مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

كذبة نيسان في قفص الاتهام‏

ولاء إبراهيم حمود

 



* أخيراً... ماتت "دلّول" حقاً
لم يفاجئني الخبر، فدلّول آخر "مُعمِّرات" القرية، ولكن الصيغة التي حملت نعيها دفعتني للتساؤل: "هل ماتت قبل الآن كذباً"؟ وجاء الجواب مرفقاً بابتسامةٍ تؤكد موتها السابق إشاعة في الأول من نيسان الواقع منذ ثلاثين عاماً في ذاكرة كبار الضيعة. وقد تذكّر معظمهم، كيف تركوا أعمالهم في حقولهم وبيوتهم بعد أن شاع نبأ موتها المفاجئ... وكيف التقوا جميعاً من الجهات الأربع للقرية قرب حديقتها، ليروها واقفةً تسقي زهورها، وقد صعقها حتى كاد يميتها فعلاً تجمعهم المفاجئ... وعندما سألتهم عن سبب تواجدهم في هذه اللحظة عند بوابتها أجابوها جميعاً: "جئنا نحضر مأتمك" وقد علت الضحكات من جانب وصيحات الاستنكار من جانب آخر بعد أن أحسَّ القوم بأنهم ضحايا "مقلب" ساخر، لم يأبه فاعله بما سبَّبه لهم من ضرر، جرَّاء تركهم لمواشيهم وحقولهم... ولم تطوِ الأيام الاسم الحقيقي، لذاك "الخفيف الظل"، لأن كل أهل القرية باتوا يدققون في كل قولٍ يصدر عنه، أو خبر يرويه... المهم أنه وبعد أن عوتب من قبل أكثر المتضرِّرين، أجابه بصلافةٍ: "هاي كذبة أول نيسان" فأجابه المسكين الذي كان قد فقد إحدى مواشيه في غمار تلك "المزحة الموسمية": من هلق ورايح، رح تصير كل أيامك، بنظري كذبة نيسان.

* كذبة بكل معنى الكلمة
إذاً، إنها تبقى ومهما أضحكتنا، وربما من أنفسنا، ومن الآخرين كذبة، كاذبة، وربما أبكت سوانا عندما أضحكتنا. لذلك هي تفقد وفي خضم الضحك وجهها الأبيض. وهدفها "النقي"، الهادف إلى التسلية، والمزاح، كم من مزاحٍ، إنقلب في احتدامه، إلى مأساةٍ مريعةٍ أدمت قلوب كثيرين، كم من كلمةٍ غير مسؤولة، أورثت قطيعةً بين أخوةٍ وأهلٍ وأبناء... وكم من مواقف غير ناضجةٍ، دمرَّت أُسراً وبيوتاً. كل هذا تحت ستار المزاح المزعوم "بريئاً". ثمة خيطٌ غليظٌ بين طرفةٍ تروى بضمير الغائب المجهول في مجلس سمرٍ ولهوٍ بريئين وبين مقلب ساخر، توهم صاحبه فيه لطفاً وظرافة أدّيا إلى ما لا تُحمَدُ عقباه، عجباً كيف لا يستطيع البعض رؤية هذا الخيط؟ ومنتهى العدالة الاجتماعية برز، في مصير ذاك الراعي الذي زعم لمرتين على التوالي أن الذئب قد هاجم قطيعه، فتبيّن لمن سعى إلى نجدته، مزاحه الكاذب فتخلى عنه الجميع ولم ينجده أحدٌ في المرة الثالثة، ليفترس في هذه المرة أغنامه، مزاحه البائس، قبل الذئب الذي غادر إطار الوهم إلى حقل الحقيقة في هذه المرَّة. إذاً، إنها مزحة الأول من نيسان، كذبة بكل معنى الكلمة، وإن عشناها على إيقاع الضحك الصَّاخب احتفالاً بنجاح المقلب، ترى هل كان العام 1560م عامها الأول، وذلك عندما جلس على عرش فرنسا، ملكٌ يدعى شارل التاسع وقد كان في العاشرة من عمره؟ هل كان عهده الذي استمرَّ مدة أربعة عشر عاماً (حتى 1574) كذبةً غطَّت كل أيام هذه الأعوام في فرنسا؟ تروي كتب التاريخ أن الغربيين والفرنسيين تحديداً، كانوا يحتفلون بعيد رأس السنة في الأول من نيسان، لكن هذا الملك، أصدر مرسوماً ملكياً، يقضي بنقل الاحتفال برأس السنة إلى الأول من كانون الثاني، فما كان من الذين أيَّدوا التغيير إلا أن بدأوا يغيظون المتمسِّكين بالتقويم القديم. وذلك بإرسال هدايا كاذبة إليهم في الأول من نيسان، فكانوا يضعون في عُلب جميلة، حلوى ممزوجة بالملح أو بالخل، أو يرسلونها بأناقةٍ بالغةٍ، ولا تحمل سوى الفراغ.

* أيُّ كذب بري‏ء!
نستطيع اعتبار هذه المعلومات تاريخاً دقيقاً لانطلاق ما يسمى ب"سمكة نيسان" "Poisson d'Avril" وذلك نسبةً لخروج الشمس من برج الحوت في الأول من نيسان... ولكننا لا نستطيع اعتبارها بدء تاريخ الكذب البغيض المحرَّم شرعاً وعرفاً في العالم، ففي القرآن الكريم قصص كثيرة عن كاذبين ومكذِّبين، أما كذَّب كلُّ قومٍ أنبياءهم الذين أرسلوا إليهم؟ أما عقر قوم صالح الناقة بعد أن كذَّبوه؟ وفي التاريخ العربي مسيلمة... وفي تاريخنا المعاصر أحفادٌ كُثُرٌ له... كل هذا لا يعني أن كذبة نيسان جائزة وأن ما سواها محرَّم. ثمة أمورٌ عقلائية في الحياة، لا تحتاج فتوى، لقد ترك للعرف السائد مسألة تحريمها أو تحليلها. ترى كيف يكون شعور من تسعده رؤية الآخرين مربكين حائرين في مقلب أحكم إعداده، لو انعسكت الآية وفقد هذا "الطريف" أحد أعز أهله أو أقربائه في موقف مماثل؟ أي طرافةٍ تكمن في التسلِّي والسخرية من الآخرين؟ وأي خفة ظلٍّ تتجلى في مأساةٍ سبّبها موقف غبيٌ أحمق، لا يحيا صاحبه إلا للعبث؟ على أي حال... إنَّ الكذب آفةٌ نفسية خبيثة، هو مرضٌ فتاكٌ يؤثر قبل أي أحد على علاقات صاحبه الأسرية والاجتماعية، الكذب قدرةٌ غبيةٌ حمقاء يظنها صاحبها راقيةً... فيدمنها حتى تتحكم بكل سلوكياته متوهماً أنه نجح في خداع الآخرين وتقديم نفسه إليهم بصورة نقية، جاهلاً أنه في واقع الأمر، قد يخدع كل الناس بعض الوقت، وقد يخدع بعض الناس كل الوقت، ولكنه ومهما استعمل "ذكاءه" السَّاذج لن يستطيع خداع كل الناس، كل الوقت، فضلاً عن عدم إحساسه باللَّه سبحانه، الذي لا تخفى عليه خافيةٌ، والذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وتطويه الأيام لتكشفه ولو بعد حين.

* سوسة الكذب‏
فحبل الكذب قصيرٌ... مهما طال به الزمن... كم من لقاءٍ على غير موعدٍ كشف أموراً، كان صاحبها يحرص على إخفائها، لأنه كان فيها كاذباً بامتياز؟ لا نتكلم هنا عن أمورٍ سترها اللَّه بستره الجميل ولا عن أسرارٍ لا يجوز كشفها... نتكلم عن علاقاتٍ اجتماعية وعائلية تنمو وتتوالد منذ لحظاتها الأولى في رطوبة الكذب وعفنه الذي سرعان ما يتفشى وتعلن عنه رائحته النتنة... ولئن كان الخوف على الحياة أو العرض أو الخوف من العقاب طفلاً، مبرراً عقلائياً لبعض الكذب، فهو غير مبرر عندما يشتد عود الإنسان ويستوي أمام الحياة عقلاً وضميراً ومع ذلك يستمر في ممارسة الكذب حتى في أعمق علاقاته حميميةً... إن العلاقة الزوجية، إن لم تنشأ منذ لحظة اللقاء الأول في ظل الثقة المتبادلة والاحترام المتبادل لعقل الآخر لإنسانيته، محكومةٌ بالفشل لأن الكذب الذي حكم اللقاءات الأولى تجذر فيها لينخرها تماماً فينهار السقف والأعمدة، تماماً كما فعل السوس في عصا سليمان، كما تقول الروايات. حتى العلاقات بين الزملاء في المؤسسة الواحدة والجيران، يجب أن تحكم بالصدق لا بالكذب... كلٌّ في دائرة عمله. مع احترام خصوصيات كل أحد... فللناس أسرارها. المقصود هنا... صدق التعامل إذا تعاملنا والحديث إذا تحدثنا... والتحية الصادقة إذا تبادلناها. وشائك هو موضوع الكذب الذي إذا ما تغلغل في عمق علاقاتنا وتجذِّر في أبسط سلوكياتنا وأهمها أرداها فالكاذب جبان وقد يورث هاتين الخصلتين وراثةً وممارسةً لأجياله. قد نجد للأطفال مبرراً لكذبهم، الخوف، الخيال الخصب، النزعة الروائية، ولكن دورنا نحن الكبار، أن نساعدهم، في اخراج هذه النزعة بعد أن نكون قد أخرجنا أنفسنا منها أولاً، من دائرة الخداع البشع، إلى فضاء الإبداع الخلاَّق المنتج، ثمة تأكيدٌ على دعم وتقوية قوى الأمن الداخلية الإلهية في ذواتنا جميعاً وذلك باعتماد نواهي اللَّه في تشريعه الحنيف. لتستقيم على جادة الشريعة السمحاء خطواتنا، فتزكو، ويُضاءُ أفق حياتنا بنور الإيمان الصادق.

* عقاب الكذّاب‏
عندما نعلم أن الكذب يقع في المرتبة السابعة عشرة من كبائر الذنوب في كتاب شهيد المحراب، آية اللَّه السيد عبد الحسين دستغيب "الذنوب الكبيرة" نتوب، كأسوياء، عن كل كذب .... ويورد الشهيد العظيم في بحثه العميق عن هذه الآفة الخبيثة، التي قد تبتلى بها النفس البشرية مؤمنها وكافرها قول رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: "إن المؤمن إذا كذب بغير عذرٍ، لعنه سبعون ألف ملك، وخرج من قلبه نتن حتى يبلغ العرش"... كما يورد قول الإمام العسكري عليه السلام "جعلت الخبائث كلها في بيتٍ واحد، وجعل مفتاحها الكذب". كما أورد في تأثيره على محترفه ومعتمده أساساً لحياته، وتعاطيه مع من حوله... إنه يُحرم من بركات صلاة الليل، فيحرم بذلك من سعة الرزق. كما أنه يسلبه البهاء والرونق، فينفر منه الناس، ويفقد صداقاتهم ومصداقيته معهم كما في قول عيسى بن مريم عليه السلام: "ومن كثر كذبه، ذهب بهاؤه" أو في قول أمير المؤمنين عليه السلام: "ينبغي للرجل المسلم أن يجتنب مؤاخاة الكذاب، حتى يجي‏ء بالصدق، فلا يُصدق". أخيراً ومن ضفاف أمير المؤمنين الرحبة، ندعو اللَّه سبحانه وتعالى، أن يعيننا أولاً وأخيراً على أنفسنا، لنرقى بها من ربقة الكذب الموحلة إلى مصاف الصدق الشجاع المواجه للنفس في أصعب لحظاتها. هذا الصدق الذي يطهر أعمارنا من سواء الكذب ولو كان في أول نيسان... أمام عين اللَّه الذي يعلم الجهر وما يخفى وله في جميع خلقه، صادقهم وكاذبهم، شؤون وشجون.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع