نسرين إدريس
الشهيد المجاهد علي زهير زهري (عبد الرسول)
اسم الأم: زينب جعفر
محل وتاريخ الولادة: النبطية 1971
الوضع العائلي: خاطب
مكان وتاريخ الاستشهاد: موقع سجد 12-11-1999
ترتعشُ الدمعة في العين، وينتفض القلبُ صوب ذكرياته فراشات من حنين، ونار الشوق له تلسعُ النفسَ بآهاتٍ وأنين.. تصبو الروح إليه، تبحثُ عنه في زوايا الحكايا لتبدأ معه، ولها معه ألف بداية وبداية: "عبد الرسول" عبير المقاومة الفوّاح إباءً ودماء. مع "عبد الرسول" تبقى البداية حائرة؛ من نظرته السارحة بين الأرض والسماء، الباحثة عن لحظة راحة من قلقٍ قيّد روحه بصمت.. من ابتسامته الخاطفة وهو يقلّب حياته بهدوءٍ يحلّق فوق قممٍ تحرسها المدافع عند احتدام المعارك.. من قطرات المياه المنسابة على وجهه قُبيل الصلاة كندى الصبحِ على عشبٍ مخضّبٍ بالنجيع.. من عيون رفاقه المجاهدين الذين ينتظرون يديه لترتفعا في تكبيرة الاحرام فيصطفوا خلفه يوجهون وجوههم قِبَل المسجد الحرام.. من يده الحاملة للقرآن قرب غدير الشهادة ليمر عليه الذين باعوا لَّله جماجمهم، من كفّه التي لامست الشمس في موقع سجد وقد زرع العلم بيديه فوق المتراس مجدداً البيعة لنهج المقاومة الإسلامية..
ما بين "علي زهري" و "عبد الرسول" سرّ ما عرفته إلا ساحات الوغى، ووشوشته الرصاصات عند هضاب الجبال الوعرة والأودية البعيدة.. بين "علي" الهادئ الرزين الذي يكاد الناظر إليه وهو يمشي بتؤدةٍ في أزقة حارة حريك يظنّ أنه سيتعثرُ بأذياله، وبين "عبد الرسول" الذي حفظ موقع سجد كباطن كفه، وزرع العلم على متراسه في أول اقتحامٍ للموقع هزّ الكيان الصهيوني، وزعزع ثقة جنوده الذين هزمتهم يدُ عبد الرسول المطمئنة الواثقة وهي تؤدي التحية وسط زخات الرصاص. كانت ولادة "علي" يسيرةَ المخاض، فوالدته التي شعرت بآلامٍ خفيفة وضعته على عجلٍ في المنزل، كأنه منذ اللحظة الأولى لقدومه إلى الدنيا تدثر بالهدوء والسكينة، واتسمت طفولته بهاتين الصفتين اللتين لم يفقدهما عند تلقيم رشاشه في وجه العدو الصهيوني.. لم تكن فكرة الجهاد واردة في البيئة التي تربى فيها علي إلا أن التربية الصالحة كانت البداية وشهادة ابن عمه سعيد أوقدت شوق الجهاد في قلب علي فأصبحتْ فكرة الجهاد هاجساً عنده، وتغيّرت نظرته إلى مستقبله، ليتحول طموحه إلى النقطة ذاتها التي ولّدت فكرة الجهاد ومن بعدها فكرة الشهادة، فطفق يبحث عن الطريق التي ستوصله إلى ما يريد، وعوض اللهو واللعب، اختصر وقته بين مسجد الإمام الرضا عليه السلام والكشافة. وقد لاحظ كل من يعرف علي التغير الذي طرأ على حياته، وفاجأ والديه بقراره الحاسم بالالتحاق في صفوف المقاومة الإسلامية في العام 1987، فحاولا أن يثنياه عن قراره لصغر سنه، وخوفاً عليه، لكنه حاول اقناعهما بصوابية اختياره، وقد نجح علي بجعل فكرة الجهاد فكرة مسلّمة في المنزل الذي استمدّ التغيير من ثقافة وأفكار علي.
عرف علي منذ التحاقه بصفوف المقاومة بإقدامه وشجاعته وتقانيه، ونادراً ما كان يتواجد في المنزل، فهو دائم الحضور على المحاور المتقدمة، يحمل سلاحه ويحرسُ بعينيه شرف الأمة، وقد أصيب في قدمه خلال مشاركته في الدفاع عن الثغور إصابة تركت أثراً كاد يعيقه عن تأديته لواجبه الجهادي، فاستغل هذه الإصابة ليطمئن والدته التي رقّ قلبه لها لشدة قلقها وخوفها عليه، وأخبرها أن عمله هو خدمة المجاهدين في المحاور، وأن المشاركة في أية مهمة عسكرية صغيرة حلمٌ لن يناله، وحتى لحظة استشهاده لم يعرف أحدٌ طبيعة عمله حتى أنه كان يتجنب الخوض في أي حديث عن الجهاد والشهادة في المنزل. وعلى الرغم من أنه كان قائداً ومشاركاً ومنفذاً للعديد من العمليات العسكرية ومهمات الرصد، إلا أن ما أخبره علي لوالدته كان صحيحاً، فقد استغل أوقات فراغه لخدمة المقاومين، فكان يطهو لهم الطعام ويؤمن لهم المياه ويتفانى في سبيل راحتهم، وبالمقابل تعلّق به المجاهدون، ووجدوا في شخصيته المتميزة نعم الأخ والصديق والقائد القدوة. وككل القادة في المقاومة الإسلامية، كان علي دائماً في الطليعة للمشاركة في المهمات العسكرية، ويأبى إلا أن يكون أول الداخلين إلى المواقع وآخر المنسحبين منها، مؤثراً رفاقه على نفسه حتى في أصعب المواقف، ففي إحدى المرّات كان علي وأحد المجاهدين في منطقة متقدمة، وفيما علي ينهي صلاته بينما رفيقه يحرس، بدأ الرصاص يتساقط كالمطر، فقررا الانسحاب السريع، وكان لزاماً عليهما المرور في مساحة مكشوفة للعدو الصهيوني، فأبى علي إلا السير لجهة الموقع معرضاً نفسه للرصاصات المباشرة ليسلك المجاهد طريقه بسهولة.
اضطلع علي بمسؤوليات جسام في المقاومة الإسلامية، ولم يقصّر في عمله طرفة عين، كما أن عينه لم تغفل عن واجبه تجاه أهله وإخوته، فكان يواكب أدق التفاصيل في حياتهم، ويساعدهم على تخطي مصاعب الحياة بشجاعة وصبرٍ. وفي العام 1999 عقد علي قرانه وبدأ يحضّر نفسه للانتقال إلى بيت الزوجية، لكنه كان يشعر أن الحلم الذي رآه بعد عامين على انتسابه إلى المقاومة سيتحققُ في العام نفسه، وهو أن الإمام الحسين عليه السلام يقفُ على باب الجنة يُدخل شهداء المقاومة الإسلامية إلى الفردوس، ورأى بينهم الشهيد السيّد عباس الموسوي رضي الله عنه، وما أن حان دور علي حتى طلب منه الإمام عليه السلام أن يقف جانباً، فوجلت روحه وسأله عن السبب، فأخبره عليه السلام بأن دوره سيحين بعد عشر سنوات. وكانت تلك الليلة من السنة العاشرة وعلي على باب الجنة ينتظر الأذن بالدخول؛ توضأ "عبد الرسول" وجلس يقرأ القرآن ثمّ عقّب بالدعاء، وفي عينيه يلمعُ بريقٌ كحدّ السيفِ في يوم العاشر من المحرّم. وسكوته السارح في لحظاتٍ شاردة ترسمُ الحكمة في عقله وقلبه، غفت عيناه قليلاً فرأى الإمام الحسين عليه السلام يمد يده إليه ليدخله جنات تجري من تحتها الأنهار. وقبيل الفجر، حمل السلاح وسار مع رفاقه المجاهدين صوب موقع سجد. كانوا خمسة مجاهدين، كشفهم حرّاس الموقع الصهيوني وهم يتقدمون ببسالة لاقتحام المتاريس التي لانت تحت أقدامهم، فأمطروهم بالقذائف الثقيلة، استشهدوا جميعهم، وبقي علي يتقدم بجراحاته النازفة حتى وصل إلى الشريط الشائك، فزرع جسده عليه.. مذ رحل علي عن موقع سجد صارت الشمسُ تشرقُ بتثاقل، وتبحثُ بين حبّات التراب عن ذكرياته، وتسمعُ صوت جناحيه يخفقان بعزة فوق الموقع الذي تحرر بدمه ودماء رفاقه الشهداء، حيثُ راية المقاومة الإسلامية مزروعة لا تزحزحها الرياح العاتية، وكيف لا تخفقُ راية زرعها نسر سجد الأشم "عبد الرسول".
من وصيته: في خضم الأعمال الجهادية والتحركات العسكرية، وعندما تصعب الأمور وتشتد الابتلاءات، تكون رحمة اللَّه أقرب إلى الذين يخوضون في ساحات الوغى طالبين رضوان اللَّه وإعلاء كلمته. في مثل تلك الأوقات يُنزل اللَّه سكينته على المؤمنين ويطمئن قلوبهم ويهدئ من روعهم، ويبشرهم برحمة منه ورضوان، ويجعل الدنيا بكل ما فيها رخيصة في أعينهم.