صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

مقابلة: السيّد النجيب والعالِم المربّي

مقابلة حول العلّامة السيّد نجيب يوسف خلف قدس سره(*)
حوار: الشيخ موسى منصور


"حينما نسلّط الضوء على هذا العالم الربانيّ الجليل، إنّما لأجل القيم التي حملها، وصرف عمره لأجلها. الحمد والشكر لك يا ربّ أبداً ما أبقيتني، على تلك النعمة العظيمة، وعلى ذلك الوالد العظيم، وقد نشأنا في رعايته وتحت كنفه.

يا ربّ، عظمت النعمة منك علينا، فعظم فقدها، ونقول كما علّمنا السيّد الوالد وكان يردّد دائماً: "رضىً بقضاء الله".

بهذه الكلمات ردّ سماحة السيّد علي نجيب خلف على تعزيتنا له بفقد والده، عندما قصدناه –في مجلّة بقيّة الله- في منزله، وقد جرى معه هذا الحوار:


•نشأة الإنسان لها جانب مهمّ في توجيه مسيرته وتحديد أولويّاته واهتماماته، على ماذا نشأ سماحة السيّد، وأيّ بيئةٍ احتضنته ورعته؟
هو العلّامة السّيد نجيب بن محمّد بن إبراهيم بن حسن يوسف آل خلف من بلدة شقراء، وينتهي نسبه إلى عبد الله بن الحسن المثنّى ابن الإمام الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهما السلام. ولد فقيدنا (رض) سنة 1945م الموافق 1264هـ في دكار عاصمة السنغال، حيث كان والده السيّد محمّد إبراهيم يوسف مهاجــراً كالكثيريــن من أبناء بلدته شقراء بقــصد العـمل، لكـنّه بـقي محافظـــاً على تديّنه وتقواه وتمسّكه بالمفاهيم والتعاليم الإسلاميّة ومحبّة النبيّ وأهل بيته عليهم السلام ، فكان إذا ولد له ولد، يرسله بعد سنتين أو ثلاث إلى بيت جدّه في شقراء، فتكون نشأته نشأة إيمانيّة في بيئة ريفيّة محافظة. والدته الحاجّة خديجة شرارة، سليلة بيت العلم والمعرفة في جبل عامل. وعندما كبرت العائلة، التحقت بأولادها في شقراء، لتقوم بدورها في تربية أولادها على ذكر الله ومحبّة أوليائه الأطهار، وكانت تصطحبهم إلى مجالس أبي عبد الله الحسين عليه السلام لينهلوا من معين كربلاء دروس الولاء والإباء، فنشأ فقيدنا -الذي كان طفلاً صغيراً عندما أرسله والده إلى لبنان- في بيت جدّه السيّد ابراهيم، الذي كان من المهتمّين بقراءة السيرة الحسينيّة ومجالسته العلماء، فتربّى تربية صالحة في بيتٍ عمادُهُ ذكر الله تعالى والتمسّك بالعترة الطاهرة.

وقد لبّى (رض) نداء ربّه عصر يوم الثلاثاء في الثالث والعشرين من شهر ذي القعدة لسنة 1441هـ، الرابع عشر من تموّز سنة 2020م.

•بماذا يمكن أن تحدّثونا عن رحلته في طلب العلم؟
لقد درس سيّدنا الوالد (رض) إلى المرحلة الثانويّة، وقبل أن ينهيها، بدأت رحلة طلبه للعلوم الدينيّة والتي يمكن تقسيمها إلى ثلاث مراحل:

-الأولى: تبدأ بقصده حوزة النجف الأشرف، وقد دامت هجرته هذه بضع سنين تأهّل فيها من كريمة الشيخ المقدس موسى شرارة العامليّ إمام بلدة الهرمل، كما أنّها حفيدة الشيخ المقدس حبيب آل إبراهيم المهاجر العامليّ، عاد بعدها إلى لبنان.

-الثانية: بعد عودته من النجف الأشرف، استقرّ سنوات عدّة في منطقة النبعة في ضاحية بيروت الشرقيّة، تابع خلالها تحصيله العلميّ مضافاً إلى التدريس في المعهد الشرعيّ الإسلاميّ، إلى جانب القيام بمجموعة أنشطة ودروس تثقيفيّة للمؤمنين.

- الثالثة: عاد (رض) قبل العام 1973م إلى حوزة النجف الأشرف، ومكث فيها حتّى سنة 1977م، ليتابع دروسه العليا في مرحلة بحث الخارج على كبار العلماء، وكان ثقتهم. وقد تأثّر كثيراً بأستاذه السيّد عبد الصاحب السيّد محسن الحكيم قدس سره، من الناحيتين العلميّة والأخلاقيّة. وقد كان خلال مراحله كلّها يجمع في شخصه، ومع تحصيله العلميّ، الأدب والخلق والفضل والورع.

•للسيّد (رض) علاقة خاصّة مع القرآن الكريم، وبيت الله عزّ وجلّ؛ كونه إمام مسجد، ومع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام ، كيف ظهرت هذه العلاقة؟
لقد كان (رض) يحثّ على قراءة القرآن الكريم، وهذا كان ديدنه وعادته اليوميّة، وكان القرآن في كلامه ومواعظه وكلماته، وكان له دروس أسبوعيّة في تفسير آياته، بأسلوبه السهل الذي يستوعبه عامّة الناس.

أمّا بيت الله، فذلك ميدانه، ومنطلق نشاطه، فكان يقوم بعمرانه بأقصى جهده، من خلال صلاة الجماعة وبرنامج الدروس اليوميّة التي تنوّعت بين الموعظة والمجلس والتفسير والأحكام الشرعيّة، وكان لا ينصرف مباشرة بعد الجماعة، بل يجلس منتظراً لعلّ بعضهم يسأل سؤالاً أو لديه مشكلة يسعى لحلّها.

أمّا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام ، فلهم عند فقيدنا النصيب الأوفى والمقام الأسمى والسناء الأعلى، فقد نشأ وتغذّى وترعرع واشتدّ على ذكرهم وحبّهم.

لقد كان ممّن يحيي أمرهم ويعظّم شعائرهم ويضيء على سيرتهم، كانوا في نشاطه وعمله التبليغيّ المَعين والأسوة والمثال الأعلى، وتعاليمهم ووصاياهم هي التي يلهج بها ويعمل على تركيزها في وعي الناس وسلوكهم. أذكر كيف كان يهتمّ بمناسبات ولاداتهم ووفاتهم، فيقوم بإحيائها بعناية واهتمام.

•للسيّد (رض) علاقة مميّزة واهتمام كبير بطلّاب العلم، كيف تُرجمت هذه العلاقة على أرض الواقع؟
كان يقيم حلقات الدرس لمرحلة السطوح الحوزويّة، فيدرّس الفقه والأصول. وكان يرعى تلامذته ويوجّههم ويتعامل معهم كما لو كان زميلاً لهم. كان يبادلهم الحضور إلى بيوتهم، وهذا الاهتمام والرعاية، لم يقتصر على الناحيّة العلميّة، بل انسحب إلى بعض الأمور الحياتيّة والماديّة، فكان يعمل على حلّ أمورهم وقضاء حوائجهم بصمت.

•من المعروف تميُّز سماحة السيّد (رض) بأخلاقه الحسنة وعلاقته الطيّبة مع الناس، برأيك، ما مردُّ هذه العلاقة وهذا الارتباط، وكيف تُرجمت عمليّاً؟
يقول الله جلّ وعلا: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ (المجادلة: 11)، ونحن في محضر عالم ربانيّ عامل متواضع زاهد، من عرفه تعلّق به لأجل هذه الصفات، ومن عاشره صار من مريديه، حتّى إنّه يحلو لبعض العلماء أن يطلق عليه "العبد الصالح"، وبعضهم يسمّيه "زين عابدين" عصره، وآخر يطلق عليه "أيّوب زمانه" لكثرة معاناته في صحّته، كلّ ذلك لما فيه من صفات تجعله ذا منزلة ومقام عند الناس. ففي الحديث الشريف: "من تواضع لله رفعه الله"(1)، فهو عالم ربانيّ دخل بيوت الناس لزيارتهم أو عيادتهم أو هدايتهم، لكنّهم أدخلوه في قلوبهم، وقد كان يرجو من ذلك كلّه الارتباط بالله والعاقبة الحسنة. لم يكن (رض) يرى في دور المبلّغ والعالِم مجرّد إلقاء الحجّة، أو تنفيذ وظيفة ثمّ إدارة الظهر، بل عليه تأدية المهمّة والعمل على الوصول إلى خواتيمها.

كان (رض) يقول: بعض الناس مشاريع دخول جهنّم وعلينا إنقاذهم، طبعاً هذا يستدعي العناية والرفق بهم والحكمة والصبر في التعامل معهم.

•كان للسيّد (رض) وصايا أخلاقيّة وعمليّة، عن هذا الجانب من سيرته، حدِّثونا لو سمحتم.
إنّ تعاليم سماحة السيّد (رض) ووصاياه الأخلاقيّة ليست من عنده، إنّها نتاج مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، وسوف نذكر بعضاً من هذه التوجيهات من خلال المحاضرات والندوات والسهرات والدروس التي كان يلقيها:

- إنّ ذكرك لله تعالى واستغفارك ليس فقط باللسان، بل لا بدّ أن يكون في القلب والعقل أيضاً.

- أن تتعامل بجديّة مع النفس: تقسو عليها، تجاهدها لتروّضها وتهذّبها.

- المطلوب عدم الاكتفاء بالقراءة السطحيّة للقرآن والأدعية، بل التفاعل والانفعال الحقيقيّ.

- عليكم أن تطهّروا أنفسكم من الظلم والظالمين، كي لا تكونوا ممّن يواجههم صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف.

- الزهراء عليها السلام هي سيّدة نساء العالمين، والمثل الأعلى في الأمومة، وفي وظيفة الزوجيّة.

- كان (رض) ينصح من يهاجر، أن لا يجعل بلاد الغربة موطناً له، بأن يحسب حساباً للعودة إلى وطنه وبيئته.

•التواضع والزهد في الحياة برزا بشكل لافت عند سماحة السيّد (رض)؛ برأيك، كيف عاش سماحة السيّد هذا التواضع والزهد؟
هناك خصال برزت في شخصيّته؛ منها تواضعه، وخلقه الرفيع، ونكرانه للذات، يهتمّ بمن حوله، ويقوم بأمور الضيافة بنفسه، لا يقبل أن يُميَّز عمّن حوله، حتّى داخل البيت، فإذا خصّصناه بأكل أو أيّ شيء آخر لم يرضَ، وكان يظهر اعتراضه على ذلك. إذا احتاج إلى شيء يقوم به بنفسه، ولا يكلّف أحداً ما دام قادراً عليه.

أمّا زهده، فهذا ما لا يخفى على من تعرّف إليه، فكان سماحته كعالم يقوم بدور تبليغيّ، وكان يمتنع عن كلّ ما فيه بروز وشهرة وإعلان لشخصه.

طبع العديد من المنشورات والمؤلّفات وامتنع عن ذكر اسمه، على الرغم من مطالبة البعض، لما في ذلك من وقع على القارئ، لكنّه كان يرفض. ومن الشواهد أيضاً، أنّ جامعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم العالمية ارتأت تكريمه وتسليط الضوء على عطاءاته ودوره التبليغيّ، فلم يلبِّ طلبهم على الرغم من إصرارهم وتكرار الطلب منه، قائلاً إنّه ما دام موجوداً فهذا طبعه وديدنه، أمّا بعد وفاته فلا يرجع القرار إليه.

•كلمة شكر وامتنان
هذا غيض من فيض فضائله وخصاله، ونقول كما كان يقول (رض): "ما عندنا هو من مدرسة أهل البيت عليهم السلام "، فلا عجب أنّها خرّجت نجيباً كعلّامتنا الجليل. لقد أقام (رض) وبلّغ في أماكن عديدة؛ كبلدة القماطيّة ومسجد الإمام الحسن عليه السلام في الرويس وأبيدجان في أفريقيا، مضافاً إلى أمريكا الخليج وغيرها، وقد ترك أثراً كبيراً فيها.

وفي الختام، أتقدّم بالشكر والامتنان لكم وللهيئة الإداريّة في مجلّة "بقيّة الله" على الاهتمام وتسليط الضوء على هذا العالم الجليل الربّانيّ، وهذا ليس غريباً عنكم وعن الأهداف التي تسعون لأجلها، وهي تقديم الدين وأهله إلى الناس بما ينفعهم ويجعلهم متمسّكين به.

(*) توفي في 23 من شهر ذي القعدة 1441هـ- 14/7/2020م.
1. الكافي، الكليني، ج2، ص122.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع