د. أحمد علي الشامي
من خلال العودة إلى الماضي القريب، يجدر التوقّف أمام معطى تاريخيّ لافت بدلالاته، حيث راحت جهات غربيّة تسعى -وبكلّ كدّ ومثابرة- لإنشاء جامعات ومراكز علميّة في البلاد التي كانت تقع ضمن دائرة الإمبراطوريّة العثمانيّة، على الرغم من آلاف الأميال التي تفصلها عنها، متحمّلةً في ذلك أعباءً باهظة، إلى جانب إرسالها نخباً من أساتذتها وبعثاتها العلميّة للإقامة بعيداً عن موطنها الأصليّ. ولأنّ المنفعة هي الحاكم لسلوك الغربيّ في تعامله مع الآخر، فإنّ منطق الأمور يقود إلى القول، إنّ هذه الخطوة جاءت وَفق دراسة جدوى، خلصت بنتائجها، إلى تفوّق الإيجابيّات المتوخّاة من اندفاعتهم نحو بناء صروح تعليميّة ونشر مناهجها في بلادنا، على ما يرتّبه ذلك من أعباء وتكاليف وتبعات.
•أرقام مخيفة
ليس من باب الصدفة أن يترافق تقهقر نفوذ الإمبراطوريّة العثمانيّة وتفكّكِ بناها الداخليّة مع تنامي الاندفاعة الغربيّة تلك. فقد قدّر تقرير غير رسميّ أُنجز عشيّة الحرب العالميّة الأولى عام 1915م، أنّ عدد المدارس الفرنسيّة في الإمبراطوريّة العثمانيّة بـلغ 500 مدرسة، والأمريكيّة 675، والبريطانيّة 178، والتحق بالمدارس الفرنسيّة 59,414 طالباً، والأمريكيّة 34,317 طالباً، والبريطانيّة 12,800 طالب، ناهيك عن أعداد من الملتحقين بالمدارس الألمانيّة، والإيطاليّة، والنمساويّة، والمجريّة، والروسيّة(1).
•جمعيّة المقاصد.. البديل الإسلاميّ
وفي التوقيت أيضاً، إنّ أوّل كليّة تأسّست في الإمبراطوريّة العثمانيّة، كانت غربيّة الهويّة والانتماء، تحت مسمّى الكليّة السوريّة البروتستانتيّة (الاسم الأسبق للجامعة الأمريكيّة في بيروت) وذلك في العام 1866م(2). وبينما بدأت جمعيّة المقاصد الخيريّة الإسلاميّة في بيروت عام 1878م بإنشاء مدارس خاصة بوصفها بديلاً إسلاميّاً عربيّاً حديثاً للمدارس الأجنبيّة، كان على رعايا الدولة العليّة (العثمانيّة) الانتظار حتّى العام 1883م، كي تجهّز لهم مدارس تعتمد مضافاً إلى المناهج الدراسيّة الدينيّة، مقدّمات في علم الفلك والعلوم الطبيعيّة، وكان عليهم الانتظار حتّى العام 1895م، حتّى يفتتح لهم أوّل كلّيّة عثمانيّة(3).
•التبشير الدينيّ
أمّا في المضمون، ومن خلال قراءة الغزو الغربيّ للمنطقة بهذا العدد الوافر من المؤسّسات التعليميّة، يلاحظ أنّ المسار الذي سلكه قد اتّخذ من التبشير الدينيّ شعاراً له، حتّى أمكن القول إنّ المنطقة اجتاحتها موجات من الحملات الصليبيّة ببعدها الثقافيّ، لتحقّق ما عجز العسكر عن تحقيقه. ولاحقاً، أحدث الغربيّ تحوّلاً جذريّاً في غاياته، حين انتقل بتلك المؤسّسات التعليميّة من أدوات للتبشير الدينيّ إلى رافعة للواء نشر قيم العلمانيّة والليبراليّة. ويستوقف المتابع لهذا المسار، حجم الدور الفاعل والأساس الذي لعبه كلّ من الاستشراق والاستغراب في تحقّق تطلّعات الغرب نحو الشرق.
•التبشير بالقيم المسيحيّة
في الحديث عن أولى غايات مؤسّسات الغرب التعليميّة، نشير إلى بعض المعطيات الدالّة عليها، ففي العام 1866م، وبعد أن فشل مُنصّرون برُوتستانت في مدينة القدس، توجّهوا نحو جبل لبنان واستقرّوا في بيروت، وهناك أسّسوا أوّل أكاديميّة للتعليم العالي في المنطقة، باسم "الكليّة السوريّة البروتستانتيّة"(4). وأعلن المؤسّس الأوّل، المبشّر الأمريكيّ البروتستانتيّ دانيال بليس(5)، عن أهداف الكليّة وغاياتها، في قوله: نريد دمج تعليم أحدث مجالات الآداب والعلوم مع التزام مبادئ ومعتقدات المذهب البروتستانتيّ(6).
وقد ذكر السياسيّ العراقيّ "منيف الرزاز" من خلال روايته لسيرته الذاتيّة، أنّ الرؤساء الأوائل للكليّة السوريّة (الأميركيّة حالياً)، كانوا يعبّرون بشكلٍ متكرّر عن أملهم في أن يصبح خرّيجو الكليّة مبشّرين طلّاباً ينشرون النموذج الحضاريّ الأمريكيّ البروتستانتيّ في مجتمعاتهم المتخلّفة(7).
•الهدف: القبض على العقول
في الحقيقة، لم تكن هذه الاستراتيجيّة حكراً على الأميركيّين وحدهم، بل سبقهم إلى ذلك نظراؤهم في الحركة الاستعماريّة، وعلى سبيل المثال، ما قاله أحد ضبّاط الاستعمار الفرنسيّ في العام 1846م: إنّ الأمر الأساس الذي يمكن أن نفعله هو أن نجعل الشعوب المستعمرة قابلة للسيطرة، بالقبض على عقولهم بعدما أحكمنا قبضتنا على أجسادهم. وقد تمّ ذلك بنجاح، عن طريق استقدام التعليم الأوروبيّ، فأهل الشرق الذين أُخِذوا بسطوة الغرب -الاقتصاديّة والعسكريّة- سيجلسون إلى الغربيّ، ويتعلّمون منه الأفكار التي صاغها الاستشراقيّون.
•استغلال العنصر النسائيّ
واللافت في هذا المجال، أنّ أولى الخطوات التي مورست لتنفيذ هذه الاستراتيجيّة راحت تستهدف المرأة الشرقيّة بشكل أساس، وهذا ما يؤكّده "زويمر" المبشّر الشهير في الشرق الأوسط، حيث أشار إلى أهميّة العنصر النسائيّ في المجتمعات الشرقيّة؛ لذا ينبغي للهيئات التبشيريّة أن تولي اهتماماً بالعمل مع النساء، فهذا من شأنه أن يسرّع في تنصير بلاد المسلمين(8). وقد حدّد "الأب أيروت" -وهو يسوعيّ عمل في ريف مصر في مطلع القرن العشرين- أنّ التعليم والتربية والتوجيه، وخاصّة للنساء، هو المدخليّة لإعادة بناء المجتمع المصريّ، فمن خلال المدارس الإرساليّة للبنات، يمكن هدايتهنّ للمسيح، وإذا كُسِبت البنات للمسيح فستُكسب مصر كلّها للمسيح(9).
•التحوّل نحو نشر قيم العلمانيّة
إذا كان شعار "فصل الدين عن الدولة" قد اجتاح أوروبا لمبرّرات ترتبط بظروف سادت مجتمعاتها في حينها، فلماذا اتّخذ الغرب من العلمانيّة هدفاً استراتيجيّاً وعمل على نشرها في بلادنا؟ وما حقيقة علاقة ذلك بحماسة المنتصرين في الحرب العالميّة الأولى، لاستقطاب نخب قياديّة من بلاد الترك العثمانيّة، يتمّ إشباعهم بالقيم والأفكار العلمانيّة والليبراليّة، ليكونوا دعاتها في مجتمعاتهم؟ أسئلة سنجيب عنها، فيما يتعلّق بلبنان تحديداً، في العدد القادم.
1.Roderic H. Devison, Westernized Education in Ottoman Turkey Middle East Journal, vol. 15, no.3 - summer 1961, 291.
2.كان اسم الجامعة الأمريكيّة في بيروت "الكليّة السوريّة البروتستانتيّة" قبل استبداله في العام 1920م.
3."الجامعة الأمريكيّة في بيروت القوميّة العربيّة والتعليم الليبرالي"، بيتي أندرسون، ص12.
4.تقرير حول فيلم وثائقي، بثّته قناة الجزيرة ضمن برنامج تحت المجهر، تحت عنوان "القوة الناعمة.. الجامعة الأمريكيّة في بيروت" نشر بتاريخ 4/2/2016م - موقع قناة الجزيرة.
5.دانيال بليس، رئيس الجامعة ومؤسسها من عام 1866م - 1902م، وقد أطلق اسمه على الشارع الملاصق لسور الجامعة، وكذلك على إحدى قاعات الجامعة.
6."الجامعة الأمريكيّة في بيروت القوميّة العربيّة والتعليم الليبرالي"، (م.س)، ص3.
7.(م.ن)، ص12.
8.كاثرين بولوك، نظرة الغرب إلى الحجاب، ترجمة شكري مجاهد، دار العبيكان, الرياض 2011، ص77.
9.من كتاب نظرة الغرب إلى الحجاب
Van Sommer and Zwemer, Our Moslem Sisters, p59.