الإمام المغيّب السيّد موسى الصدر (أعاده الله ورفيقيه)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ (سورة الإخلاص).
صدق الله العليّ العظيم
تناولنا في العدد السابق البيان العامّ لسورة الإخلاص، وبتدقيق وتأمل يظهر اتّصالها بعقيدة التوحيد التي تتكرّس في دين الله، حيث تُبيّن الآيات أثر هذا التوحيد في علاقة العبد مع الله، وأثره في ترسيخ مبدأ العدالة وأنّ نجاة العباد هي بالتقوى. كيف؟
•إلّا بالتقوى
قلنا إنّ الله ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾، فإذاً، ليس له عشيرة، وأقرباء وأرحام، وعباده سواسية. وقلنا إنّ الله صمد؛ ولا يحتاج إلى الأشياء، بل الأشياء بحاجة إليه، وهو غني عن كل شيء. ماذا نفهم من هذا المعنى؟ نفهم أنّه لا فضل لأحد على آخر، ولا لمكان على آخر، ولا لزمان على آخر، ولا لشيء على آخر بالنسبة إلى الله.
وإنّما جعل الله في بعض الأشياء رموزاً وأسباباً اعتبرها رمزاً مثل الكعبة، ويوم الجمعة، وشهر رمضان، وأمثال ذلك، مثلما نحن نعطي شيئاً قيمةً ما بشكل اعتباريّ، أو قانونيّ.
فالعملة مثلاً: هي ورق كسائر الأوراق، ولكن نظراً إلى اعتبارات الحاكم وقوّة القانون، تُعطى لها هذه القيمة، وإلّا فهي كسائر الأوراق.
وهنا نصل إلى نقطة أساسيّة في الحقل البشريّ، أن لا فضل لأحد على آخر إلّا بتقواه ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: 13)، وبجهاده، وبعمله وعلمه، كما يصرّح القرآن الكريم في هذه المواضع الأربعة.
فالله سبحانه وتعالى يرفض فكرة الأولياء، كما كان يقول اليهود: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ (الجمعة: 6). النتيجة ماذا؟ لا أولياء لله أو جماعة، أهؤلاء شعب الله المختار مثلاً؟ لا يوجد شيء من هذا النوع. والدليل: لماذا يعذّبهم بذنوبهم؟ لو كانوا أولياء أو "أرحاماً" لله ما كان عذّبهم. فعند الله -إذاً- ليس هناك طبقة أفضل من طبقة، ولا طبقة أقلّ مستوى من أخرى؛ ففكرة المنبوذيّة في الهند مثلاً، أو الطبقات في أوروبا في القرون الوسطى، أو الطبقيّة بصورة عامّة؛ أي أنّه توجد طبقة أقرب إلى الله وفوق القانون، وطبقة تحت القانون، وأبعد؛ هذه الفكرة خاطئة من أساسها: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى*وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾ (النجم: 39-40).
•بما كسبت أيدينا
نستفيد من معنى الأحديّة أيضاً أنّ الله يرفض التمييز العنصريّ. فلا فرق بين الأبيض والأسود، كلّهم سواسية أمام الله. وهكذا، فإنّ العنصريّة والقبليّة والعائليّة أفكار مرفوضة في مفهوم الأحديّة الصمديّة.
فإذاً، البشر كلّهم واقفون في خطّ واحد، لا يتقدّم أحدهم من الله إلا بمقدار ما يشتغل. وهكذا بالنسبة إلى الحالات، والأنظمة، والشعوب، وشعب فقير متأخّر، وشعب غنيّ متقدّم، شعب جاهل، شعب عالم، وشعب مهزوم، وشعب منتصر، هل أراد الله لهؤلاء الانتصار مثلاً؟ هل فضّل الله الشرق دون الغرب؟ وهل أراد لفئة التأخّر دون فئة؟ كلّا وحاشا وتعالى الله عمّا يقولون.
إنّ أيّ حالة وصلنا إليها فبما كسبت أيدينا. أيّ جهل أو تأخّر أو فقر أو جوع أو ذلّة فهو نتيجة أعمال أفراد المجتمع، وأيّ تقدّم أو انتصار أو علم أو كمال لأيّ شعبٍ فبما عملوا بأيديهم: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11)، ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ (الروم: 41).
هذا معنى التوحيد، ومن أين أخذنا هذا المعنى؟ من أنّ الله أحد، الله صمد، لا انتساب له إلى أحد. لا يفضّل هذا الشعب على سائر الشعوب، إلّا إذا أراد أفراده أن يتقدّموا فيتقدّمون، وإذا أرادوا أن يتأخّروا فيتأخّرون.
•التوحيد والعمل
إنّ هذا المعنى من التوحيد يقوّي روح الواقعيّة في الإنسان، وينشّطه في حقل العمل حتّى يعرف أنّ كلّ ما يصل إليه فهو نتيجة أعماله وأفعاله. فالمجتمعات المتأخّرة هم أرادوها خطأً أو عمداً، والمجتمعات المتقدّمة هم كوّنوها عمداً أو خطأً نتيجة لعمل الإنسان.
ليس هناك -مثلاً- في الوجود سعدٌ ولا نحس، كمن يعتبر أنّ المعزى نحس والغنم غنيمة وسعد. عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "من خرج يريد سفراً فرجع من طير (أي من حالة الشؤم) فقد كفر بما أُنزل على محمّد"(1).
لذلك، فالتفاؤل بالخير مطلوب لأنّه سبيل لتطوير وتنشيط الإنسان إلى العمل، لكنّ التطيّر غير موجود في الإسلام، فإنّه: "لا طيرة..."(2)، كما جاء في الروايات.
فإذاً، الأشياء لا ذنب لها، إلا بمقدار ما نقوم به، وليس بين الأشياء سعد ونحس، وليس بين الأشياء أشياء تختلف عن غيرها إلا في خواصها الطبيعيّة العلميّة.
وهكذا، نرى أنّ معنى الأحديّة والصمديّة تتعدّى الفكرة التجريديّة وتدخل في صميم حياتنا، فنحن نعيش في عالم الأسباب، في العالم العقلانيّ، كلّ الوجود خُلِقَ لنا: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا﴾ (البقرة: 29)، ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ﴾ (النحل: 12)، لكن لكلّ شيء مفتاح، ومفتاحه العلم والعمل، ويجب أن ندرس حتّى نصل إليه. والنبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم يقول لابنته السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام: "اعملي لنفسك، فإنّي لا أغني عنك من الله شيئاً"(3).
•الثقة بالله
علينا أن نخلص لسورة الإخلاص، ونقرأها بألسنتنا وبقلوبنا وبعقولنا، ونعيشها عيشاً حقيقيّاً في ليلنا وفي نهارنا، حتّى يقوى عندنا شعور الثقة بالنفس، والثقة بالنفس في هذا المفهوم هي ثقة بالله.
فإذاً، نحن لا نعتمد إلّا على أعمالنا، ونعتقد أنّ الله سبحانه وتعالى أقرب إلينا من حبل الوريد.
هذا مفهوم مختصر موجز عن هذه السورة المباركة، يرسم لنا صورة عن الله سبحانه وتعالى، الصورة التي يجب أن نعرفها عقيدة وفكراً وقلباً، ونعيش هذه الفكرة في حياتنا اليوميّة.
(*) مسيرة الإمام السيّد موسى الصدر، إعداد وتوثيق: يعقوب حسن ضاهر، ج01، ص152 - 552، بتصرف.
1.كنز العمّال، المتّقي الهنديّ، ج10، ص114.
2.مستدرك الوسائل، الميرزا النوريّ، ج8، ص278.
3.شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج18، ص252.