اللازم على المتعلم والمستفيد من كتاب الله أن يجري أدباً من الآداب المهمة حتى تحصل الاستفادة، وهو رفع موانع الاستفادة، ونحن نعبّر عنها بالحجب بين المستفيد والقرآن. وهذه الحجب كثيرة، نشير إلى بعضها:
1- من الحجب العظيمة حجاب رؤية النفس، فيرى المتعلم نفسه بواسطة هذا الحجاب مستغنية أو غير محتاجة للاستفادة، وهذا من المكائد المهمة للشيطان، حيث أنه يزيّن للإنسان دائماً الكمالات الموهومة، ويرضي الإنسان ويقنعه بما هو فيه، مثلاً يقنع أهل التجويد بذاك العلم الجزئي، ويزيّنه في أعينهم إلى حد كبير، ويسقط سائر العلوم عن أعينهم، ويطبّق في نظرهم حملة القرآن عليهم، ويحرمهم من فهم الكتاب النوراني الإلهي والاستفادة منه.
2- ومن الحجب: حجاب الآراء الفاسدة، والمسالك والمذاهب الباطلة. وهذا يكون من سوء استعداد الشخص أحياناً، والأغلب أنه يوجد من التبعية والتقليد. وهذا من الحجب التي حجبتنا بالأخص عن معارف القرآن، مثلاً إذا رسخ في قلوبنا اعتقاد فاسد بمجرّد الاستماع من الأب أو الأم أو من بعض جهلة أهل المنبر تكون هذه العقيدة حاجبة بيننا وبين الآيات الشريفة الإلهية. فإن وردت آلاف من الآيات والروايات تخالف تلك العقيدة، فإما أن نصرفها عن ظاهرها، أو أن لا ننظر فيها نظر الفهم. والأمثال على ذلك كثيرة أشير إلى واحد منها:
لقد وردت الآيات الكثيرة الراجعة إلى لقاء الله ومعرفة الله، ووردت روايات كثيرة في هذا الموضوع، مع كثير من الإشارات والكنايات والتصريحات في الأدعية والمناجاة للأئمة عليهم السلام. فبمجرد ما نشأت عقيدة في هذا الميدان من العوام، وانتشرت بأن طريق معرفة الله مسدود بالكلية، أن باباً من المعرفة الذي يمكن أن يقال إنه غاية بعثة الأنبياء ومنتهى مطلوب الأولياء قد سدّوه على الناس بحيث يعدّ التفوّه به كفراً محضاً وصرف الزندقة. ونحن إذا أردنا أن نذكر الآيات والأخبار في لقاء الله بالتفصيل، حتى تتضح فضاحة هذه العقيدة الفاسدة الناشئة عن الجهل والغرور الشيطاني، لاستلزم ذلك كتاباً على حدة، فضلاً عمّا إذا أردنا ذكر المعارف التي وقعت وراء ستر النسيان بواسطة هذا الحجاب الغليظ الشيطاني، حتى يعلم أن أحد مراتب المهجورية من القرآن، ومهجورية القرآن ولعل الأسف عليها أشدّ هو هذه كما يقول تعالى في الآية الشريفة ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا﴾. إن مهجورية القرآن لها مراتب كثيرة ومنازل لا تحصى، ولعلنا متصفون بالعمدة منها. أترى أننا إذا جلّدنا هذه الصحيفة بجلد نظيف وقيم، وعند قراءتها أو الاستخارة بها قبّلناها ووضعناها على أعيننا أنكون ما اتخذناه مهجوراً؟ أترى إذا صرفنا غالب عمرنا في تجويده، وجهاته اللغوية والبيانية والبديعية أنكون قد أخرجنا هذا الكتاب الشريف عن المهجورية؟ هل أننا إذا تعلمنا وجوه إعجاز القرآن وفنون محسّناته أنكون بذلك قد تخلّصنا من شكوى رسول الله؟ هيهات.. فإنه ليس شيء من هذه الأمور مورداً لنظر القرآن ومنزله العظيم الشأن، إن القرآن كتاب إلهي وفيه الشؤون الإلهية. ولا بد أن يحصل من القرآن العلوم الإلهية والمعارف اللدنّية. فإن تعلمنا من القرآن هذه العلوم لا نكون حينها قد اتخذناه مهجوراً، وإذا قبلنا دعوات القرآن، وأخذنا التعليمات من قصص الأنبياء عليهم السلام المشحونة بالمواعظ والمعارف والحكم، وإذا اتعظنا نحن من مواعظ الله تعالى ومواعظ الأنبياء والحكماء المذكورة في القرآن لا نكون عندها قد اتخذناه مهجوراً، وإلا فإن الغور في الصورة الظاهرية للقرآن أيضاً إخلاد إلى الأرض ومن وساوس الشيطان، ولابد من الاستعاذة بالله منها.
3- الاعتقاد بأنه ليس لأحد حق الاستفادة من القرآن الشريف إلاّ بما كتبه المفسرون أو فهموه. وقد اشتبه على الناس أن التفكر والتدبّر في الآيات الشريفة بالتفسير بالرأي الممنوع، وبواسطة هذا الرأي الفاسد والعقيدة الباطلة جعلوا القرآن عارياً من جميع فنون الاستفادة، واتخذوه مهجوراً بالكلية، في حين أن الاستفادة الأخلاقية والإيمانية والعرفانية لا ربط لها بالتفسير أصلاً لتكون تفسيراً بالرأي.
4- حجاب المعاصي والكدورات الحاصلة من الطغيان والعصيان بالنسبة إلى ساحة رب العالمين المقدسة، الذي يحجب القلب عن إدراك الحقائق. وفي هذه الصورة يكون القلب كالمرآة الملوّثة والمدنّسة لا تنعكس فيها المعارف الإلهية ولا الحقائق الغيبية، وحيث أن القلب في هذه الحالة يقع بالتدريج تحت سلطة الشيطان، ويكون المتصرف في مملكة الروح إبليس، فلا ترى العين الآيات الباهرة الإلهية، وتعمى عن الحق وآثاره وآياته، ولا يتفقه القلب في الدين، ويحرم من التفكر في الآيات والبيّنات، وتذكر الحق والأسماء والصفات، كما قال الله تعالى ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾.
5- حجاب حبّ الدنيا، فيصرف القلب بواسطته تمام همته في الدنيا، وتكون وجهة القلب تماماً إلى الدنيا، ويغفل القلب بواسطة هذه المحبة عن ذكر الله، ويعرض عن الذكر والمذكور. وكلما ازدادت العلاقة بالدنيا وأوضاعها، ازداد حجاب القلب وساتره ضخامة. وربما تغلب هذه العلاقة على القلب، ويتسلط سلطان حب الجاه والشرف على القلب، بحيث يطفأ نور فطرة الله بالكلية، وتغلق أبواب السعادة على الإنسان، ولعل المراد من أقفال القلوب المذكورة في الآية الشريفة ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ هذه الأقفال وأغلال العلائق الدنيوية، ومن أراد أن يستفيد من معارف القرآن، ويأخذ نصيبه من المواعظ الإلهية لابدّ وأن يطهر القلب من هذه الأرجاس، ويزيل لوث المعاصي القلبية، وهي الاشتغال بالغير عن القلب لأن غير المطهّر ليس مَحرماً لهذه الأسرار، قال تعالى ﴿إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ فكما أن غير المطهر الظاهري ممنوع عن ظاهر هذا الكتاب، ومسّه في العالم الظاهر تشريعاً وتكليفاً، كذلك ممنوع من معارفه ومواعظه وباطنه وسرّه من كان قلبه متلوثاً بأرجاس التعلّقات الدنيوية، وقال تعالى ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ إلى آخر الآية (البقرة: 2). فغير المتقي بحسب تقوى العامة وغير المؤمن بحسب إيمان العامة محروم من الأنوار الصورية لمواعظه وعقائده الحقة، وغير المتقي وغير المؤمن بحسب سائر مراتب التقوائية وهي تقوى الخاص، وتقوى أخص الخواص محروم من سائر مراتبها.