السيد علي محمد جواد فضل اللَّه
إن أول كتاب أُلف في الحديث في الإسلام هو كتاب أمير المؤمنين علي عليه السلام بإملاء رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وخط علي عليه السلام، وكان يشتمل على كل حلال وحرام، وللإمام عليه السلام كتاب في الديات نقل عنه البخاري في صحيحه، وتواصل التأليف في الحديث بعد علي عليه السلام، فقد تبعه أبو رافع القبطي الشيعي مولى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله حيث يعتبر أول من جمع الحديث ورتبه على أبواب وذلك بحسب مواضيعه.
* إطلالة على عالم الحديث
ضبط الشيخ محمد بن الحسن بن الحر العاملي مجموع ما صنَّفه قدماء الشيعة الإثني عشرية المعاصرين للأئمة من كتب الحديث من عهد علي عليه السلام إلى عهد أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام، فوجد أنهم ألَّفوا في الحديث وحده ما يزيد على ستة آلاف وستمائة كتاب، وإن كان قد امتاز من هذه المصنفات أربعمائة كتاب عرفت عند الشيعة بالأصول الأربعمائة، وهي الأصول التي استفاد منها فيما بعد أصحاب المجامع الحديثية عند الشيعة وهي: الكافي لمحمد بن يعقوب الكليني وعدد أحاديثه (16199) حديثاً، والثاني: من لا يحضره الفقيه لمحمد بن علي بن بابويه القمي المعروف بالصدوق وعدد أحاديثه (9044) حديثاً، والثالث: تهذيب الأحكام لمحمد بن الحسن الطوسي وعدد أحاديثه (13590) حديثاً والرابع: الاستبصار في الجمع بين ما تعارض من الأخبار للطوسي أيضاً وعدد أحاديثه (5511) حديثاً، وهكذا يكون مجموع أحاديث الكتب الأربعة ما يساوي (44254) حديثاً. ومن هنا، فقد ذكر الشيخ البهائي في "الوجيزة" أن ما تضمنته كتبنا من هذه الأحاديث يزيد على ما في الصحاح الستة بكثير لمن تتبع الموسوعات الحديثية. هذا، وقد نقل العلامة الطباطبائي عن الشهيد الأول في "الذكرى" أن ما في كتاب "الكافي" وحده يزيد على ما في مجموع الصحاح الست(1). وهذا الاهتمام الكبير بالأحاديث وحملها وجمعها وتبويبها هو من السمات البارزة التي اتصف بها التشيع وهو ما نجده عند أدنى ملاحظة لبدايات عصر التدوين، حيث يذكر ابن حجر أن أول من دوَّن الحديث من غيرهم هو محمد بن شهاب الزهري بأمر من الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، علماً بأن خلافته كانت في نهايات القرن الأول الهجري وبدايات القرن الثاني (98ه 111ه) بينما وكما تقدم فإن الحديث عند الشيعة انطلق منذ بداية القرن الأول الهجري(2). وفي الدلالة على عناية الشيعة بالحديث ما رواه أبو جعفر محمد بن جرير بن رستم الطبري في كتاب (دلائل الإمامة) قال: جاء رجلٌ إلى فاطمة عليها السلام فقال: يا ابنة رسول اللَّه هل ترك رسول اللَّه عندك شيئاً تطرفينيه؟ فقالت عليها السلام: يا جارية هات تلك الحريرة، فطلبتها فلم تجدها
.
فقالت عليها السلام: ويحك اطلبيها فإنها تعدل عندي حسناً وحسيناً، فطلبتها فإذا هي قد قممتها في قمامتها..." وعن الباقر عليه السلام: "يا جابر واللَّه الحديث تصيبه من صادق، في حلال وحرام، خير لك مما طلعت عليه الشمس حتى تغرب"(3). وانطلاقاً من ذلك، فقد اعترف الإمام الأكبر للجرح والتعديل (علم الرجال) عند أهل السنة "الذهبي" في كتابه ميزان الاعتدال بأنه لو لم يؤخذ الحديث عن الشيعة من التابعين وأتباع التابعين لذهبت واندرست جملة الآثار النبوية ولما صح إلا النذر القليل من الأحاديث الواردة عن الرسول صلى الله عليه وآله(4).
* الكليني أبرز علماء عصره
بعد هذه الاطلالة السريعة على عالم الحديث وتدوينه ندخل إلى ترجمة شيخ المحدثين عند الشيعة الإمامية ألا وهو: محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي، والكليني نسبة إلى قرية (كلين) من قرى (الري) من أطراف طهران ويُعرف أيضاً بالسلسي البغدادي لأنه سكن في بغداد في محلة (درب السلسلة) بباب الكوفة. والكليني ينتمي إلى بيت علمي أخرج عدة من أفاضل رجالات الفقه والحديث منهم خاله علاَّن(5)، وكذلك كان أبوه من علماء الري(6). إلى هذا فإننا لم نقف في كتب التراجم التي تعرضت لسيرة حياة الكليني على تايخ ولادته، وأما فيما يتعلق بوفاته فمنهم من ذهب إلى أنها كانت سنة 328ه ومنهم من قال أنها في سنة 329ه مع الاتفاق على أن مدفنه كان في بغداد(7). وعلى كلٍّ، فإن الكليني قد أدرك وكما ذكر السيد ابن طاووس في كشف المحجة زمان سفراء الإمام المهدي المنتظر عجل الله فرجه(8). والظاهر أن نشأة الكليني الأولى كانت في مسقط رأسه كلين(9)، ثم رحل إلى الري وهو يعتبر من أهل الترحال في طلب العلم وأخذ الحديث عن شيوخه(10). هذا وقد كان الكليني في وقته شيخ الشيعة بالري ووجههم وكان أوثق الناس في الحديث وأثبتهم كما يقول الشيخ النجاشي(11) والعلامة الحلي(12) وابن داوود في رجاله(13)، ووصفه الطوسي في "الفهرست" بأنه "ثقة عارف بالأخبار"، وقال عنه ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان "وكان من فقهاء الشيعة والمصنفين على مذهبهم"(14) وقد ذكره (الزبيدي) في تاج العروس بقوله "وقد انتهت إليه رئاسة فقهاء الإمامية في أيام المقتدر العباسي"(15). وقال عنه ابن الأثير في (جامع الأصول): "أبو جعفر بن يعقوب الرازي الفقيه الإمام على مذهب أهل البيت عليهم السلام عالم في مذهبهم كبير الفضل عندهم مشهور" وكذلك عدَّه ابن الأثير في كتاب (النبوة) من المجددين لمذهب الإمامية على رأس المائة الثالثة، وكذا عدَّه (الفاضل الطيبي) في (شرح المشكاة)، وذلك إشارة للحديث المشهور المروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: "إن اللَّه عزَّ وجلَّ يبعث لهذه الأمة في رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"(16). وهكذا فقد اتفقت كلمة علماء الإسلام شيعة وسنة على تعظيم الشيخ الكليني واجلاله وأنه من أبرز علماء عصره وأوثقهم في دينه وحديثه. وقد استوطن الكليني بغداد في درب السلسلة بباب الكوفة، وحدَّث بها سنة 327هـ. وقد كان مجلسه مختلفاً ومرتعاً لكبار علماء عصره الذين قصدوه طلباً للعلم وكانوا يحضرون حلقته لمذاكرته ومفاوضته والتفقه عليه. وكان إلى كونه محدثاً يُعدُّ من أفاضل حملة الأدب وشيوخ رجال الفقه مضافاً إلى أنه من أبدال الزهادة والعبادة والمعرفة والتأله والإخلاص.
* الكتب والمؤلفات
أما كتبه ومؤلفاته فله جملة من المؤلفات تدل إضافة لكونه محدثاً على أنه عارف بالتواريخ والطبقات فقد صنف كتاب الرجال وفي الكلام صنف كتاب الرد على القرامطة وأما عنايته بالأدب فيدل عليها كتاباه: رسائل الأئمة عليهم السلام وما قيل في الأئمة من الشعر، ولعل كتابه تعبير الرؤيا خير كتاب أخرج في باب التعبير عن الرؤيا(17)، ولكن أعظم أثر له هو كتابه الحديثي الخالد "الكافي" وهو أحد الكتب الأربعة المعتمدة في الحديث (عند الشيعة).
* خصائص كتاب الكافي ومميزاته
كتاب الكافي لم يكتب مثله في المنقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله على حد تعبير العلامة آقا بزرك الطهراني في كتابه الذريعة(18). ويصفه السيد بحر العلوم بأنه "كتاب جليل عظيم النفع عديم النظير فائق على جميع كتب الحديث بحسن الترتيب وزيادة الضبط والتهذيب وجمعه للأصول والفروع واشتماله على أكثر الأخبار الواردة عن الأئمة الأطهار عليهم السلام "(19) وقال عنه الشيخ المفيد في تصحيح الاعتقاد: "... الكافي وهو من أجل كتب الشيعة وأكثرها فائدة"(20) وقال الشهيد محمد بن مكي في إجازته لابن الخازن "... كتاب الكافي في الحديث الذي لم يعمل الإمامية مثله"(21). هذا وقد استغرق تأليفه للكافي زمناً طويلاً يربو على العشرين عاماً(22) ويعتقد بعض العلماء بأن كتاب الكافي قد عُرض على الإمام الحجة صلوات اللَّه عليه فاستحسنه(23). ومن الخصائص التي امتاز بها هذا الكتاب كون مؤلفه كان حياً في زمن سفراء المهدي عجل الله فرجه. يقول السيد ابن طاووس في كشف المحجة: أن متتبِّع تصانيف هذا الشيخ محمد بن يعقوب ورواياته في زمن الوكلاء المذكورين، يجد طريقاً إلى تحقيق منقولاته. ويقول الفيض الكاشاني في كتابه (الوافي) حول طريقة الكليني في عرض مروياته: وهو "ملتزم في الكافي أن يذكر في كل حديث إلا نادراً جميع سلسلة السند بينه وبين المعصوم، وقد يحذف صدر السند ولعله لنقله عن أصل المروي عنه من غير واسطة أو لحوالته على ما ذكره قريباً، وهذا في حكم المذكور". هذا، وقد مرَّ معنا أن من خصائص هذا الكتاب كونه جامعاً لمختلف فنون العلوم الإلهية بما احتواه من أصول الدين وفروعه، وأنه يزيد على في الصحاح الستة عند أهل السنة، وأن مؤلفه بالغ في التأني في جمع أحاديثه وتهذيبها وضبطها وتبويبها وذلك في مدة عشرين سنة، سافر خلالها إلى البلدان والأمصار لجمع الحديث وأخذه من أصوله المشهورة والكتب المعوَّل عليها وكذلك عبر مصاحبته وكثرة ملاقاته لشيوخ الإجازات والماهرين بمعرفة الحديث.
* من كراماته
وأختم الحديث عن الشيخ الكليني بقصة نقلها الشيخ يوسف البحراني في (لؤلؤة البحرين) تدل على كرامات الكليني وعلو مقامه ومنزلته، ينقل (البحراني) أن بعض الحكام العباسيين في بغداد "لما رأى افتتان الناس بزيارة الأئمة عليهم السلام حمله النصب على حفر قبر الكاظم عليه السلام وقال إن كان كما يزعمون من فضله فهو موجود في قبره، وإلا نمنع الناس من زيارة قبورهم، فقيل له: إن هنا رجلاً من علمائهم المشهورين واسمه محمد بن يعقوب الكليني وهو من أقطاب علمائهم فيكفيك الاعتبار بحفر قبره، فأمر بحفر قبره فوجدوه بهيئته كأنه قد دفن في تلك الساعة فأمر ببناء قبة عظيمة عليه وتعظيمه، وصار مزاراً مشهوراً"(24).
(1) انظر موسوعة عظماء الشيعة، تأليف جمع من العلماء، دار الأعلمي، ج5، ص470.
(2) راجع حول ما تقدم، أعيان الشيعة، محسن الأمين، ج1، ص201 - 200 وص207.
(3) أصول الكافي، ضمن موسوعة الكتب الأربعة، تصحيح محمد جعفر شمس الدين، مقدمة الكتاب: حسين علي محفوظ، ج1، ص5 - 4.
(4) أعيان الشيعة، ص201 - 200.
(5) أصول الكافي، ج1، ص11.
(6) أعيان الشيعة، ج14، ص428.
(7) قاموس الرجال، العلامة التستري، ج9، ص661.
(8) نقلاً عن رجال السيد بحر العلوم، ج3، ص326.
(9) أعيان الشيعة، ج14، ص428.
(10) أعلام الفكر في الإسلام، طراد حمادة، ص67.
(11) رجال النجاشي، رقم الترجمة (1026)، ص37، ومثله الميرزا عبد اللَّه الأفندي في كتابه رياض العلماء وحياض الفضلاء، ج5، ص199.
(12) رجال العلامة الحلي، رقم الترجمة (306)، ص145.
(13) رجال ابن داود، رقم الترجمة (1538)، ص187.
(14) لسان الميزان، رقم الترجمة (21491)، ج5، ص433.
(15) رجال السيد بحر العلوم، ج3، ص326.
(16) رجال السيد محمد بحر العلوم، ج3، ص330.
(17) أصول الكافي، ج1، ص12 - 11.
(18) الذريعة إلى تصانيف الشيعة، آقا بزرك الطهراني، ج17، ص245.
(19) رجال السيد بحر العلوم، ج3، ص330.
(21) (20) أصول الكافي، ج1، ص22.
(22) رجال النجاشي، ص377.
(23) أصول الكافي، ج1، ص20.
(24) لؤلؤة البحرين في الإجازات وتراجم رجال الحديث، ص392