مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الحكومة الإسلامية وولاية الفقيه: صفات المقنّن

الشيخ الأستاذ محمد تقي مصباح اليزدي


* الصفة الأولى
يجب أن يتمتع المقنِّن بالعلم اللامتناهي بجميع المصالح الفردية والاجتماعية والجسمانية والروحية والمادية والمعنوية حتى يمكنه أن يضع قانوناً يشمل جميع أبعاد الإنسان الوجودية. هذه الصفة منحصرة بالله تعالى فقط، لهذا لا يحق لغيره أن يضع قانوناً للبشر.

* الصفة الثانية
يجب أن يكون المقنِّن بعيداً عن الأنانية والعشائرية والقومية وكل أشكال التعصب، وأن يضع القانون الذي يطابق الحق والعدالة. 
- وتوضيحه:
إن مجرد العلم بالمصالح والمفاسد لا يكفي لوضع القانون، فقد يكون الشخص عالماً بشكل جيد بالمصالح القانونية ولكن التوجهات الشخصية أو العائلية أو الجمعية لن تدعه يضع القانون الذي عينه، فمثل هذا الإنسان سوف يقدم أموراً تحت عنوان القانون لتأمين منافعه الخاصة أو منافع مجموعته. فإضافة إلى الاطلاع على المصالح والمفاسد يجب أن يكون المقنِّن خارج سلطة الأنانية والتعصب حتى لا يحيف بالحق والعدالة. وهذه المعايير المذكورة تدل بشكل واضح على أن الأشخاص العاديين لا يمكن أن يمتلكوا مثل هذه الحصانة، أي أن كل شخص شاء أم أبى سوف يخضع للميول والتأثيرات، ومن البعيد جداً أن يصون نفسه عن اتباع الهوى. أما الله المتعال فإنه العالم المطلق بكل المصالح والمفاسد، ولا يعود عمله عليه بأي نفع أو ضرر لأنه الغني المطلق. فلأنه الغني المطلق لا يقع تحت تأثير الميول والأهواء. فهذا دليل آخر على وجوب كون المقنن خالق الكون ورب العالمين لأنه المنزه من كل الأهواء النفسانية والتوجه إلى المصالح الخاصة.

* التوحيد والشرك في قضية التقنين

إن التوحيد الذي يُعدُّ البناء التحتي للفكر الإسلامي يقتضي انحصار التشريع بالله تعالى، على النحو التالي: نحن نعلم أن أحد شؤون التوحيد هو "الربوبية التشريعية"، فالشخص الموحد كما أنه يجب أن يعتقد بأنه لا خالق إلا الله يجب أن يعتقد بأن مدير العالم هو الله تبارك وتعالى، وأن الربوبية التكوينية للكون من الله، وإضافة إلى ذلك يجب أن يعتقد بأن الربوبية التشريعية تختص به. أي أنه يجب أن يطيع الله فقط، الطاعة دون أي حرج. إن مشكلة إبليس التي أدت إلى كفره وهلاكه الأبدي هي هذا النقص في الربوبية التشريعية، فهو كان يعتقد بالربوبية التكوينية وبالمعاد. ولأجل هذه المسألة أكد القرآن الكريم كثيراً على هذا الأمر واعتبر أن الذين ينكرون الربوبية التشريعية هم مشركون. وصحيح أنه لا يجري عليهم أحكام المشركين في الظاهر، ولكنهم من المشركين في الباطن ولن ينالوا سعادة الموحدين أبداً. فيما يتعلق بأهل الكتاب يقول الله تعالى: ﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله. (التوبة/31) وكما جاء في الروايات أن اليهود والنصارى كانوا يطيعون أحبارهم ورهبانهم بصورة مطلقة، ويعتبرون أن هذه الطاعة واجبة، وأن كل ما يقولونه واجب ككلام الله. يقول الإمام الباقر عليه السلام في ذيل هذه الآية: "والله ما صلوا لهم ولا صاموا ولكن أطاعوهم في معصية الله". فالربوبية التشريعية تعني أن على الإنسان أن يسلِّم أمام الله، ويؤمن بأن الأمر والنهي يعودان إليه فقط. وإنه هو الوحيد الذي تؤخذ الأحكام منه، أو من يرسله هو، أو أولئك الذين تعود أوامرهم في النهاية إلى الله تعالى. وفي المقابل لا حق لأحد أن يأمر أو ينهى بصورة مستقلة. إن هذه الرؤية التوحيدية تقتضي انحصار حق التقنين والتشريع بالله تعالى. وإذا قام شخص ما بوضع قانون فيجب أن يستند إلى قانون الله وإذنه التشريعي.

والصفات التي ذكرناها للمقنن هي في الواقع أدلة في هذا المجال. من الواضح أن المسائل الاجتماعية والحقوقية من الأمور التي يقع النزاع فيها، فيجب عندئذٍ إرجاع حكمها إلى الله. ويوجد أدلة أخرى أيضاً، ولكن أشهرها وأقواها:
أولاً: العلم الإلهي المطلق.
ثانياً: إن الله لا ينتفع ولا يتضرر من أفعال الناس، وعند وضع القانون فإنه تعالى لا يقع تحت تأثير الميول الفردية والعصبية.
ثالثاً: إن حق المولوية والتشريع والأمر والنهي ينحصر بالله تعالى، لأنه رب، والربوبية التكوينية والتشريعية تختص به وحده.

* خصائص المشرّع في القرآن
حول المميزات التي ذكرناها للمشرّع يمكن الإتيان بالعديد من الآيات القرآنية كشاهد على المطلب. وهي غير الآيات التي تتعلق بالربوبية المطلقة والمالكية والملكية المختصة بالله تعالى مثل قوله: ﴿يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس. (الجمعة/1) أو الآيات التي تدل على الولاية الإلهية المطلقة والمولوية الإلهية. وهذه الآيات يمكن تقسيمها إلى عدة أقسام:

أ: قسم من هذه الآيات تحكي عن الحاكمية المختصة بالله، وهي كما قلنا غير الآيات المرتبطة بالربوبية والمالكية. فهي تصرّح بأصالة الحكم لله كما في قوله تعالى: ﴿إن الحكم إلا لله أمر إلا تعبدوا إلا إياه.... (يوسف/40) وكلمة الحكم قد تستعمل أحياناً بمعاني أخرى غير هذا المعنى المذكور هنا. ولكن في هذه الآية، وخصوصاً أنه قال في تتمتها: ﴿أمر ألا تعبدوا إلا إياه. يتضح أن هذا الحكم هو شيء يلازمه الأمر والنهي، وهذه الحاكمية المختصة بالله تعالى توجب أن يأمر الله عباده وينهاهم، وعلى العباد أن يطيعه.

ب: وكذلك يوجد العديد من الآيات التي تدل على أن الناس يجب أن يسلموا لله تعالى بشكل مطلق ويتبعوا دينه وأوامره كما جاء: ﴿ومن يسلم وجهه لله وهو محسن. (لقمان/22) وفي الأساس فإن معنى الإسلام هو ما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام): "الإسلام هو التسليم". وأيضاً قوله تعالى: ﴿أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون. (آل عمران/83) والإنسان الذي هو أحد مخلوقاته يجب أن يطيعه، ولا يقبل بغير دين الله.. وبعد آيتين يقول تعالى: ﴿ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين. (آل عمران/85)

ج: ويوجد آيات أخرى تدل على أن الناس يجب أن يرجعوا عند التنازع والاختلاف إلى حكم الله كما في قوله تعالى: ﴿وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله. (الشورى/10) ومن الواضح أن المسائل الاجتماعية والحقوقية من الأمور التي يقع النزاع فيها. فيجب عندئذٍ إرجاع حكمها إلى الله. وفي آيات أخرى، يؤكد الله تعالى على نبيه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بضرورة الحكم بما أنزله الله عليه ويحذره من هوى النفس أو اتباع أهواء الآخرين. كما في قوله تعالى: ﴿فاحكم بينهم بما أنزل الله. (الشورى/48) وأيضاً: ﴿وإن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك. (الشورى/49) وبالطبع فإن ساحة النبي المقدسة مصونة من هذا الأمر لأنه معصوم، ولكن للتأكيد، وأيضاً لكي يعلم الآخرون أن أحكام الله يجب أن تراعى بدقة ولا يتخلف عنها قيد أنملة. وفي سورة المائدة يقول الله تعالى في ثلاث آيات:
﴿ومن لم يحكم بها أنزل الله فأولئك هم الكافرون.
﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون.
﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون.

وهذا التكرار يدل على أهمية هذا الموضوع عند الله تعالى.

و: وفي القرآن الكريم آيات يذمّ فيها بشكل كبير أولئك الذين يضعون القوانين من أنفسهم ويحددون الحلال والحرام فهؤلاء سوف يتعرضون للعقاب الشديد. ﴿قل ألله أذن لكم أم على الله تفترون. (يونس/59) فهؤلاء الذين يحرمون ويحللون من عند أنفسهم يقولون أحياناً: هذا حلال وذاك حرام، كل ذلك استجابة لهوى أنفسهم. وأيضاً يقول الله تعالى: ﴿ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً. (هود/18) وفي سورة الأنعام من الآية 136 إلى الآية 150 يذكر القرآن الكريم في حوالي 15 آية موارد مختلفة من الأحكام التي وضعها المشركون من عند أنفسهم فحللوا ما شاؤوا وحرموا، ويذمهم بأشد الذم. وفي سور أخرى مثل النحل، الكهف، هود، العنكبوت و... يوجد آيات ناظرة إلى أعمال الشرك والحرام التي ارتكبها أولئك الذين وضعوا القوانين من أنفسهم وهم يريدون أن يجروها في المجتمع ويدعوا الناس إلى اتباعها والنتيجة هي: إن الله تعالى (كما يذكر القرآن الكريم أيضاً) لربوبيته التكوينية وإحاطته العلمية يعلم الحق والعدل أفضل من الآخرين. والآية الشريفة ناظرة إلى هذا المقصد كما في قوله: ﴿قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتّبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى. فهو العالم بالحق في الأصل، وله الإحاطة العلمية بجميع الحقائق والمصالح والمفاسد، وله الولاية على جميع عباده الذين يجب عليهم بحكم فقرهم، إليه أن يرجعوا إليه ويطيعوه. وطبق هذه الأدلة نعلم أن المشرّع بالأصالة هو الله تعالى. وسوف نبين لاحقاً أن هذا لا يعني نفي حق التشريع عن الآخرين، ففي النظام الإسلامي يمكن طرح نهج آخر من التشريع بشرط أن يكون مستنداً إلى إذن الله تعالى.

فإذا كان التشريع يعود إلى إذن الله وهو واقع في طول القوانين الإلهية ولا يقف بعرضها لا يعتبر هذا الأمر شركاً بل يجب أتباعه. أما إذا كان مستقلاً ولا يستند إلى إجازة الله فلن يكون له اعتبار بنظر الإسلام. ولا يمكن اعتبار محتواه إسلامياً ولا ينبغي أن يتّبعه المسلمون.

* الخلاصة

يجب أن يكون المقنّن مطلعاً على جميع مصالح البشر، وأن يشمل قانونه جميع أبعاد الإنسان وشؤونه، دون أن يميل إلى المصالح الخاصة أو التعصب لمجموعة أو فئة ولا يتبع الهوى. والوحيد القادر على هذه الأمور هو الله تعالى. يطرح التوحيد في التشريع بمعنى أن الموحد يجب أن يتبع قانون الله فقط. فالربوبية التشريعية تأتي إلى جانب الربوبية التكوينية. لا حق لأحد إلا الله أو من يأذن له الله بالتشريع والأمر والنهي. فالولاية المطلقة لله في التشريع. يجب على الجميع الرجوع إلى الله في موارد الاختلاف والتسليم له في أوامره ونواهيه. ومن يقبل بغير حكمه فهو كافر وظالم وفاسق. والذي يضع القوانين من نفسه يفتري على الله.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع