المجاهد الجريح أمجد شعيب
داليا فنيش
"ها هي المقاومة عرفت دم الحسين الأطهرِ.. ترفع راية النصر على أعلى بيرقٍ، قبضات رجالها حيدريّة، يضغطون على الزناد فيبدّدون كلّ عميلٍ ملحدِ... طهّر الله قلوبهم وآمنوا باليوم الآخر، لا يخشون الموت ويرحلون إلى الله بثوب شهادةٍ مطهّرة". هي كلمات ثوريّة كتبها أمجد، أحد أبناء المقاومة الشرفاء، بينما كان يرابط يوميّاً في أعلى جبال لبنان، مرسلاً رسالةً للعدوّ الإسرائيليّ مع كلّ حرفٍ من حروفها، أنّ المجاهدين سيبقون العين الساهرة على الوطن. ويُحدّثنا أمجد...
•حكاية الجهاد
ولدتُ في بيتٍ مقاوم، وترعرعت على حبّ المقاومة والجهاد، وأنا الذي كنت أضحي وأمسي على كلمات والدي: "في أيّ يوم سترفعون رأسي لأفتخر بكم شهداء؟ يجب أن تكونوا مثل هؤلاء الأبطال".
وفي يومٍ من الأيّام، وبينما كنت جالساً في شرفة المنزل، تقدّم والدي نحوي وقال: "سأطلب منك الانضمام إلى صفوف المقاومة حتّى تُفرح قلبي وأموت وأنا مرتاح".
وهكذا بدأت حكاية الجهاد! وانطلقتُ في هذا الدرب الطويل، إلى أن شاركتُ في تحرير العام 2000م حيث بقيتُ محاصراً لأربعة أيّام دون طعام أو شراب، قبل أن يتمكّن الإخوة المجاهدون من تحريري.
•سرّ النظرات
وفّقني الله بشريكة لحياتي، زوجة مضحّية صابرة. وبعد 6 أشهر من الزواج، طُلبتُ إلى مهمّة جهاديّة، فودّعتُ الأهل والزوجة، وطلبتُ إلى زوجتي أن تعتني بنفسها لأنّها كانت حاملاً في الأشهر الأولى. وقبل أن أنطلق، راحت تنظر في عينيّ نظرةً استغربتها، وقالت لي إنّها لا تكتفي من النظر فيهما. لم أعرف وقتها السرّ في ما فعلت، ولم أدرك أنّها ستكون مصدر النور المنبعث من عينيّ في المستقبل القريب.
•"الكشك يسيل"
وصلتُ إلى المكان المقصود، وبعد أن أدّيتُ صلاة العشاءين، دعوتُ الله أن يرزقني الشهادة. وبعد الرصد، انطلقتُ في مهمّتي.
كانت تلك الطرق التي أمرُّ بها تنعش الروح من تراب الجنوب ورائحته. وبعد مسير لمدّة ساعة ونصف، وإذ بعبوة تنفجر، تدحرجتُ وارتطمتُ بشجرة. حاولتُ القيام ولكنّني لم أستطع. سمعتُ صوتاً خفيفاً لرفيقي جواد، فقلتُ له: "أين أنت يا جواد؟ وماذا حصل؟". قال: "تقطّعت رجلايَ". صرخنا من أعماق قلبَينا لعلّ أحداً يسمعنا، ثمّ وضعتُ يدي على وجهي وإذا بالدم يسيل من عينيّ، وأحسستُ أنّ وجهي يحترق.
بعد ساعات، زحف بعض الشباب إلينا، ولم يكن معهم سوى حمّالة واحدة، فطلبتُ منهم حمل جواد عليها؛ لأنّه كان فاقداً للوعي، بينما حملني آخرون على الأكتاف. قلت لهم: "هل فقدتُ بصري؟ أنا لا أرى شيئاً". قال أحدهم: "لا، عيناك بخير". شعرتُ أنّ شيئًا يسيل من عينيّ، فقلت: "الكشك يسيل..."، وضحكنا. فقد كان معروفاً أنّني من عشّاق الكشك، وكنتُ قبل الإصابة قد قدّمتُ لهم وجبة منه أعددتها بيدَيّ.
•"سأكون عينَيك"
أُجريت لي العديد من العمليّات في يديّ وقدميّ. وبعد خمسة أيّام من الإصابة، جاء وفد من قِبل سماحة الأمين العام السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) وهنّأني بالسلامة: "السيّد يتمنّى عليك أن تتحلّى بالصبر والتحمّل، ففي ذلك جهاد؛ لذا كن قويّاً، وتغلّب على معاناتك".
بعد العلاج الفيزيائيّ بدأتُ أحرّك يدَيَّ مع كثيرٍ من المعاناة والألم. وأكثر ما آلمني هو ملازمة زوجتي الحامل لي دون أن تفارقني لحظةً واحدة، وكانت دائماً تقول لي: "أنت قدّمتَ عينيك فداء للوطن والشرف والحقّ، وأنا سأكون عينيك، ولي الشرف أن أكون زوجة جريح دافع عن وطنه وأهله".
وبعد مرور شهر، أخبرني الطبيب أنّني فقدتُ بصري إلى الأبد. شكرتُ الله لأنّني أبصرتُ النور من خلال أرض الجنوب، أأبخل عليها ببصري؟!
•السند والمعتمد
تقول الزوجة: "أمجد لم يتغيّر بعد الإصابة، فأنا أعتمد عليه في الكثير من الأمور، ولا يحبُّ أن يعتمد على أحد، وهو من يتسوّق لنا أغراض المنزل، ويساعدني في تربية الأولاد. حياتي استمرّت بتغيّر صغير، هو وسام الشرف الذي أفتخر به مدى العمر".
•"أبي تاج على رؤوسنا"
تربطني علاقة قويّة بأبنائي الأربعة؛ إذ إنّني أرى النور منهم، وخاصّة بتول ابنتي الكبرى، فهي تهتمّ بأموري الخاصّة جدّاً، وأعتبرها أميرة المنزل، وهي تقول عنّي: "أنا أفتخر بهذا الرجل العظيم، فهو تاج يجب أن يضعه كلّ إنسان شريف على رأسه"، وتخاطبني قائلة: "لا تخف يا والدي، فأنا سأكون عينَيك اللتَين فقدتهما أثناء جهادك".
أمّا عبّاس، فهو يحبّ خدمة الآخرين ومساعدتهم، ويلحّ على والده ليطلب منه ما يريد، غير مسموح لأحد أن يخدمه، فهذا واجبه، يقول أمجد: "عندما وُلد عبّاس حملته بين ذراعَيّ ورفعته إلى جهة القبلة وقلت: يا رب منَّ على ولدي بالشهادة عندما يكبر، ليرفع رأسي عند مولاتي السيّدة الزهراء عليها السلام".
"رحيل" تسأل والدها: "أين عيناك؟" فيحدّثها بما جرى، فتقول: "لا تخف سأقدّم لك عندما أكبر عيوناً". آخر العنقود لا تتعدّى الأشهر، غنّوجة المنزل، هؤلاء الأولاد غيّروا حياة أمجد ليكون أقوى.
•رحلة جهاديّة
قرّر أمجد القيام برحلة جهاديّة مع أولاده ليعرّفهم إلى أرض الجنوب التي انتصرت. عرف أنّه وصل من رائحة التراب والهواء، "كنت أشتاق لأضمّ أغصان اللوز والتفاح وأقبّل ثمارها". كان غارقاً في أحلامه يبحث عن الجبل الذي حرثه، والمغارة التي احتمى بها، وساقية الماء التي ارتوى منها. قاطعته ابنته بتول: "هذه الأرض جميلة جدّاً، وفرحتُ كونها تلطّخت ببعض دمك الغالي".
•لا تجعل الدنيا لي سجناً
بعد سنة من فترة الإصابة، أحسّ أمجد بملل وضجر كبيرَين. كلّما ضاقت به الأيّام كان يكرّر دعاء : "اللهمّ لا تجعل الدنيا لي سجناً ولا فراقها عليَّ حزناً".
يذكر أوّل حادثة قرّر فيها الاعتماد على نفسه: "كنت في شهر رمضان جالساً على شرفة المنزل، فخطر في بالي أن أذهب إلى منزل أهل زوجتي أثناء السحور، كنت خائفاً من الأضرار التي ستقع ولكن تغلّبت عليها، المسافة نحو 150 متراً، فيها صعوبة، لكن في النهاية وصلت إلى المنزل، فتحت زوجة عمّي لي الباب وصرخت: "كيف أتيت بمفردك؟". وهكذا بدأ بالتنقّل من مكان إلى آخر حتّى أصبح يتجوّل في جميع طرقات القرية، "العصا تساعدني كثيراً وأعتمد عليها".
•في درب الحياة
تدرّبتُ على صيد الأسماك، وأنا أمارس هوايتي على نهر العاصي برفقة بعض الأصدقاء. تعلَّمتُ صناعة القشّ وأصبحتُ أشارك في معارض كثيرة، وتعلّمتُ عزف البيانو من خلال مؤسّسة الجرحى وبلديّة الهرمل، ثمّ أخذتُ أطوّر نفسي عبر سماع المقطوعات ومن ثمّ عزف مقطوعات خاصّة بي، وشاركتُ مع فرقة الجراح التابعة للجرحى. أستخدم الهاتف من خلال البرنامج الخاصّ بالمكفوفين، وأنا ناشط على وسائل التواصل الاجتماعيّ، ولديّ صفحة تخدم المقاومة وجمهورها.
خضعتُ للعديد من الدورات الثقافيّة والتربويّة، وأحضر في مسجد الضيعة بشكلٍ مستمرّ، ولديّ دَورٌ في إرشاد الإخوة.
•قولٌ وفعل
"لا تخافوا إذا استشهد أبناؤكم أو جُرحوا، افتخروا بذلك، كونوا بقربهم، ساعدوهم للتغلّب على جراحهم كي يمتلكوا العزيمة". فالإصابة جُعلت لصنع المعجزات، لا للفشل والاستسلام. والإنسان المؤمن يكتشف إيمانه في الأوقات الصعبة، أمّا دور الجريح، فإنّه لم ينتهِ بعد وإلّا لاختاره الله شهيداً، وبذلك نكون قد قرنّا قول (يا ليتنا كنّا معكم، فنفوز فوزاً عظيماً) بالفعل حقّاً".
هُويّة الجريح
الاسم: أمجد محمود شعيب.
مكان الولادة وتاريخها: الهرمل 6/6/1980م.
الوضع الاجتماعي: متأهّل وله 4 أولاد.
تاريخ الإصابة: 2005م.
نوع الإصابة: فقدان البصر.