آية الله الشيخ عبد الله جوادي الآمليّ
"لماذا لا يزال الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف غائباً عنّاً؟"، سؤال طبيعيّ قد يتبادر إلى أذهاننا، وجوابه أنّ في الأمر عللاً وأسراراً، وقد تطرّقنا في العدد السابق، إلى أنّ أحد أسرار الغيبة هو الخوف من القتل، وسنستكمل في هذا المقال عن سرّ آخر: "الفيض التدريجيّ".
•السرّ الثاني: الفيض التدريجيّ
لا شكّ في أنّ الإمام المعصوم عليه السلام واسطة الفيض الإلهيّ على الخلق، فيكون حضوره المشهود فيضاً مضاعفاً. وإنّ فيض حكومة عباد الله الصالحين في الأرض، وإن كان من جهة المبدأ الفيّاض قابلاً للتحقّق من دون مقدّمات أو موانع، إلّا أنّ القوابل تفتقد إلى الاستعداد الكامل اللازم لتلقّي فيض جمعيّ دفعيّ، فلا يمكن تحقّق هذا الفيض إلّا حينما تتوفّر جملة من الشروط والمقدّمات والأرضيّة المناسبة ضمن إطار زمنيّ محدّد. كما أنّ من شروط تحقّق حكومة الصالحين في الأرض تربية عبادٍ كرامٍ، وإيجاد الاستعداد اللازم لدى الناس لتقبّل حكومة العدل العالميّ، التي هي من شروط إنجاز غيبة إمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف.
•الحكمة من الغيبة
ورد في جملة من الروايات عن المعصومين عليهم السلام أنّ للغيبة عللاً وأسراراً أخرى ستتّضح عند تحقّق ظهور وجوده المبارك.
فضمن جوابه لسؤال من سأله عن سرّ الغيبة، أفاد الإمام الصادق عليه السلام قائلاً: "وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدَّمه من حجج الله تعالى ذكره. إنّ وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلّا بعد ظهوره، كما لم ينكشف وجه الحكمة لما أتاه الخضر عليه السلام من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار لموسى عليه السلام، إلى وقت افتراقهما. يا ابن الفضل، إنّ هذا الأمر أمرٌ من أمر الله تعالى، وسرّ من سرّ الله، وغيب من غيب الله، ومتى علمنا أنّه عزّ وجلّ حكيم، صدّقنا بأنّ أفعاله كلّها حكمة، وإنْ كان وجهها غير منكشفٍ لنا"(1).
•وجوه الاستفادة التدريجيّة
قد يُتوهَّم أنّ الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف لمّا كان مصباح الهداية، كانت الاستضاءة بنور وجوده منوطة بإمكانيّة الرجوع إليه، مع أنّه لا يتيسّر في عصر الغيبة مراجعة الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف لاستفتائه في المسائل الشرعيّة والمشكلات العلميّة وإجراء الحدود والقوانين؛ لأنّ الغيبة مانعة عن وصول فيوضات مشعل الهداية واستلهام المؤمنين من بركاته وعناياته. ومعه فلماذا يغيب الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف ويحرم المؤمنون من فيض وجوده المبارك؟
مع أنّ بعض الروايات وصفت الإمام المعصوم عجل الله تعالى فرجه الشريف بأنّه مصباح هداية، إلّا أنّ هذا التعبير يشير إلى حالة وسطى وجهة خاصّة من منافع ذلك الوجود المبارك وألطافه. وقد ورد في بعض الأخبار تعبير أكمل وأبلغ في بيان مقامه الشامخ؛ إذ ورد تشبيه الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف بشمس العالم المشرقة التي تشعّ بنورها لتنير العالم. عن جابر الأنصاريّ أنّه سأل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم:
يا رسول الله، فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "إي، والذي بعثني بالنبوّة، إنّهم يستضيئون بنوره، وينتفعون بولايته في غيبته، كانتفاع الناس بالشمس وإن جلّلها السحاب"(2).
والذي يمكن أن يُقال في بيان هذا الحديث أمور:
الأوّل: إنّ الشمس محور حركة الكواكب والنجوم التابعة، وكذلك الوجود المبارك لحجّة الله عجل الله تعالى فرجه الشريف محور نظام الكون: "ببقائه بقيت الدنيا، وبيمينه رزق الورى، وبوجوده ثبتت الأرض والسماء"(3).
الثاني: إنّ انتفاع موجودات المنظومة الشمسيّة من الشمس لا ينحصر في إفاضة نورها على هذه الموجودات مباشرةً حتّى يكون غيابها خلف السحاب مانعاً من الانتفاع بها بالكامل، وإلّا فطاقة الجاذبيّة أساس ثبات النظام الكونيّ وبقائه، ونحوها هبوب الرياح وهطول الغيث والمطر ونموّ النباتات و... وهي كلّها من بركات وجود الشمس وإشراقها. ويجري الكلام مثله في بركات وجود إمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف التي تتجاوز بمراتب كثيرة عقبة الغيبة الظاهريّة للإنسان الكامل لتُحرم الموجودات من فيضه. إنّ قوام السماوات والأرض، وتدبير أمور العالم، وحصول الرزق لعباده تعالى، وهداية من لهم الاستعداد لذلك و... من فيوضات وعنايات وجوده المبارك، فأنّى لغيبته أن تكون مانعاً عن تحقّقها؟
الثالث: إنّ السحاب حينما يقع حائلاً بين قرص الشمس وبين الناظر لا يؤدّي إلى خفاء الشمس من الوجود، غايته أنّ السحاب يجلّل الشمس ويحرم الناظر من نورها ومن مشاهدة إشراقها، إلّا أنّ الشمس أكبر من أن يغيّبها السحاب عن الوجود، كما أنّ منافعها أجلّ من أن تنتفي بانتفاء رؤيتها.
كما أنّ الوجود المبارك للإنسان الكامل -الذي هو أساس استمرار الحياة في الكون- أجلّ من أن يحول مانع دون أن يُفيض على الكون أو أن يؤدّي إلى ضعف علاقته مع عالم الوجود، فكيف بموجود هو خليفة الله في أرضه وسمائه، وبيده عنان نظام الكون بإذن الله، وأحاط به علماً بإذن الله، فكيف له أن يكون غائباً؟
الرابع: إنّ السحاب إنّما يحجب النظر من الأرض نحو السماء، إلّا أنّه لا يقدر على حجب النظر بأعينٍ ترى ما خلف السحاب. كما أنّ الوجود المبارك لصاحب العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف غائب عن عيون أهل الدنيا الذين يقتصر نظرهم على عالم الطبيعة، فيغيب عنهم كلّ ما يقع خلف سحاب التعلّقات والميول الدنيويّة. وأمّا أولئك الذين نفضوا غبار الشهوات وأهواء النفس، وتعلّقت أنظارهم بالسماء؛ فلا يعقل أن يكون ذلك الوجود الشريف غائباً مستتراً لديهم.
وإلى هذا المعنى أشار الشاعر مصلح الدين سعدي قائلاً:
ألا ترى أنّه متى ارتفع الغبار ... حيل بينه وبين البصر وإن كان ثاقباً؟(4)
الخامس: إنّ ضياء الشمس الساطعة وإفاضتها ممّا لا ينقطع، كما لا يمكن تحديده وتجزئته، فيكون كلّ قابلٍ قادراً على الانتفاع بذلك الفيض بقدر استعداده وارتباطه بالشمس، كما هو الحال في موجود أزال من طريقه سائر الموانع ووضع نفسه مباشرة في معرض إشراق الشمس ليستفيض من فيضها بشكل أكمل.
والوجود المبارك للمهديّ الموعود عجل الله تعالى فرجه الشريف -الذي هو واسطة الفيض الإلهيّ- كالشمس التي تفيض على الكون ضياءها، فلا يقع من هذه الجهة تفاوت بين العباد، إلّا أنّ كلّ فرد يستفيض من هذا الفيض بقدر استعداده وقوّة ارتباطه بمنبع الفيض.
السادس: إنّ السحاب لو حال دون وصول ضوء الشمس لعمّت الظلمة واشتدّت البرودة، فتختلّ حياة الأرض وسكّانها، فكذلك لولا عناية وإفاضة وليّ الله الإنسان الكامل عجل الله تعالى فرجه الشريف -وإن لم يجلّله سحاب الغيبة- لعمّ ضيق العيش، وتفشّى تآمر الأعداء في أتباع أهل بيت العصمة عليهم السلام. وإليه الإشارة فيما أفاده إمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف ضمن توقيعه الشريف للشيخ المفيد رحمه الله قال: "إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء، واصطلمكم (استأصلكم وأبادكم) الأعداء"(5).
وفي العدد القادم إن شاء الله، تتمّة بقيّة الأسرار.
(*) مقتبس من كتاب: الإمام المهديّ الموجود الموعود عجل الله تعالى فرجه الشريف، آية الله الشيخ عبد الله الجوادي الآملي، الفصل الأول من الباب الثاني- بتصرّف.
1.الاحتجاج، الطبرسيّ، ج2، ص240.
2.بحار الأنوار، المجلسي، ج52، ص93.
3.مفاتيح الجنان، عباس القمّي، من دعاء العديلة.
4.ديوان سعدي، ص291.
5.الاحتجاج، (م.س)، ج2، ص598.