آية الله جوادي الأملي
كان بحثنا يدور حول ذلك الكمال الإنساني الذي لا يفوقه أي كمال، وذلك عندما يصل إلى مقام عند الله. فهناك لا طريق للمعصية ولا زوال ولا خوف ولا حزن فلا يوجد أي شيء يبعث النقص في الإنسان لأن ﴿ما عندكم ينفذ وما عند الله باق﴾.
ولأجل الوصول إلى ذلك المقام الشامخ، فإن أفضل طريق هو أن يرى الإنسان نفسه وفي جميع شؤون حياته في مشهد الله ومحضره. فعندما يرى نفسه في حضور خالقه، لا يرتكب معصية، ويسعى أن لا يفكر بالمعصية أيضاً. ولأجل الوصول إلى هذا المقام، أي أن يرى نفسه في حضور الله والله حاضر وناظر إلى أعماله الباطنية والعلنية، ينبغي أن يتعرف على كل قاطع لطريقه أو مانع لسفره ويطرده، ويتعرف على كل ما يساعده ويحصل عليه. وقد أشرنا في الأبحاث السابقة إلى أن زخارف الدنيا وزبارجها الخداعة ليست زينة للإنسان، بل هي زينة الأرض والطبيعة. كذلك فإن نجوم السماء وكواكبها ليست زينة للإنسان بل للسماء. لا يوجد أي أمر هادي يمكن أن يكون زينة لروح الإنسان. إنما العقيدة والإيمان هما حياة روحه وزينتها.
أما تلك الزخارف المادية فهي القاطعة لطريقه، والتعلق بها يؤدي إلى إعاقة سفره التكاملي. ما يلزم تذكره هنا، هو أن زخارف الدنيا وزينتها ليست مختصة بزمان معين، ولا ترتبط بالشباب فقط. يقطع الإنسان خمس مراحل في الحياة، ويقف قاطع الطريق عند كل مرحلة يُعمل حيله وخدعه. ففي مرحلة الحدث يوجد نوع، ويوجد في مرحلة الكهولة نوع آخر، وهكذا. وفي أوائل العمر يكون طريق التعرف على قاطع الطريق أسهل، وكذلك تكون محاربته. ولهذا فإن الذي يؤدي ما عليه في المراحل الأولى يبقى محفوظاً في بقية المراحل. في سورة الحديد يقسم الله الدنيا إلى خمس مراحل، وفي كل مرحلة يعرفنا على نوع الموانع والخدع ويحذرنا منها. ولا يمكننا أن نقول أن من يتعب في مرحلة الشباب يرتاح في مرحلة الكهولة. فعدو الإنسانية ذلك قد أعد للكهول نوعاً من الخطط، وكذلك لا ينبغي أن نترك الإصلاح إلى مرحلة الشيخوخة لأن هذا خلاف العقل. وليس معلوماً إذا كان الإنسان يصل إلى هذه المرحلة.
يقول الله تعالى في سورة الحديد: ﴿اعلموا إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد﴾ (الآية: 20). فالحياة خمس مراحل: الطفولة والمراهقة والشباب والكهولة والشيخوخة. ويوجد لكل مقطع نوع من اللعب.
الأول: اللعب في مرحلة الطفولة.
الثاني: اللهو في مرحلة المراهقة. (ما قبل الشباب).
الثالث: الزنية في مرحلة الشباب، فالشاب لا يفكر إلا بالتجمل واللباس.
الرابع: التفاخر، فبعد أن يعبر الإنسان سن الأربعين يبدأ بالتفكير بالمقام والمنصب والجاه والرئاسة.
الخامس: التكاثر، فالإنسان عندما يصل إلى مرحلة الهرم والشيخوخة يقل أكله ولا يقدر على التفاخر أو الاهتمام باللباس أو اللعب واللهو، فينصرف إلى التكاثر والجمع... أملك من المال كذا ومن الأولاد كذا...
فلا يوجد مرحلة ليس فيها قاطع طريق. ومن الذي يقدر على النجاة منه ويقول: إذا لم أستطع التغلب عليه في مرحلة الشباب فسأقدر عليه في مرحلة الشيخوخة؟ إن هذا خطأ واشتباه. فمن يدري أنه سيصل إلى المرحلة الأخيرة. فالشباب هو وقت إصلاح النفس. ذلك الذي يصل إلى مرحلة الشيخوخة لا يقدر على النوم جيداً ليحصل على الراحة المادية أولاً ويتمكن من القيام وقت السحر ليحصل على الاستفادات المعنوية.
إن أفضل مراحل الحياة لأجل الوصول إلى الكمال مرحلة الشباب وجزء من مرحلة ما بعد الشباب.
فهذه الدنيا قد لخصها خالقها في خمس مراحل. فهي: لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر، ولا شيء آخر. فإذا كانت قافلة الإنسانية لا بد أن تقطع هذا المسير في مراحله الخمس. فلماذا لا تصفي عملها منذ البداية.
الآية المباركة تبين كل مسير الدنيا بصورة مثل والذي وردت الإشارة إليه سابقاً في سورة يونس:
﴿كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاما﴾
هذه هي الدنيا. أما الآخرة التي هي منتهى سير قافلة الإنسانية، فما هي؟ وكم مرحلة فيها؟ هناك حيث يجب أن نذهب كم قسم يوجد؟ يقول الله تعالى:﴿وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان﴾ (الحديد، الآية: 20).
فجهنم للعصاة الذين أضاعوا عمرهم الثمين دون فائدة. والجنة للذين لم يقعوا فيما وقع فيه المجرمون، وقد ساروا في صراط الله المستقيم. ويوجد مقام أعلى من هذا المقام، وهو مقام لقاء الله الذي يسلك إليه الأحرار. فالعباد إما يعبدون خوفاً من النار أو شوقاً إلى الجنة أو لأجل الوصول إلى مقام عند الله. وقد جاء في كلمات المعصومين عليهم السلام وخصوصاً عن مولى الموحدين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه أفضل صلوات المصلين حيث قال: "ما عبدتك خوفاً من نارك ولا شوقاً إلى جنتك بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك". وقد جاء في كلمات سيد الشهداء الحسين بن علي عليه السلام أن: "العباد ثلاثة: ثوم عبدوا الله خوفاً فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله طمعاً فتلك عبادة التجار، وقوم عبدوا الله رغبة فتلك عبادة الأحرار". فأهل بيت العصمة والطهارة والأولياء الإلهيون لا يعبدون الله خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته، بل يعبدونه لأنه الكمال المحض والعلم المحض والقدرة المحضة والحياة المحضة. وهؤلاء هم الأحرار. وما ورد عن المعصومين عليهم السلام يعود في جذوره القرآنية إلى هذه الآية المذكورة:
﴿وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان﴾.
إن الإنسان يصل إلى مقام تصبح خزائن الجنة ومفاتحها بيده، ودخول أهل الجنة إليها لا يتم إلا بإذنه. فبإذن الله يصبح قسيم الجنة والنار. وفي نهاية الآية يقول تعالى:
﴿وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور﴾.
فهذه الدنيا وإن كانت خمس مراحل ولكنها كلها غرور. لا شيء منها يؤمن فخراً للإنسان إلا ربوبية الحق، ولا شيء يبعث عزة للإنسان إلا عبودية الحق. وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلين أنه قال: "إلهي كفى بي عزاً أن أكون لك عبداً وكفى بي فخراً أن تكون لي رباً، إلهي أنت كما أحب فاجعلني كما تحب". فأنت يا إلهي صاحب كل كمال. فأنت العليم المحض والقدير المحض. والحياة الصرفة. أنت الكمال اللامتناهي، الرؤوف الرحيم الستار. إليه ربني بحيث أكون كما تحب وتريد. عندما وصل أمير المؤمنين علي سلام الله وصلواته عليه إلى الخلافة قيل له: "يا علي! لقد أعطيت الخلافة قيمة، وبك افتخرت الخلافة". أجل، عندما يكون الإنسان مثل علي فإنه يعطي المقام والمنصب قيمة وفخراً. أما الذي يريد أن يحصل على قيمة من خلافة المنصب فهو خالي الباطن وفارغ النفس.
إن الماء إذا لم يصل عبر الجذور إلى باطن الشجرة، فإنها لن تنمو تثمر. وإذا جعلت غصون الشجرة داخل حوض ماء، فإنها لن تنمو وسوف تموت بسرعة أيضاً، لأن الماء يجب أن يصل إلى الشجرة عبر الجذور. على الإنسان أن يؤمن كماله من روحه، لا من الكرسي والمنصب والمقام. فذاك الذي لم يزرع في وجوده فضيلة وينتظر القيم من الخارج فسرعان ما يذبل، لأنه سوف يتعرض عند كل مقطع من عمره لخذاع قاطع طريق. فالإنسان منذ طفولته وحتى آخر عمره لا يسلم من الخدع. والكابر يسعون لتجنيب أطفالهم من تلك الأخطار.
عندما كان أحد تلامذة الإمام السادس سلام الله عليه في محضره سأله: من هو الإمام السابع: فقال عليه السلام: "من لا يلهو ولا يلعب". وفي تلك اللحظات دخل ابنه الإمام موسى بن جعفر عليه السلام. وكان صبياً صغيراً يحمل في يده حملاً ويقول لها: "اسجدي لربك". فكل الموجودات في هذا العالم تسجد لله وتسبحه ولكننا لا نفقه تسبيحهم. فأخذه الإمام الصادق في حضنه وقال: "بأبي من لا يلهو ولا يلعب".
إن هذا الدهر المليء باللهو واللعب لا يطرق باب الأولياء. لهذا، فإن الإنسان الذي يظن أنه سوف يجبر ويكفر عن ذنوبه في سن الشيخوخة، فبئس به! لأنه أولاً قد رمى بالإصلاح إلى المستقبل المجهول، وثانياً فإن قاطع الطريق في المرحلة الخامسة سوف يمنعه من الترميم والإصلاح. هل أن الشياطين تترك العجائز الهرمين؟ أليس أن هذا العدو اللدود قد أعد شراكاً خاصة لهم؟ وماذا يفعل بالتكاثر في الأموال والأولاد؟ إذا لم يصلح الإنسان حاله في سن الشباب، فإن جبران هذا الأمر في الشيخوخة صعب جداً. وذلك لأنه تلقى صدمات الشباب عليه أن يواجه أخطار الهرم.
لهذا فإن لذات الدنيا المادية لا تستحق الحسرة، وليس الجاه والمنصب إلا أمر خيالي، والله لا يحب المختال.