نسرين إدريس
اسم الأم: زينب أحمد.
محل وتاريخ الولادة: 2-2-1966.
الوضع العائلي: متأهل.
رقم السجل: 25.
مكان وتاريخ الاستشهاد: علمان 18-4-1987.
كان علي يجلس بين إخوته وأصواتهم تترنم بآيات الله وجدته الكفيفة ترسم بسمة ملائكية على شفتيها، وهي تصوّب بعضاً من هفوات قراءتهم لكتابٍ حفظته عن ظهر قلب. لَكم ترك صوتها الرقيق أصداءاً في قلبه، وكم أنارت بصيرتها النافذة ظلام الجهل من حوله، فأخذ علي من ذكرياتها جذوة السير في طريق الحق. عُرِف منزل والده في بلدة كيفون، وهي قرية في جبل لبنان، بـ"بيت الشيخة" لما حملته جدته من علم وتقوى صبغا أهله بزينة الإيمان الأصيل. وكان مقصداً للناس يجتمعون فيه للمداولة في شؤون الدين تارة، وطوراً للمناقشة في المستجدات السياسية ومحاولات لاستشراف المستقبل السياسي للبنان إزاء النكبات المتلاحقة للدول العربية في حربها مع الكيان الصهيوني.
لم يدفع الفضول عليًا للمشاركة في هذه الجلسات والاستماع وحسب، بل كان يتجاذب معهم أطراف الحديث في بعض الأحيان بما يتناسب مع عمره الذي اختصرت الحرب منه نداوته، ليشتد عوده باكراً فيكون مع الرجال عوض الركون إلى أحلام المراهقة. عشق الصيد منذ صغره، وهوت روحه الوعر الذي لا يسكنه إلا المُريد النابض قلبه بالشجاعة، فكان، وهو في العاشرة من عمره، يحمل بندقيته الصغيرة ويرافق أخاه بين الأودية والجبال بحثاً عن الصيد الوفير. ولكن سرعان ما تحول لبنان كله إلى منطقة وعرة مزروعة بالألغام والحواجز، ومع اندلاع شرارة الحرب الأهلية، اضطرت العائلة كما العديد من أهل القرية إلى النزوح إلى بيروت التي غصّت بالمهجرين من جميع المناطق. في منطقة الروشة حيت استقرت العائلة، وجد علي نفسه في بيئة تعكس التناقض الواضح لما تعود عليه، وراح يبحثُ عن معلمٍ إسلامي واحد يُشعر القاطنين بالدين، فلم يرَ إلا الفساد الذي استشرى بعد أن امتلأت بيروت بالمخابرات الصهيونية وبقوى متعددة الجنسية، فأصر على صغر سنه، هو وبعض رفاقه على افتتاح مُصلّى صغير يؤمه المتدينون، وأكد لأهله أنه سيجعل من هذا المكان نافذة كبيرة للناس القاطنين هناك ولن يهدأ له بال حتى يسمع كلمة "الله أكبر" ترن في أرجاء المكان، ولم يخشَ من الملاحقة المستمرة له، بل زادته عزيمةً وإصراراً، واستطاع استقطاب أكثر من 150 شخصاً يديمون الحضور إلى ذلك المصلى الصغير لإحياء الشعائر وصلاة الجماعة. كان علي يتمنى أن يتخصص في الطيران، ولكنه لمس صعوبة ذلك في تلك الظروف، فانتسب إلى المهنية ليدرس اختصاص الالكترونيات، ولكن ليس ليؤمن مستقبله، بل ليكرس كل ما يتعلمه للمقاومة.
كان في بداية الخامسة عشرة، صلبَ العزيمة، واعياً، نافذ البصيرة، عندما ترك كل شيء وصار همه مقارعة العدو الصهيوني، ومع تفتح وريقات الشباب بين جنبيه شارك في الدفاع عن محاور العاصمة بيروت، وبدأ عمله الجهادي في منتهى السرية، فلم يكن أحد يعلم أين يكون وماذا يعمل، وبدأت الملاحقات له من جميع الجهات العسكرية، فهو إلى جانب كونه شابًا مجاهدًا وقد مارس دوراً أمنياً مهماً إبان وجود العديد من القوى المسلحة في بيروت كان من أبرز الدعاة الثقافيين والمربين للأجيال الناشئة، وهذا هو أهم دور مارسه في حياته، فالوعي الثقافي والديني حافزان للمواجهة العسكرية بكل صلابة وبأس. وهو الذي تتلمذ في المدرسة الحسينية منذ صغره، وساهمت مشاركته في مسرحية "موكب السبايا" حيث قام بأداء دور الإمام زين العابدين عليه السلام وهو في الحادية عشرة من عمره، بتركيز مفاهيم الصبر والتجلّد على الغربة، وعلى السير في طريق ذات الشوكة بتوكل مطلق. شارك علي في العديد من العمليات العسكرية والمهمات الجهادية التي لم يعرف أحد بها إلا بعد استشهاده، ومن ذكرياته الجهادية، أنه وأثناء قيامه باستكشاف لطريق موقع "الطهرة" في يوم ممطر اختبأ في وكر ضبعٍ تحت طريق كانت دورية صهيونية تجوبه، وبقي هناك فترة من الزمن وبيده قنبلة، وعلى الرغم من قيام الجنود المسلحين بتمشيط المنطقة إلا أنهم لم يشعروا به، فلما وصلت دبابة الميركافا إلى نقطة يستطيع علي من خلالها إصابتها، رمى القنبلة عليها، وأطلق قدميه للريح، عابراً الحقول تحت مرمى رصاص الإسرائيليين، وقد وصف ركضه في تلك اللحظات وكأنه على حصانٍ هوائي. وإزاء ذلك كان يتابع تحصيله العلمي في الجامعة، حيث كان الداعية بين زملائه، وترك الأثر البالغ في نفوس بعضهم الذين رأوا فيه أستاذاً أكثر من كونه طالبًا معهم على مقاعد الدراسة. وإذا كان الوضع المالي المريح لأهله يؤمن له مستقبلاً مريحاً، فإنه كان يؤثر حتى النوم على الأرض، وزهد بكل شيءٍ لأنه أبى أن يعيش وذرّة من تراب وطنه تحت الاحتلال، فالإنسان الذي يستهين بذلك، هو بلا ريب يستهين بكرامته، وهذا ما تأباه نفس علي.
كان جوابه الوحيد لغيابه عن المنزل انه كان في "مشوار"، وفي يومٍ فاجأ أهله بقراره المفاجئ بالزواج، وظنوا أن ذلك قد "يهدئ" من نشاطاته العسكرية، لما تفرضه الحياة الزوجية من مسؤوليات، ولكن عليًا الذي احتفل بعرسه باللطمِ وإلقاء الندبيات الحسينية، لم يغير شيئاً في حياته، ما دعا شقيقيه اللذين يكبرانه إلى الجلوس معه والتحدث إليه بشأن مستقبله، وأهمية الالتفات إلى زوجته وبيته، وأن يطلب ما يريد لينفذاه له مقابل أن يُرسي الاستقرار في حياته، فأجابهما بابتسامته المعهودة: "إذا كنتما تضمنان لي الجنة عند الله، وإذا كنتما تستطيعان الإجابة عني يوم القيامة وتتحملان المسؤولية أمام الله، فلا بأس بذلك! ". فحوقل أخوه الكبير مدركاً أن السبيل الوحيد لراحة علي، هو أن ينال "الشهادة" الهدف الوحيد الذي يريده. تقدّم علي بطلبٍ لمتابعة تحصيله الجامعي في إيران، في وقتٍ أخبره أحد رفاقه المجاهدين أن الموقع المنوي اقتحامه بعملية يشارك فيها كقائد للمجموعة يُرصد، فراح بسرور يكرر ويعيد "قرب النصر، الحمد للَّه"، منتظراً الموعد على أحر من الجمر.
كانت خبرة علي وصفاته الأخلاقية والدينية والعسكرية من التميز ما دفع بمسؤوله المباشر إلى محاولة إقناعه بعدم المشاركة في العملية للحاجة الفعلية له في صفوف المقاومة والتخطيط للعديد من العمليات العسكرية الموسعة، وبعد ساعتين من حديث الأخ الذي انتظر جواب علي على كلامه، تفاجأ به يسأله عمّا كان يقوله لأنه لم يسمع أي كلمة من الحديث مبرراً ذلك بأنه كان مع الإمام الحسين عليه السلام في دنيا ثانية. انطلق علي والعديد من رفاقه المجاهدين ذات صباحٍ بشوقٍ كبير لمقارعة العدو الصهيوني، في عملية عسكرية تستهدفُ العديد من المواقع العسكرية، وهي ما عرفت بعمليات علمان الشومرية، وقد استطاع المجاهدون الوصول إلى المواقع، غير أن انكشاف أمر العملية وقيام الطائرات الإسرائيلية بقصف المكان، أجبر المجاهدين على الانكفاء، وكان علي مع الشهيد أحمد علي شعيب أول الداخلين إلى الموقع، وآخر المنسحبين منه، وأثناء العودة استطاعت القذائف الإسرائيلية إصابة المجاهدين، ما أدى إلى ارتفاع حوالي ثمانية عشر شهيداً منهم الشهيد علي داغر الذي بقيت جثته مع العدو الصهيوني وتمت استعادتها بعد تبادلٍ جرى في العام 1996، ليُدفن ، حيث أوصى، بالقرب من رفاقه الشهداء في مدفن الرادوف.
بعد استشهاد علي أُبلغ أهله بالموافقة على طلب سفره لمتابعة تخصصه الجامعي الذي سعى إليه حثيثاً من أجل رفد المقاومة الإسلامية بالمزيد من الخبرة والمعرفة، لكن شوقه للقاء اللَّه كان أسرع من كل شيء.