الشيخ تامر حمزة
17 شهر رمضان غزوة بدر الكبرى عام 2هـ
ثلاثة مائة وثلاثة عشر رجلاً، في السابع عشر من شهر رمضان، من السنة الثانية للهجرة، وقفوا خائفين أذلّة [أي ضعفاء] يخشون أن يتخطّفهم الناس من حولهم، فآواهم الله ونصَرهم، مسخّراً لهم عالَمَي الغيب والشهادة، فأغاثهم بوابل السماء ليثبّت أقدامهم، وأهبط عليهم الملائكة لتطمئنّ قلوبهم، فحملوا سيوفهم على عواتقهم، ودماءهم على أكفّهم، وواجهوا بقلوبٍ واثقة بوعد الله، فقلّل أعداءهم في أعينهم، وكثّرهم في عيون أعدائهم، وما إن أدارت الحرب رحاها، وصار القنا يقارع القنا، وملأت الأسماع صليل السيوف وصهيل الخيول، حتّى انجلى الغبار، وبانت الحقيقة للأبصار؛ وقد زهق الباطل وانتصر الحقّ، في واقعة أصبحت تُعرف بواقعة بدر، وأضحى ذلك اليوم يوم الفرقان، وإليه يشير قوله تعالى: ﴿إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ (الأنفال: 41).
•صناعة التحوّلات
عاش المسلمون الأوائل، الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واتّبعوه بإحسان خمس عشرة سنة عجافاً كسنيّ يوسف، حصاراً وملاحقةً وتهجيراً بسبب قلّة العدد واليسار، وفقدان العدّة والأنصار؛ فمن العمل السرّيّ في شعب أبي طالب إلى الحصار، ومن الملاحقة المستمرّة إلى التهديد بالقتل أو السجن، ومن الهجرة وعدم تقبّل الآخرين إلى حياكة المؤامرات باجتراح الخطط لإجهاض الدعوة وإخماد جذوة الرسالة... فاتّخذت قريش قرار المواجهة والتهديد الوجوديّ بتصفية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جسديّاً، بالدخول عليه ليلاً حتّى فوجئوا بعليّ بن أبي طالب عليه السلام، فذُهلوا ولم يفتؤوا يذكرون محمّداً حتّى كانوا حرضاً عليه، فلاحقوه واتّبعوه إلى المدينة لعلّه يكون من الهالكين، فجهّزوا جيشهم، وأعدّوا عدّتهم، وجمعوا سَحَرتهم، وألقَوا حبالهم في بدر، فكانت المفاجأة الثانية عصا موسى عليه السلام وسيف محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لتلقف عصيّهم وحِبالهم، وتجندل أبطالهم وتقتل شجعانهم على يد عليّ بن أبي طالب عليه السلام؛ وهذه هي بدر التي أسّست للدولة القويّة، ولصنع الرجال أولي البأس.
ولم تمضِ سنوات حتّى جاء يوم الفتح، ودخل العام الذي يُغاث فيه الناس، وبذلك سُفّهت الأحلام الشيطانيّة، وفُنّدت الأفكار، وبُدّد الجمع، وقُلبت الخارطة السياسيّة رأساً على عقب، فبالأمس من كان فاقداً للأمان، أصبح اليوم هو الذي يعطي الأمان، وأمّا الذين اعتبروا أنفسهم سادة أهل الحرم، فقد صاروا فيما بعد هم الطلقاء. وهذه الصورة هي جزء من مشهد التحوّلات، والتي كان مصنعها بدر.
•تأمّلات في مجريات الأحداث
لا بأس بتسليط الضوء على بعض الأحداث التي جرت قبَيل المعركة وأثناءها، والتأمّل في مخرجاتها لاستخلاص الدروس والعِبَر.
أوّلاً: أراد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يبعث برسالة إلى قريش لتحقيق هدفين: التوازن في القوى من جهة، وتعويض ما خسروه من أموال في مكّة من جهة أخرى، وهذان يتحقّقان من خلال الضغط الاقتصاديَ عليهم؛ فكان القرار باختيار مجموعة من المجاهدين للسيطرة على قافلة عائدة من الشام تحت إشراف أبي سفيان. ولمّا علم أبو سفيان بذلك، بعث إلى أهل مكّة يخبرهم بالأمر، وبالموازاة بدّل وجهة سيره بعيداً عن أنظار أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. وبعد أن أفلت بالقافلة، أرسل إلى قريش يخبرها: "إنّكم إنّما خرجتم لتمنعوا عِيْرَكم (العير: الإبل بأحمالها) ورجالكم وأموالكم، فقد نجّاها الله فارجعوا"، فقال عمر بن هشام: "والله لا نرجع حتّى نرد بدراً فنقيم عليها شراباً، فننحر الجزر (الإبل)، ونُطعم الطعام، ونُسقى الخمر، وتعزف علينا القِيَان (الجواري)، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبداً بعدها فامضوا"(1).
ثانياً: لمّا أقبلت قريش وقد رآها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "اللّهمّ! هذه قريش أقبلت بخيلائها وفخرها تحادّك وتكذّب رسولك، اللهمّ فنصرك الذي وعدتني، اللّهم أحنهم (أهلكهم) الغداة"(2).
ثالثاً: لم يكن القرشيّون على رأي واحد، بل دار بينهم خلاف كبير، وكان أكثرهم لا يرغب في الحرب، ويودّ الرجوع، إلّا أنّ أبا جهل تمكّن من تسعير الحرب وإزكاء الفتنة إلى أن وقعت المعركة.
رابعاً: الشعار الذي رفعه المسلمون في هذه الواقعة "أَحد أَحد"(3)؛ أي الدفاع عن كلمة التوحيد، مع الإصرار على توحيد كلمتهم وتصميمهم على المواجهة من دون تردّد.
خامساً: انجلى الغبار عن مقتل بعض صناديد قريش وعلى رأسهم أبو جهل، الذي اقتدح نارَها فاحترق بلظاها، حتّى بلغ مجموع قتلاهم سبعين رجلاً، ومن الأسارى ما يماثل عدد القتلى.
•"بدر" في القرآن الكريم
يرسم لنا القرآن الكريم، كما جاء في سورة الأنفال، صورةً كاملةً حول المعركة، ويكشف لنا عن الحالة التي كان عليها المسلمون، وما يجب أن يكونوا عليه مستقبلاً، وهاكم بعض الشذرات، التي يمكن تقسيمها إلى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: قبيل المعركة
أوّلاً: إرشاد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم للاعتماد على الله أوّلاً وعلى المؤمنين ثانياً، ويتجلّى في قوله تعالى: ﴿وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾ (الأنفال: 62).
ثانياً: أمر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بتحريض المؤمنين على القتال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ﴾ (الأنفال: 65).
ثالثاً: الاستعداد للحرب، وهو قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ (الأنفال: 60).
رابعاً: تذكيرهم ببعض مكر قريش، فيقول الله تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (الأنفال: 30).
خامساً: إعطاء الإذن من الله بالمعركة، حيث يقول تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ (الحج: 39).
المرحلة الثانية: أثناء المعركة
أوّلاً: التأكيد على مبدأ الثبات والصمود في المعركة وعدم الفرار. وهنا استعمل القرآن الكريم لغةً أدبيّةً لا تليق إلّا بمن يفرّ من الزحف والمواجهة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ*وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ (الأنفال: 15-16).
ثانياً: تربية المجاهدين على الارتباط بعالم الغيب، والتوكّل على الله، والثقة بوعده. هذه المعاني تترجمها آيات مباركة عدّة، كقوله تعالى: ﴿إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ﴾ (الأنفال: 19).
ثالثاً: من أهمّ ما حصل في معركة بدر هو التدخّل الإلهيّ المباشر فيها، من خلال تسخير الملائكة للمشاركة الميدانيّة لتثبيت المؤمنين في المعركة، وإلقاء الرعب في قلوب الأعداء، ممّا يجعل المجاهدين أكثر توكّلاً على الله وثقةً بالنفس، وهما من أهمّ عوامل إحراز إحدى الحسنين، وهو صريح قوله تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ (الأنفال: 9).
المرحلة الثالثة: بعد المعركة
أوّلاً: يذكّرهم الله تعالى بعد المعركة بالحالة التي كانوا عليها قبلها، فيقول: ﴿وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (الأنفال: 26).
ثانياً: التأكيد أنّ الطاعة لله ولرسوله أهمّ قاعدة في قوّة المجتمع، من خلال الانضواء تحت راية ولاية الله ورسوله وأولي الأمر، وقد خاطب الله تعالى المسلمين بقوله: ﴿وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (الأنفال: 1).
ثالثاً: تأكيد مسألة الإيمان بالله عقيدة ومنهاجاً، حيث يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ*الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ*أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ (الأنفال: 2-4).
رابعاً: تثبيت مبدأ وحدة الأمّة؛ لأنّها مصدر القوّة، واجتناب الخلافات الداخليّة التي توهن قوّتها، فيقول تعالى: ﴿فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ﴾ (الأنفال: 1).
خامساً: تجنّب الطمع في الأمور الماديّة، ولا سيّما الأنفال (الغنائم)؛ لأنّه يؤدّي إلى تضييع الأهداف الكبرى والتلهّي بالأمور الماديّة الخسيسة، حيث يقول تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ﴾ (الأنفال: 1).
•نتائج المعركة
من أهمّ نتائج معركة بدر أنّها أدّت إلى كسر هيبة قريش وإظهار قوّة المسلمين، وهذه بداية لتحوّلات قريبة ومتوسّطة وبعيدة تمتدّ بعمر الزمان إلى ظهور حفيده قائم آل بيت محمّد عجل الله تعالى فرجه الشريف.
وممّا تجدر الإشارة إليه، هو وقوف النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على الشهداء والقتلى، فقد روي أنّه صلى الله عليه وآله وسلم دفن شهداء المسلمين في أرض المعركة(4)، ثمّ وقف على قتلى قريش مخاطباً إيّاهم وهم صرعى، فقال: "يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا فلان ويا فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّاً؟ فإنّي وجدتُ ما وعدني ربّي حقّاً". قال عمر: "يا رسول الله، أتكلّمُ قوماً قد جيفوا"، فقال: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم"(5).
•دروسٌ وعبر
1- الكثرة والقلّة ليستا معيارين للنصر، ولصوابيّة النهج.
2- طفقت معركة بدر ميزاناً للتمايز بين أهل الحقّ وأهل الباطل.
3- صنّفت المجتمع إلى أربع طوائف: المسلمين، والقرشيّين، وأهل الكتاب، والمنافقين.
4- خلق قوّة بنيويّة في هيكليّة الدولة الفتيّة واستقلالها.
5- تقوية الروح الجهاديّة، وتعزيز الثقة بالمرسِل والرسول والرسالة.
1.السيرة النبويّة، ابن هشام، ج2، ص451.
2.تاريخ الإسلام، الذهبي، ج2، ص55.
3.البداية والنهاية، ابن كثير، ج3، ص335.
4.موسوعة نضرة النعيم، ج1، ص296.
5.مسند أحمد بن حنبل، ج، ص57.