الشيخ موسى خشّاب
تتفاوت قيمة الإنسان بين رؤية وأخرى؛ ففي حين ترى بعض المدارس أنّ الإنسان في الأصل حامل خطيئة، وأنّه يبقى كذلك ما لم يتطهّر من خطيئته، يرى الإسلام الإنسان مولوداً على الفطرة ما لم ينحرف عنها. ويعبّر القرآن الكريم عن الإنسان بأنّه خليفة الله الذي خلقه بيده، وأسجد له ملائكته، وفضّله على مخلوقاته. فتلك الاتّجاهات تُصنّف الإنسان في الأساس مهاناً إلى أن يثبت العكس، بينما يثبت الإسلام أنّ الإنسان مكرّمٌ إلى أن يثبت العكس، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ (الإسراء: 70).
•الشريعة الإلهيّة وكرامة الإنسان
إنّ تقدير الإنسان المسلم لذاته، وإكرامها عن الابتذال، وعدم تعريضها للإهانة بأيّ شكل من الأشكال، تعبّر عن مدى انسجامه مع الفطرة الإلهيّة والشريعة التي أحلّت ما يؤدّي إلى كرامته، وحرّمت ما يؤدّي إلى إهانته.
من مظاهر احترام الإنسان لذاته، أن يزكّي نفسه ويطهّرها من الصفات الرذيلة والخسيسة، كالبخل والجبن والحرص والحسد والنفاق، وأن يحسّن عمله فلا يرتكب الفواحش والمنكرات ولا يتّبع الشهوات.
كما أكّدت الشريعة على إكرام اللسان عن الخنا؛ أي عن كلّ قول قبيح، كالنميمة والغيبة والكذب والسخرية والاستهزاء، ونهت عن فحش الكلام وبذاءة اللسان؛ من شتم وسب وإهانة للآخرين وكلّ قول لا يليق بالإنسان وبكرامته عند الله، ففي الرواية: "هانت عليه نفسه من أمّر عليها لسانه"(1).
•مبرّرات وأعذار
قد يتعرّض المرء للآخرين بالسبّ والشتم والإهانة، ويقدّم حججاً وتبريرات عدّة لفعله، من قبيل:
أوّلاً: الشدّة من ضرورات التربية
قد يعتقد بعض المربّين والآباء أنّ التربية السليمة قد تتطلّب استخدام الإهانات مع أولادهم لحثّهم على تغيير سلوكهم، وليصنعوا منهم أشخاصاً مفيدين للمجتمع.
في حين نجد أنّ التربية الإسلاميّة قائمة على مبدأ أساس، وهو إكرام الأولاد، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أكرموا أولادكم"(2). والسبب في التشديد على هذه المسألة أنّ الشعور بالإهانة مفتاح ارتكاب الذنوب؛ لأنّ: "من كرمت عليه نفسه، هانت عليه شهوته"(3)، فمن أراد أن يقدّم للمجتمع إنساناً سليماً متوازناً مفيداً، عليه أن يكرمه. وما ذُكر من أنّ الإهانة ضروريّة في عمليّة التربية ليس سوى تسويلات شيطانيّة ووسوسة إبليسيّة.
ثانياً: لحظة غضب
قد يدّعي الإنسان أنّه ليس مسؤولاً عن أفعاله وأقواله في حال الغضب، باعتبار أنّه لا يكون واعياً تماماً حينها، وأنّه في حال لم ينفّس عن غضبه، ستتأثّر صحّته الجسديّة أو يُتّهم بالجبن!
صحيح أنّ الدين قد لا يرتّب أثراً على بعض أفعال الإنسان في حال الغضب الشديد الـــذي يسلب منه القصد إلى الفعل؛ كالطلاق أو اليمين، ولكن هذا لا يعني أنّ القـلــــم قد رُفع عن الإنسان في حال الغضب، بل يجب عليه تحمّل مسؤوليّــــة أفعاله التي يقوم بها، ولا يخفّف عنه أنّه كان غاضباً، فلا يصحّ أن يفعل الإنسان ما يشاء، ويهين الآخرين، ويحقّرهم ويسبّهم ويشتمهم، ثمّ يجلس كالحمل الوديع ويقول إنّه كان ضحيّة لحظة غضب. وبعبارة أخرى، إنّ الغضب لا يرفع المسؤوليّة عن الإنسان بتاتاً، ولا يعتبر سبباً تخفيفيّاً عمّا يقوم به، وعدم إمضاء الطلاق واليمين ليس بسبب الغضب، بل لأنّ الغضب يسلب منه القصد الجدّيّ لهذه الأفعال التي لا تتمّ من دون قصد، بخلاف السباب والشتائم والضرب التي يفعلها الغاضب، وهو قاصد لما يقوم به تماماً.
ثالثاً: المعاملة بالمثل
حين يتعرّض الإنسان للسبّ والشتم والإهانة من قبل الآخرين، ألا يحقّ له أن يردّ بالمثل، خصوصاً أنّ الله تعالى يقول: ﴿فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ (البقرة: 194)، وأمير المؤمنين عليه السلام يقول لأصحابه حين سبّه أحد الخوارج قائلاً: قاتله الله كافراً ما أفقهه! فوثب القوم ليقتلوه، فقال عليه السلام : "رويداً إنّما هو سبّ بسبّ، أو عفوٌ عن ذنب"(4)؟ كما أنّه ليس من المنطقيّ بتاتاً أن تقابل السبّ بالورد! هكذا قد يبرّر أحدهم.
لكن، لنفترض أنّ مواجهة السبّ بالسبّ والشتيمة بالشتيمة والإهانة بالإهانة والإساءة بالإساءة أمر مسموح وجائز من الناحية العقليّة والشرعيّة، ولكن لا بدّ من الالتفات إلى النقاط الآتية:
1- تحريم الجنّة على الفحّاش البذيء
من المؤكّد أنّ الإسلام لا يبيح لأتباعه البذاءة والفحش في الكلام، حتّى في حال الردّ على السبّابين والشتّامين. وقد ذكرت الروايات أنّ عاقبة الفحش والبذاءة هو تحريم الجنّة، ففي الرواية عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله حرّم الجنّة على كلّ فحّاش بذيء، قليل الحياء، لا يبالي ما قال ولا ما قيل له"(5).
2- ليس من قيمنا
إنّ قِيَم الأعداء المبتذلة تسمح لهم بالفحش والبذاءة، ولكنّ قيمنا لا تسمح لنا بذلك: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ (الكافرون: 6). وهذا الأمر يشمل كلّ فعل لا يتناسب مع القيم الإسلاميّة، ومثاله الواضح أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لم يردّ على غدر معاوية بالغدر، وكان يقول: "والله، ما معاوية بأدهى منّي، ولكنّه يغدر ويفجر، ولولا كراهيّة الغدر كنت من أدهى الناس، ولكن كلّ غدرة فجرة، وكلّ فجرة كفرة، ولكلّ غادر لواء يعرف به يوم القيامة، والله ما استغفل بالمكيدة ولا استغمز بالشديدة"(6).
3- الكظم والصفح:
إنّ أئمّتنا عليهم السلام كانوا يعتمدون أسلوب العفو عن الذنب وليس أسلوب السبّ مقابل السبّ، وذلك أنّ منهج أهل البيت عليهم السلام هو منهج استيعابيّ للآخرين، وقد مارس هذا المنهج، مضافاً إلى الأئمّة عليهم السلام ، تلامذتهم وأصحابهم المخلصون. ولهذا المنهج ثلاث مراتب ودرجات تتضمّنها الآية الكريمة: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (آل عمران: 134).
•مراتب منهج أهل الصفح
إنّ مراتب أهل الصفح في الآية الكريمة السابقة ثلاث، وهي مراتب تصاعديّة، بمعنى أنّ الإنسان لا يمكنه أن يصل إلى المرتبة اللاحقة ما لم يقطع بنجاح المرحلة السابقة، وهي:
المرتبة الأولى - كظم الغيظ:
الغيظ هو الغضب الشديد. ومن الطبيعيّ أنّ كلّ إنسان يغضب. وكظم الغيظ يعني عدم التشفّي وملك النفس عند الغضب، فعن الإمام الصادق عليه السلام : "من لم يملك غضبه، لم يملك عقله"(7)، ومعنى ملك الغضب أن يسيطر على جوارحه، فلا يضرب من أغضبه بيدَيه، ولا يسلّط عليه لسانه، ولا ينظر إليه بعينَيه نظرة مخيفة، فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "من كظم غيظاً ملأ الله جوفه إيماناً"(8).
المرتبة الثانية - العفو عن المذنب:
العفو هو قبول العذر والمسامحة، قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ (الشورى: 37)، وقال عزّ وجلّ: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ﴾ (النور: 22). وقد يصفح بعضُهم عن المذنب بعد أن ينال عقاباً عادلاً، أو بعد أن يعنّفه في الكلام ويقرّعه، أو بعد أن يعاتبه، لكنّ المنهج القرآنيّ يحثّ على أن يكون الصفح جميلاً، قال تعالى: ﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ (الحجر: 85). والصفح الجميل صفح من غير عقوبة، ومن غير تعنيف وتقريع، وحتّى دون عتاب.
المرتبة الثالثة - الإحسان:
هي من أعلى المراتب، وهي عبارة عن مقابلة الإساءة بالإحسان، وعدم الاكتفاء بكظم الغيظ والعفو، قال تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ (فصلت: 34). ولأنّها أعلى المراتب، نجد أنّ الأئمّة عليهم السلام وأصحابهم قد غرسوها فينا بفعلهم.
•نموذج أهل الإحسان
- الإمام الحسن عليه السلام والشاميّ
روي أنّ شاميّاً رأى الإمام الحسن عليه السلام راكباً فجعل يلعنه، والحسن عليه السلام لا يردّ، فلمّا فرغ أقبل الحسن عليه السلام، فسلّم عليه وضحك، فقال: "أيّها الشيخ، أظنّك غريباً، ولعلّك شُبِّهت، فلو استعتبتَنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرّكت رَحْلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك، كان أعود عليك، لأنّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً".
فلمّا سمع الرجل كلامه بكى، ثمّ قال: أشهد أنّك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالته(9)...
- مالك الأشتر: لأستغفرنَّ لك
حُكي أنّ "مالك بن الأشتر (رضي الله عنه) كان مجتازاً بسوق وعليه قميص خام وعمامة منه، فرآه بعض السوقة فأزرى (عابه) بزيّه فرماه ببندقة (ما يُعمَل من الطين فيُرمى به) تهاوناً به، فمضى (الأشتر) ولم يلتفت، فقيل له: ويلك تعرف لمن رميت؟ فقال: لا، فقيل له: هذا مالك صاحب أمير المؤمنين عليه السلام، فارتعد الرجل ومضى ليعتذر إليه، وقد دخل مسجداً وهو قائم يصلّي، فلمّا انفتل انكبّ الرجل على قدميه يقبّلهما، فقال: ما هذا الأمر؟ فقال: أعتذر إليك ممّا صنعت، فقال: لا بأس عليك، فوالله ما دخلت المسجد إلّا لأستغفرنّ لك"(10).
1.بحار الأنوار، المجلسي، ج68، ص286.
2.وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج21، ص476.
3.بحار الأنوار، (م.س)، ج67، ص78.
4.وسائل الشيعة، (م.س)، ج20، ص106.
5.موسوعة أحاديث أهل البيت عليهم السلام ، النجفيّ، ج8، ص324.
6.بحار الأنوار، (م.س)، ج33، ص197.
7.أصول الكافي، الكليني، ج2، ص305.
8.جامع أحاديث الشيعة، البروجردي، ج13 ص481
9.بحار الأنوار، (م.س)، ج43، ص344.
10.(م.ن)، ج42، ص157.