السيد علي محمد جواد فضل الله
يقول الشاعر الفرزدق في إحدى قصائده:
من معشر حبهم دين وبغضهم كفر وقربهم منجى ومعتصم. وعن الإمام مالك بن أنس -إمام المذهب المالكي: "ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر الصادق فضلاً وعلماً وعبادة وورعاً". وكيف لا؛ وهذا رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: "نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد". ويقول عمر بن المقدام: "كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد علمت أنه من سلالة النبيين".
*ولادته:
كانت ولادة الإمام الصادق عليه السلام في المدينة المنورة ليلة الجمعة في السابع عشر من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين للهجرة النبوية الشريفة في عهد الحاكم الأموي عبد الملك بن مروان. هذا، وأم الإمام الصادق عليه السلام هي فاطمة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، ولهذا ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "ولدني أبو بكر مرتين".
*نشأته و عصره:
أقام الإمام الصادق عليه السلام مع جده علي بن الحسين عليه السلام اثنتي عشرة سنة وأخذ عنه في حياته وتربى في مدرسته حيث كان الإمام زين العابدين عليه السلام في عصره أفضل الهاشميين وسيد أهل البيت عليهم السلام وأعلم الأمة وأروعهم وأحذقهم حديثاً، وبعد وفاة جده استقل بتربيته والده الإمام محمد الباقر عليه السلام الذي كان كأبيه فضلاً وعلماً وتسميته بالباقر كانت لأنه بقر العلم بقراً وأحاط به خبرا. ينقل سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص عن-عطاء- أحد أعلام التابعين: "ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً منهم في مجلس أبي جعفر الباقر"، هذا، وقد عاش الباقر عليه السلام بعد وفاة أبيه زين العابدين تسع عشرة سنة. إلى ما تقدم، فقد عاصر الإمام الصادق عليه السلام الحكمين الأموي والعباسي، فقد عايش الحكم الأموي مدة تقارب الأربعين سنة، فولادته كما مر كانت في عهد عبد الملك بن مروان بن الحكم، ثم عايش الوليد بن عبد الملك،ثم سليمان بن عبد الملك، ثم عمر بن عبد العزيز، ثم الوليد بن يزيد، ثم يزيد بن الوليد، ثم إبراهيم بن الوليد، ثم مروان الحمار آخر الخلفاء الأمويين، حيث سقط الحكم الأموي في عهده سنة (132هـ) ثم آل الحُكم بعد ذلك إلى بني العباس، فعاصر من حكامهم أبا العباس السفاح وشطراً من مدة أبي جعفر المنصور تقدّر بعشر سنوات تقريباً. إن الإمام وبالرغم من كل الأسباب والظروف المحيطة وغير المؤاتية وإن كان قد ابتعد عن الصراع السياسي المكشوف إلا أنه انصرف إلى بناء مقاومة من نوع آخر، مقاومة علمية فكرية وسلوكية تحمل في طياتها روح الثورة وبذورها كي تنمو بمنأى عن الأنظار وتولد قوية راسخة. وبهذه الروح راح الإمام الصادق عليه السلام يربي ويوجه العلماء والدعاة وجماهير الأمة على مقاطعة الحكام الظالمين وينهاهم عن مدّ يد المساعدة والعون إليهم ومقاومتهم عن طريق نشر الوعي العقائدي والسياسي والتفقه في الدين ومعرفة مفاهيمه. وقد أثبت الإمام عليه السلام لهم المعالم والأسس الشرعية الواضحة في هذا المجال، فقد كان يقول على ما ورد عنه : "من عذر ظالماً بظلمه سلط الله عليه من يظلمه فإن دعا لم يستجب له ولم يأجره الله عن ظلامته".
ومما جاء عنه عليه السلام: "العامل بالظلم و المعين له و الراضي به شركاء ثلاثتهم". وموقفه الحاسم من الحكام الظالمين نتبيّنه من خلال المراسلة بينه وبين المنصور العباسي عندما كتب إليه هذا الأخير كتاباً يطلب فيه قرب الصادق منه ومصاحبته، ومما جاء في الكتاب: "لم لا تغشانا كما يغشانا الناس؟"؛ فكتب إليه الإمام الصادق عليه السلام: "ليس لنا ما نخافك من أجله، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك به، ولا أنت في نعمة فنهنئك ولا تراها نقمة فنعزيك"؛ فكتب إليه المنصور: "تصحبنا لتنصحنا"؛ فأجابه الإمام الصادق عليه السلام: "من أراد الدنيا لا ينصحك ومن أراد الآخرة لا يصحبك".
*مدرسته العلمية:
لقد تميز عصر الإمام الصادق عليه السلام بأنه كان عصر التفاعل العلمي والحضاري بين الثقافة والتفكير الإسلامي من جهة وبين ثقافات الشعوب ومعارف الأمم وعقائدها من جهة أخرى. حيث نمت الترجمة ونقلت الكثير من العلوم والمعارف والفلسفات من لغات أجنبية إلى اللغة العربية، وبدأ المسلمون يطلعون على هذه المعارف وينقحونها ويضيفون إليها ويتعمقون بها، فنشأت في المجتمع الإسلامي حركة علمية وفكرية نشطة، وكان لهذا التفاعل الحضاري انعكاساته على الواقع الثقافي والعقائدي للمسلمين، وصاحبه كذلك تطور ونمو كبير في الحياة الإجتماعية استجدت على أثره وقائع وأحداث وقضايا سياسية واقتصادية واجتماعية تحتاج إلى بيان رأي الشريعة وتحديد الحكم الشرعي منها. وكذلك فقد نشأت من جرّاء ذلك توجهات إنحرافية على المستوى الفكري والعقائدي في المجتمع، فظهرت طائفة من الزنادقة والملاحدة كالديصاني وابن أبي العوجاء وابن المقفع وغيرهم، ممن وجهوا أسهمهم نحو الإسلام وعقيدته ومفاهيمه. أمام هذا الواقع المتلاطم والتيارات المتصادمة وجد الإمام الصادق عليه السلام الفرصة له مؤاتية لينشر الإسلام الأصيل بمفاهيمه وأحكامه في المجتمع، وذلك في الفترة الانتقالية بين الحكمين الأموي والعباسي حيث كان العباسيون منشغلين بتوطيد حكمهم وترسيخ دعائمه، وهكذا فقد تصدى الإمام عليه السلام لنشر العلم والمعرفة وأسس جامعة علمية كبيرة كان مركزها مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله في المدينة المنورة ويذكر لنا التاريخ أن الذين تخرجوا على يدي إمامنا الصادق عليه السلام يزيدون على أربعة آلاف عالم من أكابر علماء عصره في الفقه والتفسير والحديث والكلام والفلسفة والطبيعيات وغيرها من العلوم والمعارف والكل يشهد للإمام الصادق عليه السلام بعلو كعبه وعظيم مقامه وجليل علمه، وكيف لا وهو القائل: "حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين عليه السلام وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وحديث رسول الله قول الله عز و جل".
*أقوال العلماء فيه:
وأما أقوال علماء الأمة فيه وثناؤهم عليه واعترافهم له بالفضل والعظمة فيطول بذكرها المقام، وقد مرّ معنا في صدر البحث ما قاله إمام المذهب المالكي وغيره في حقه عليه السلام. وها نحن ذاكرون للنزر القليل مما قيل فيه عليه السلام. يقول تلميذه أبو حنيفة النعمان، إمام المذهب الحنفي: "ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد" وكان يقول: "لولا السنتان لهلك النعمان"؛ ويقول ابن أبي العوجاء عندما حجّه إمامنا الصادق وخصمه: "ما هذا بشر وإن كان في الدنيا روحاني يتجسد إذا شاء ويتراوح إذا شاء فهو هذا" وأشار إلى الصادق عليه السلام؛ ويصفه أبو الفتح الشهرستاني، صاحب الملل و النحل بقوله: "جعفر بن محمد الصادق ذو علم غزير وأدب كامل في الحكمة وزهد في الدنيا وورع تام عن الشهوات... ولا نازع في الخلافة أحداً ومن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط ومن علا إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حط"؛ ويقول الجاحظ: "جعفر بن محمد الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه يقال: إن أبا حنيفة من تلامذته وكذلك سفيان الثوري، وحسبك بهما في هذا الباب"؛ ويقول ابن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة: "جعفر الصادق نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر صيته في جميع البلدان وروى عنه الأئمة الأكابر كيحيى بن سعيد وابن جريح ومالك والسفيانيين وأبي حنيفة وشعبة وأيوب السجستاني"؛ وقال ابن خلكان في وفياته: "لقب بالصادق لصدقه، وفضله أشهر من أن يذكر"؛ وقال الشيخ المناوي في الكواكب الدرية: "وكانت له كرامات كثيرة ومكاشفات شهيرة و..." وقد أخذ بعدها وذكرها؛ وقال عنه أحمد أمين المصري فيما قاله: "وعلى الجملة فقد كان الإمام جعفر من أعظم الشخصيات في عصره و بعد عصره" ويقول عنه الشيخ المفيد رحمه الله: "ونقل الناس عنه من العلوم ما سار به الركبان وانتشر ذكره في البلدان ولم ينقل عن أحد من أهل بيته العلماء ما نقل عنه ولا لقي منهم من أهل الآثار ونقلة الأخبار ولا نقلوا عنهم كما نقلوا عن أبي عبد الله عليه السلام فإن أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات على اختلافهم في الآراء والمقالات فكانوا أربعة آلاف رجل".
*وقفة مع أخلاقه:
فمن آدابه في العِشرة، أنه كان عليه السلام إذا بسط المائدة حث أصحابه على الأكل ورغبهم فيه، ولربما يأتيهم بالشيء بعد الشبع، فيعتذرون فيقول: "ما صنعتم شيئاً، إن أشدكم حباً لنا أحسنكم أكلاً عندنا"، ويروي لهم هذا القول عن رسول الله صلى الله عليه وآله لتطيب نفوسهم بالأكل وترغب بالزيادة، ويحدثهم بأن هذا قول النبي صلى الله عليه وآله مع سليمان والمقداد وأبي ذر رضوان الله عليهم. وقد كانت للإمام عليه السلام هبات سرية و هذه السيرة درج عليها آباؤه من قبل ونهج عليها بنوه من بعده، فنجد الإمام عليه السلام وقد تستر بثوب الليل آخذاً جراباً فيه الخبز واللحم والدراهم فيحمله على عاتقه ثم يذهب به إلى أهل الحاجة من أهل المدينة فيقسمه فيهم وهم لا يعرفونه، وما علموا ذلك حتى مضى لربه فافتقدوا تلك الصلات، فعلموا أنها كانت من أبي عبد الله عليه السلام. ومن عظيم حلمه أنه عليه السلام كان قد نهى أهل بيته عن الصعود فوق البيت فدخل يوماً فإذا جارية من جواريه ممن تربي بعض ولده قد صعدت في سلم والصبي معها، فلما بصرت به ارتعدت وتحيّرت وسقط الصبي إلى الأرض فمات، فخرج الصادق عليه وهو متغير اللون فسئل عن ذلك فقال: "ما تغير لوني لموت الصبي وإنما تغير لوني لما أدخلت على الجارية من الرعب"، وكان قد قال لها: "أنت حرة لوجه الله لا بأس عليك" مرتين، وهذا يدل على عظيم حلمه وجَلَده.
*عبادته عليه السلام:
لا بدع ولا غرابة أن يكون أبو عبد الله عليه السلام أفضل الناس عبادة وزهادة وورعاً فإن عبادة المرء على قدر علمه بالخالق تعالى ﴿..إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ..﴾﴿28﴾(فاطر)، يقول مالك بن أنس: "كان جعفر بن محمد لا يخلو من إحدى ثلاث خصال: إما صائماً وإما قائماً وإما ذاكراً وكان من عظماء العباد وأكابر الزهاد الذين يخشون الله عز وجل ولقد حججت معه سنة فلما استوت به راحلته عن الإحرام كان كلما همّ بالتلبية انقطع الصوت في حلقه، وكاد أن يخر من راحلته".
*كراماته ومناقبه:
ذكر بعض العلماء ما ينوف على ثلاثمائة كرامة ومنقبة للإمام الصادق عليه السلام. فمن كرامات الإمام المشهورة عند المسلمين هو دعاؤه المجاب في الحال. يقول الصبان في إسعاف الراغبين: "وكان مجاب الدعوة إذا سأل الله شيئاً لا يتم قوله إلا وهو بين يديه"؛ ويقول الشعراني في لواقح الأنوار: "وكان سلام الله عليه إذا احتاج إلى شيء قال: يا رباه أنا محتاج إلى كذا فما يستتم دعاءه إلا وذلك الشيء بجنبه موضوع، وهذا يدل لا على كون دعائه عليه السلام مستجاباً وحسب بل وعلى سرعة الإجابة من الله سبحانه".
*أدب دعائه:
من دعاء دعا به عليه السلام في آخر شهر رمضان: "الهي، فإني أعترف لك بذنوبي، وأذكر لك حاجتي، وأشكو إليك مسكنتي وفاقتي وقسوة قلبي وميل نفسي فإنك قلت: ﴿..فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ..﴾﴿76﴾(المؤمنون) وها أنا قد استجرت بك وقعدت بين يديك مسكيناً متضرعاً راجياً لما أريد من الثواب بصيامي وصلاتي، وقد عرضت حاجتي ومسكنتي إلى رحمتك والثبات على هداك وقد هربت إليك هرب العبد السوء إلى المولى الكريم... أعوذ بجلال وجهك الكريم أن ينقضي عني شهر رمضان أو يطلع الفجر من ليلتي هذه ولك عندي تبعة أو ذنب تعذبني عليه يوم ألقاك".
*الكتب المنسوبة للإمام الصادق عليه السلام:
يقول الشيخ المظفر قدس سره في كتابه "الإمام الصادق" عليه السلام: ما روي عنه بلا واسطة ثمانون كتاباً وبواسطة سبعون، أضف إلى ذلك الأصول الأربعمائة التي ذكرها أهل الفهارس والسير وجلها رواها تلاميذه عنه. وهذا بعض ما نسب إليه عليه السلام:
1- رسالة إلى والي الأهوار النجاشي المعروفة برسالة عبد الله بن النجاشي.
2- كتاب توحيد المفضل وهو في الرد على الدهرية وإثبات الصانع.
3- الأهليلجة ويشتمل على العديد من البراهين العقلية والدلائل الحسية حول الربوبية والتوحيد.
4- كتاب رسائل الإمام الصادق عليه السلام إلى جابر بن حيان الكوفي، وغيرها الكثير مما لا يتسع المقام لذكره.
*وقفة مع درر من علمه وغرر من حكمه:
قال عليه السلام: "حجة الله على العباد النبي والحجة فيما بين العباد وبين الله العقل"؛
وقال عليه السلام: "ومن تعلم العلم وعلم به لله دعي في ملكوت السماوات عظيماً"؛
وقال عليه السلام: "الجهاد أفضل الأشياء بعد الفرائض"؛
وعنه عليه السلام عن جده صلى الله عليه وآله: "أغزوا تورثوا أبناءكم مجدا"؛
وقال عليه السلام: "الرغبة في الدنيا تورث الغم والحزن والزهد في الدنيا راحة القلب والبدن"؛
وقال عليه السلام: "إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق الله فمن نصرهما نصره الله ومن خذلهما خذله الله"؛
وقال عليه السلام: "لا تسخطوا الله برضى أحد من خلقه ولا تتقربوا إلى الناس بتباعد من الله"؛
وقال عليه السلام: "ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثماني خصال: وقور عند الهزاهز، صبور عند البلاء، شكور عند الرضا، وقانع بما رزقه الله، لا يظلم الأعداء ولا يتحامل للأصدقاء، بدنه منه في تعب والناس منه في راحة"؛
وقال عليه السلام لتلميذه سفيان الثوري، فيما قاله عندما قال له: أوصني بوصية أحفظها من بعدك: "يا سفيان من أراد عزاً بلا سلطان وكثرة بلا إخوان وهيبة بلا مال فلينتقل من ذل معصية الله إلى عز طاعته".
*شهادته:
انتقل سلام الله عليه إلى جوار ربه في شهر شوال سنة 148هـ، وكانت شهادته في المدينة المنورة، ودفن في البقيع مع أبيه عليهما السلام وجده صلى الله عليه وآله وجدته فاطمة الزهراء عليها السلام سيدة نساء العالمين، وعمه سبط النبي صلى الله عليه وآله الإمام الحسن عليه السلام، وكانت حياته مصداقاً لقوله تعالى: ﴿إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾﴿162﴾(الأنعام)، فسلام عليك سيدي يوم ولدت ويوم مت ويوم تبعث حياً.