعداد مجموعة مختلفة ومتنوعة من الأنشطة على مدار السنة. لكنها تتعزز في فترة الصَّيف والاستجمام، "من أجل تعزيز الجانب الثقافي والروحي عند الطالب، وتملأ وقته بما هو مفيد"، كما تؤكد مسؤولة الجامعات في التعبئة التربوية آلاء شميساني هذا الهدف. هناك أنشطة على المستوى الثقافي مثلاً، حيث تُنظَّم مجموعة من اللقاءات والدروس والمسابقات الثقافية. أما على المستوى العبادي فتعمل التعبئة على "الاستفادة من أوقات الشاب، لتنظيم حلقات الأنس بالقرآن والدعاء، إضافة لزيارة عوائل الشهداء" تقول شميساني، مضيفةً: "الترفيهي، يتمثل بالرحلات وزيارة الأماكن السياحية، ذات الفائدة الروحيّة والثقافية، كذلك تنظّم المباريات على المستوى الرياضي، فيما يحتل المستوى الأكاديمي الحيز الأكبر، فنعمل على تقوية الطالب دراسياً، ولا نغفل عن الأعمال التطوّعية المتمثلة مثلاً بمشروع تأهيل المدارس الرسمية المستضعَفة". وترى شميساني أن عدد المشاركين الكبير نسبياً، مؤشّر هام إلى أن أهداف هذه الأنشطة حقق الفائدة المرجوة على صعيد الشباب.
إنّ إعادة تقييم ساعات عمرنا "أفضل خطوة" بعد قراءة هذا التحقيق، فصديقتنا ندى، التي بدأنا معها، عندما تلمّست مشكلة الفراغ القاتل، قامت "بالتدريس الخصوصي، وانتسبت إلى دورات دينية وتدربت على التصوير وكتابة السيناريو"، فكان أن قتلت فراغها قبل أن تندم.. فالثواني التي تمرّ لن تعود..