إن ما سمعته عن نار جهنم وعذاب القبر والقيامة وغير ذلك، وقارنته بنار الدنيا وعذابها، إنما أنت مخطئ في هذا القياس. فنار هذا العالم هي أمر عرضي وهي باردة. وعذاب هذا العالم سهل للغاية. إن إدراكك في هذا العالم ناقص ومحدود. فلو جمعوا جميع نيران هذه الدنيا لما تمكنوا من حرق روح الإنسان، أما هناك فإن النار إضافة إلى أنها تحرق الجسم فهي تحرق الروح أيضاً، وتذيب القلب وتحرق الفؤاد.
* جهنم الأعمال
إن جميع هذا الذي سمعته إلى الآن ومن أي شخص قد سمعت هي جهنم أعمالك التي تراها هناك حاضرة كما يقول تعالى: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا﴾. لقد أكلت مال اليتيم وتلذذت بذلك، ولكن اللَّه وحده يعلم ما هي صورة هذا العمل في ذلك العالم والتي ستراها في جهنم، وما هي اللذة التي ستكون نصيبك هناك؟ تكلمت مع الناس هنا بسوء، أحرقت قلوب الناس، واللَّه هو العالم كم من العذاب في تلك الدنيا لحرق قلوب عباد اللَّه، عندما تراه سوف تفهم أي عذاب قد أعددته بنفسك لنفسك عندما اغتبت. فإن الصورة الملكوتية لهذا العمل قد أعدّت لك، وسترد عليك، وتحشر معها، وستذوق عذابها، وهذه هي جهنم الأعمال، وهي للعاصين وهي يسيرة وسهلة وباردة قياساً مع نار الذين زرعوا في نفوسهم الملكة الفاسدة والرذيلة الباطلة مثل ملكة الطمع والحرص والجحود والجدال والشره وحب المال والجاه والدنيا وباقي الملكات السيئة؛ فلهم جهنم لا يمكن تصورها. الصور التي تظهر من باطن ذات النفس، والتي لا تخطر على قلبي وقلبك، يفر من عذابها أهل تلك النار، ويستوحشون منها.
* سنخية العذاب في الآخرة
إننا لا نستطيع أن ندرك صعوبة وشدة حرارة نار الآخرة في هذا العالم، إذ أن أحد أسباب اختلاف شدة العذاب وضعفه من جهة، تتبع قوة الإدراك وضعفه؛ إذ كلما كان المدرك أقوى والإدراك أتم وأنقى، كان إدراك الألم والعذاب أكثر. ومن الجهة الأخرى، تعتمد على اختلاف المواد التي يقوم بها الحس في تقبل الحرارة، لأن المواد تختلف من حيث تقبل الحرارة. فالذهب والحديد مثلاً، يتقبلان الحرارة أكثر من الرصاص والقصدير، وهذان يتقبلانها أكثر من الخشب والفحم، وهذان أكثر من الجلد واللحم. كما أن لمستوى ارتباط قوة الإدراك بالموضع القابل للحرارة أثراً في شدة وضعف العذاب. فمثلاً المخ مع أن تقبله للحرارة أقل من العظام يكون تأثره أشد، لأن قوة الإدراك فيه أكبر. وأن للحرارة نفسها من حيث كمالها ونقصانها، دوراً في الشدة والضعف؛ فالحرارة التي تصل إلى مئة درجة تؤلم أكثر من الحرارة التي تصل إلى خمسين درجة. كما أن لمدى ارتباط المادة الحرارية الفاعلة بالمادة المتقبلة لها سبباً في تخفيف أو تشديد العذاب. فمثلاً، إذا كانت النار مقاربةً لليد، كان الاحتراق أخف مما إذا التصقت النار باليد. جميع هذه الأسباب الخمسة المذكورة هي في هذا العالم في منتهى النقص، وفي الآخرة في منتهى كمال القوة والتمامية. إن جميع إدراكاتنا في هذا العالم ناقصة وضعيفة ومحجوبة بحجب كثيرة. فأما جسم الإنسان في هذا العالم فهو لا يتحمل الحرارة، إذ لو بقي ساعة واحدة في النار الباردة من الدنيا لاستحال إلى رماد.
ولكن اللَّه القادر يجعل هذا الجسم يوم القيامة بحيث أنه في نار جهنم التي شهد جبرائيل بأنه لو جيء بحلقة واحدة من سلاسل جهنم التي طول الواحدة منها سبعون ذراعاً إلى هذه الدنيا لأذابت جميع الجبال من شدة حرارتها يبقى دائماً ولا يذوب ولا ينتهي... فقابلية جسم الإنسان للحرارة يوم القيامة لا تقاس بهذا العالم. أما ارتباط النفس بالبدن في هذه الدنيا فضعيف وناقص جداً، ففي هذا العالم يستعصي على النفس أن تظهر فيه بكامل قواها، أما الآخرة فهي عالم ظهور النفس. وأما نار هذه الدنيا فهي نار باردة ذاوية وعرضية ومشوبة بمواد خارجية غير خالصة. أما نار جهنم، فهي نار خالصة لا تشوبها شائبة، وجوهر قائم بذاته، وهي ذات إرادة تحرق أهلها بإدراك، وتشدد الضغط عليهم بقدر ما هي مأمورة به.
وأما ارتباط نار جهنم والتصاقها بالجسم، فلا شبيه له في هذا العالم، ولو تجمعت جميع نيران العالم وأحاطت بإنسان، لما أحاطت بغير سطح جسمه. أما نار جهنم، فتحيط بالظاهر والباطن وبنفس الحواس المدركة ومتعلقاتها. إنها نار تحرق القلب والروح والقوى، وتتحد بها بنحو لا نظير له في هذا العالم. فيتبين مما ذكر أن هذا العالم لا تتوافر فيه وسائل العذاب بأي شكل من الأشكال، فلا مواد العالم جديرة بالتقبل، ولا الحرارة تامة الفاعلية، ولا الإدراك تام.