ندى بنجك
من قال إنّ حكايات الأبطال تزهر فقط عند الجبهات؟ ثمّة
حداءات، منها مهبّ الحكايات. ثمّة أصوات مبحوحة، تبتلّ بالدم والرصاص. ثمّة مناديل
سوداء، ينطوي فيها كلّ العمر.
إنّها هي، لا أحد مثلها يحفظ عمره، ويتحسّس دبيب روحه، وينصهر في الوله والخوف
والانتظار والاشتياق لكلّ شيء ينتمي إلى يوميّات "الحاج علي".
* قلب الأمّ دليلها
وحده وجهُها الساحة الوحيدة لمشاهدة محطّاته، وقلبها دليلها إلى ضرباته في الميدان.
تشهد تلويح كفّيها، واحتراق الدمع في عينيها، ولفتات روحها إلى صوره الموزّعة
قبالتها، فثمّة لحظات عفويّة جدّاً، ترسم العمر، وتبوح بكلّ شيء.
فور عودته من العمل بعد غياب، ينزل "الحاج علاء" عند والدته. تلمحه، فتتفلّت روحها
منها، وتحوم حوله مثل فراشة لامست أطراف النور. يتكئ في المكان نفسه على تلك الكنبة
الزيتيّة، وتدخل هي لتحضر له كوب العصير، وحينما تعود، تجده قد غفا في أقلّ من
دقيقة.
"أكثر من خمسة وعشرين عاماً، هذا المشهد يتكرّر أمام عينيّ"، تقول الوالدة.
ويقول الزمان، إنّ الشهيد القائد علي فيّاض "الحاج علاء" لا يحتاج إلى حكايات تخبر
عنه، تاريخه في غفوته، وتلك اللّمحة لم تتبدّل.
* من تراب المحاور والمعارك
في المكان نفسه تجلس ولا تفارق، تمدّ كفها وتملّس على الكنبة التي يبيت فيها شميمه
الآتي من تراب المحاور ودخان المعارك، تهمس وفي نغمة الصوت ما لا يؤتى بالكلام:
"يا ضَوْ عيني يا إمّي.. يا مُهجة روحي يا حاج علي".
إنّه هو، القائد الذي طاف في البلاد يُسرج الأرض بالجهاد، وينضح فكراً وقّاداً
وانتصارات.
إنّه وليفُ عمرها الذي لم يتمّ عامه السادس والأربعين. بالأمس كان هنا طفلاً عمره
ستة أعوام، ينتظر صيحة الدجاجة في الدار لكي يسرع ويأتي بالبيض. هذه توصية وإلزام
من أمّه، لأنّ هذه الوجبة لا تروق له، لكنّه لا يريد أن يُسبّب لها الحزن.
تُخبر عن والده المتوفّى قبل ستة أعوام، كم كان يفخر به، حينما يستفيق في الليل،
فيجده يؤدّي الصلاة، ويستغرب لأنّ الوقت متأخّر جدّاً، وما أدراه أنّ ولده عليّاً
منذور قلبه لدرب النور، وأنّه قد استدلّ على صلاة الليل، وهو لم يتجاوز بعدُ
الثانية عشرة من عمره.
* جميلٌ.. بستان شبابه
تتنهّد عميقاً: "يا حبيب قلبي يا إمّي"، ثم تمضي إلى بستان شبابه، تقطف من
هنا قصة ومن هناك أخرى، كمن يجمع باقة زهور ولا داعي للانتقاء، فالورد ورد، والعطر
عطر، وكلّ لون، أيّاً كان، فإنّه جميل.
كان عمره واحداً وعشرين عاماً عندما ذهب إلى البوسنة، ناقلاً خبرة حزب الله، من
خلال دورات تدريبيّة، يؤهّل فيها المجموعات للميادين القتاليّة.
ويعود بعد فترة، محادثاً والدته بفرحة لا مثيل لنغمتها على قلبها، فيخبرها بأنّه
يفكّر في الزواج من ابنة خالته.
انتقل إلى بيت الزوجيّة، لكنه ظلّ يقاسمها العمر. فهي بيت الحنان على مدى الأيام...
من لمسة يديها يبدأ مشواره إلى الجبهة، وعندها ينتهي، فلا حبّة من غبار إلّا
ومسّدتها، ولا شوكة في أصابعه إلّا ونقّبتها.
* والعزُّ لم يفارقه
هل تراها علمت كم مرّة غفا وتغطّى بالثلج في الإقليم، وكم مرّة مشى أيّاماً على
قدميه، يتنقّل من تلّة إلى تلّة، ومن واد إلى واد، وليس في جعبته سوى حبّات من
التمر، وقليل ماء؟ وهل حدّثتها بساتين أنصاريّة عن تلك الصبيحة التاريخيّة؟
لا بأس إن علمت بهذا أو ذاك، فإن العزّ لم يفارقه.
ربيب الحاج عماد مغنية هو، فالأرض التي يطأها حتماً يزهر فيها النصر.
لم يتولّ مسؤوليّة، ولم يمسك ملفاً إلّا وأزهر بين يديه.
"مضى العمر وهو بين الجبال والوديان". هكذا تهمس، ووجهها معلّق قبالة عينيه
في تلك الصورة التي يبدو فيها مقاتلاً آتياً لتوّه من المعركة.
* "موقع الموت"
تمضي بك إلى الاقتحامات والكمائن والعبوات، إلى اللحظة الجبّارة التي سجّلها في
عمليّة الدبشة، وقت اخترق الموقع الذي كان يُطلق عليه الأعداء الصهاينة "موقع
الموت"، بتخطيطٍ حذق، وتنفيذٍ مُتقن، ثمّ غرس علم حزب الله في القمّة.
كالسيل دفقت عليها حكايات جهاده بعد استشهاده، تارةً عن فنونه في القوّة الخاصّة،
وأخرى عن حفر المنشآت والخنادق، وعن عظمة طروحاته وابتكاراته. فهذا قائد كان يقبض
في يده دائماً على جبهة مفتوحة.
ذات مرة، وخلال مرور دوريّة من المجاهدين في أحد المحاور، طلع طيران العدو
الصهيوني، وقصف في المكان، فاستشهد أحد المجاهدين. كان الحاج علاء حينها في منطقة
الأوسط، وصار يتواصل مع مجموعة المجاهدين، يوجّه الأخ المسؤول إلى كيفيّة العبور
بسلاسة، ويدير برشاقة الأمور المعقّدة. ظلّ يواكب معه حتّى وصل إلى ممرّ آمن. هذه
الحادثة تتكرّر بالعشرات في يوميّات الحاج علاء.
"يا حبيب قلبي شو بطل".. هكذا تتمتم، وتمضي إلى حرب تموز 2006، عندما انتهت
الحرب، وعاد الناس إلى قراهم إلّا هو. هل استشهد ولم يخبرها أحد؟
لم يستشهد، لكنّ الأبطال دوماً، تبدأ لهم حكايات حينما تنتهي المعركة.
* المشوار طويل
قبل أسابيع من توجّهه إلى سوريا أوّل مرة، رأته يدلّل كلّ ما غرست يداه من شجر،
ويشذبها، فاستغربت، لأنّ الوقت مبكر لهذه المهمّة، فتبسّم وهمس لها: "رايح مشوار
طويل".
إلى سوريا، انطلق من بداية البداية. من قبّة السيدة زينب عليها السلام والمقام
المجلّل، إلى ذاك الصبح في خناصر، وهو يكتب الحكاية تلو الحكاية.
أكثر من خمس إصابات في فترات متقاربة، خلال مواكبته الأرض واقتحام نقاط الخطر في
سوريا.
ومع كلّ حكاية تتذكرها، تهمس جوارحها: "يا نور عيني يا إمّي شو جبّار".
* العمر جهاد ونور ودم
لن تنضب الحكايات يا أمّ الشهيد، فالعمر جهاد، والجهاد برتبة عالية في القيادة.
قالت سأريك موضع يديه، والشجر الذي غرسه، وذاك المنزل الذي يحضن الآثار والقمصان
المضمّخة بالنور وبالدم.
ونحن في طريقنا إلى المنزل، تشير الأم الترابيّة إلى أنغام في حياة الحاج علاء، "كم
كان مهفهفاً!"، يتأنّق في هندامه، ويحبّ الترتيب في كلّ شيء. كيف يحرص على لمّة
العائلة، وعلى تفقّده لكلّ من تربطه به صلة رحم!
فرح الأرض يفرّ من حكاياته. المنزل الذي لفّه بالشجر يُخبر عنه، والزوجة والأبناء
الخمسة الذين يدركون معنى أن يكون الأب مجاهداً فيحفظون غيابه وينتظرون حضوره،
ومنهم من يرافقه في الأصل إلى الجبهة ويعود معه.
مرّ العمر في الغياب، وهي بحجم المسؤوليّة. تلك هي الزوجة الفاضلة، التي تختصر رحلة
الحياة بينهما بعبارة "إنّ القصّة طويلة طويلة".
كان في مرّات كثيرة، يأتي من الجبهة في سوريا، ولا يلبث أن يمرّ على وصوله ساعة،
فقط ساعة، وأحياناً يوم واحد، فيلمّ متاعه من جديد ويعود، لأنّ الوضع يستدعي ذلك.
* من الجبهة إلى تشييع الشهيد
في الفترة الأخيرة، شعرت به مملوءاً بالسكون. ثمّة حركات قد بدأت تقلقها.. هو مثقل
بالمتابعات والمهامّ، لكنّه يأتي من سوريا ليشارك في تشييع هذا الشهيد وذاك
الشهيد.. ويجمع الأولاد، يوصيهم بأن يصغوا لتوجيهات أمّهم.
ويطلّ ابنه أحمد، لم يشأ أن يورد أيّ كلام، لكنّه اقترب من أغراض والده الشهيد،
والتقط الجاكيت البنّيّة، حضنها، مختصراً كلّ الذي لم يُحكَ.
في كلّ مواجهة وتوتّر للوضع، كان الحاج علاء يتّصل بزوجته لكي يطمئنُها أنّه بخير،
ويطلب منها أن تطمئن والدته. في المرة الأخيرة اشتدّ الوضع ولم يتّصل وانتظرته
ساعات طويلة، لكنّه ما أطلّ إلّا بنعش ووصيّة.
* كيف لا تبكيه الدروب؟
استشهد الحاج علي فيّاض "الحاج علاء"، على طريق "خناصر- حلب" في 26 شباط 2016 صبيحة
يوم جمعة.
وعاد.. قائداً مكسوّاً بالضوء والدم كما أراد.
طيّب ومتواضع ويتغلغل في الضلوع حبّاً هو، فكيف لا يتفجّر الوجد في القلوب. و"حيثما
يكون، يكون النصر"، فكيف لا تبكيه الدروب؟!
* وهي.. كيف هي..؟!
لا تزال تجلس مكان غفوته، تملّس على الكنبة التي فيها فوحه وحسّه، ويسكن عمرها في
صورة صغيرة تعلّقها ناحية قلبها، وتضمّد الحنين بالحنين.
اللوز والزيتون من حوله، والعلاء الذي أنتمي إليه، يعرّش بروحه.
ها نحن عند الضريح أخيراً.. جلست إلى جنبه، بعد أن رشّته بالماء، وأيقظته
بالشموع والبخور، وسلّمَتْ عليه على طريقتها: "كيف حالك يا ضو عيني".