السيد علي فضل اللَّه
هو أبو جعفر محمد بن قبة، ذكره ابن النديم في فهرسته بأنه من متكلمي الشيعة وحذاقهم(1). وذهب العلامة الحلي إلى أن ابن قبة كان شيخ الإمامية في زمانه(2). ووصفه شيخ الرجاليين النجاشي بقوله: "متكلم، عظيم القدر، حسن العقيدة، قوي في الكلام"(3). ونَعَتَه ابن شهرآشوب في كتابه "معالم العلماء" بـ"المتكلم الفحل"(4). ويرى شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي أن ابن قبة هو "من متكلمي الإمامية وحذاقهم ويضيف قائلاً وكان أولاً معتزلياً ثم انتقل إلى القول بالإمامة، وحسن طريقته وبصيرته"(5).
ومن خلال ما تقدم نعرف أن ابن قبة كان وجيهاً وعيناً في المجتمع الشيعي في عصره، وأنه كان من العلماء المرموقين وخاصة في صناعة الجدل وعلم الكلام، وهذا ما نخبره عند ملاحظتنا لمؤلفات ابن قبة ومناظراته وردوده على المعتزلة والزيدية وغيرهما من الفرق وأعلامها مما يدلنا على طول باعه في هذا العلم. وتنبغي الإشارة هنا أولاً إلى أن المادة العلمية المتوفرة لدينا عن ابن قبة وحياته هي محدودة وقليلة جداً، فمعرفتنا عن حياته تتوقف في حدود أنه كان معتزلياً ثم أصبح شيعياً إمامياً لما ذكرنا آنفاً، وأنه عاش في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري في الري وتوفي فيها، ومن المظنون به أنه قد أدرك السنوات الأوائل من القرن الرابع الهجري. وأما زمن الوفاة فهو كزمن الولادة من حيث عدم توفر المصادر التي تحدد لنا ذلك، إلا أنه على أي حال قد توفي قبل وفاة المتكلم المعتزلي أبي القاسم البلخي الذي مات في شعبان من سنة 319 للهجرة، وهذا يتضح من خلال قضيةٍ تبادل فيها ابن قبة الردود الكلامية مع البلخي(6).
* ابن قبة ونظرية الإمامة عند الشيعة:
لقد كان لابن قبة دور هام وعمل ناشط وبنّاء في الدفاع عن الأسس العقائدية لمدرسة أهل البيت عليهم السلام مقابل المدارس والتيارات الفكرية الأخرى. وقد تجلى ذلك عبر جهتين: الأولى: المناظرات الشفوية التي كانت تدور بينه وبين من يخالفه الرأي والمعتقد. الثانية: تأليف الكتب الكلامية. والشاهد على ذلك، عناوين آثاره ونماذج مناظراته التي وصلت إلينا، أضف إلى المراسلات التي كانت تجري بينه وبين كبار علماء عصره كمراسلاته مع المتكلم الشيعي الحسن بن موسى النوبختي والتي نقف على عناوينها فيما تطالعنا به آثار هذا الأخير. وكذلك فقد كانت هناك مراسلات كلامية بين ابن قبة ومعاصره المعتزلي أبي القاسم البلخي المعروف بالكعبي حيث ردَّ هذا الأخير على كتاب ابن قبة "الإنصاف في الإمامة"، والذي يظهر أنه كان في وقته أهم وأحدث ما كتب في التشيع حول مسألة الإمامة(7)، إلى هذا فقد تركت نظرية ابن قبة في الإمامة أثراً عميقاً وطويل الأمد في الفكر الكلامي الشيعي في العصور المتأخرة عنه، فنحن نجد أن علماء كباراً كالشريف المرتضى والشيخ الطوسي لم يكتفوا باقتباس العناوين العامة لنظرية ابن قبة وما أفاده في مسألة الإمامة بل إنهم استعملوا حتى ألفاظه وتعابيره في هذا الموضوع، وأصبحت عبارات ابن قبة الواردة في كتابه (الإنصاف) متداولة ومألوفة في الكتب الكلامية المتأخرة عنه، وهذا مما يقوى في الذهن احتمال أن تكون بعض هذه الكتب قد أُلفت بنفس منهج ابن قبة في التنظيم والتبويب والتحليل والاستدلال(8). وأهم معالم رأيه في نظرية الإمامة يمكن تلخيصها عبر النقاط التالية(9):
1- أنه ينبغي أن يكون للنبي خليفة من ذريته، وهذا بموجب النص الصريح عن الرسول محمد صلى الله عليه وآله في حديث الثقلين المتواتر.
2- ينبغي أن يكون خليفة النبي بحكم العقل أتقى أهل بيت النبوة وهكذا فإن اللياقة والأهلية والكفاءة هي الأساس في تعيين الإمام في كل عصر.
3- بما أن الناس لا تستطيع اختيار الأصلح والأفضل كان لزاماً على النبي صلى الله عليه وآله أو الإمام عليه السلام أن يُعيِّن خليفة للناس.
4- النقل لهذا التعيين والاستخلاف للأجيال اللاحقة لا بد أن يكون من التواتر بمكان يمتنع عادة احتمال تباين جميع رواته على الكذب ويحصل الاطمئنان به. ويرى ابن قبة أن الفرق بين صراط التشيع الإمامي والفرق الأخرى المتشعبة منه، هو هذا النقل المتواتر عن كل إمام، بينما لا يملك أصحاب الفرق المتشعبة من التشيع ما يؤيدهم إلا روايات آحاد شاذة.
5- نص النبي صلى الله عليه وآله على خلافة أمير المؤمنين علي عليه السلام بالنص الصريح وهو ما يصطلح عليه عند الكلاميين ب"النص الجلي".
6- بالرغم من النص الجلي على ولاية أمير المؤمنين عليه السلام، إلا أن أكثر الملتزمين بهذا النص ليسوا مرتدِّين أو خارجين عن الإسلام وذلك لأن الجو الذي كان مسيطراً آنذاك كان جو صدمة أحدثها موت النبي محمد صلى الله عليه وآله وضجة أوجدها طلاب الزعامة بعده، مما شوش أذهان العامة من الناس حتى توهموا بصحة ما جرى في مسألة الخلافة. يقول ابن قبة: "غير أنهم ذهبوا عنه حديث الغدير بتأويل فاسد لأنهم إنما دخلت عليهم الشبهة من حيث توهموا أن لذلك الكلام ضرباً من التأويل يجوز معه للرؤساء إذا وقعت الفتنة واختلفت الكلمة أن يختاروا إماماً"(10).
7- أما فيما يتعلق بعلم الأئمة عليهم السلام فإن ابن قبة يرى أنهم عليهم السلام علماء أتقياء محيطون بالشريعة وعلوم القرآن وتفسيره.
8- وأما بالنسبة للإمام المهدي عجل الله فرجه فيؤكد ابن قبة أن هذا الاعتقاد بالإمام المهدي عجل الله فرجه هو نتيجة منطقية وضرورية لقواعد المذهب الشيعي في مسألة الإمامة، فمن يؤمن بحاجة المجتمع دائماً إلى الإمام وأنه يتم عبر التعيين من الإمام السابق، يصل إلى نتيجة وهي أن الإمام الحسن العسكري عليه السلام لا بد أن يكون قد نصب الإمام الذي يخلفه، ويعتبر ابن قبة أن عدد الأفراد الذين سمعوا الإمام العسكري عليه السلام ينص على إمامة ولده من بعده يصل إلى النصاب اللازم لحصول التواتر.
* مذهبه الفقهي(11):
لقد كانت الغالبية العظمى من علماء الشيعة حتى نهاية القرن الثالث يعارضون الاستدلال العقلي والاجتهاد في الفقه، بل كانت جهودهم منحصرة في ضبط ونقل أقوال المعصومين بوصفهم المصدر الوحيد الموثوق لعلوم الدين ومرجعاً للتفسير الصحيح للشريعة والوحي. ومقابل هذا الاتجاه ظهر اتجاه آخر مثَّله بعض أبرز أصحاب الأئمة عليهم السلام أمثال يونس بن عبد الرحمن القمي والفضل بن شاذان النيسابوري، وهذا الاتجاه يقول بجواز الاجتهاد المحدود والمشروط في الشريعة، أي جواز استخراج الأحكام الجزئية من القواعد والأصول العامة التي علَّمها الأئمة عليهم السلام لأصحابهم، وابن قبة نجده ينسجم مع هذا الرأي ويعتقد بأن جميع الأحكام ينبغي استنباطها من نصوص الأئمة عليهم السلام، ولكن هذا لا يعني الوقوف على ظاهر النص، بل توجد أصول وقواعد عامة يمكن تطبيقها على جميع ميادين النشاط البشري لاستنباط أحكام المسائل التي لا يعلم حكمها.
* آثاره(12):
عُرف من كتب ومصنفات ابن قبة ما يلي:
1- كتاب "الانصاف في الإمامة"، ولعل هذا الكتاب من أهم مؤلفات ابن قبة، وقد كان هذا الكتاب متوفراً حتى القرن السابع الهجري.
2- المستثبت في الإمامة، وهو دفاع عن كتابه (الإنصاف) بعد أن كتب البلخي رده عليه، وهذا الكتاب مفقود.
3- الرد على أبي علي الجبّائي. وهذا الكتاب مفقود أيضاً.
4- كتاب التعريف في الرد على الزيدية وإثبات أحقية مذهب الإمامية. وهو أيضاً من آثاره المفقودة.
5- المسألة المفردة في الإمامة، وقد نقلها الصدوق في كتابه كمال الدين وتمام النعمة.
6- نقض كتاب الأشهاد لأبي زيد العلوي الزيدي، وقد نقله الصدوق في كتاب كمال الدين.
7- النقض على أبي الحسن علي بن أحمد بن بشار، وقد نقل هذه الرسالة الصدوق في كتابه كمال الدين.
(1) الفهرست، دار المعرفة، ص25.
(2) الخلاصة، ص143.
(3) رجال النجاشي، ج2، ص288.
(4) معالم العلماء، ص95.
(5) الفهرست، منشورات الشريف الرضي، قم، ص132.
(6) حسين المدرس الطباطبائي، تطور المباني الفكرية للتشيع، ص181.
(7) المصدر السابق، ص183-182 .
(8) المصدر السابق، ص194-193 .
(9) المصدر السابق، ص192-190 ، وص194.
(10) الشريف المرتضى، الشافي في الإمامة، ج2، ص325.
(11) انظر: تطور المباني الفكرية للتشيع، ص198-195 ، وكذلك انظر مجلة (الحياة الطيبة) ص162.
(12) تطور المباني الفكرية للتشيع، ص189-185 .