حوار: علي كريّم
عاد، وقد قهر القهر، يعتلي صهوة المجد، وقد أذاق الأعداء بعضاً من بأسه... عاد، وفي ذاكرته سنين خلت، اتشحت بألوان الصبر والعذابات وأيام مضت، تكسرت على أعتابها جدران الأسر. عاد، ليسرج محرابه من جديد، وتتهافت إليه الجموع حاملة بطاقات الشوق والانتظار. وها قد عاد ليهدي الوطن كل الوطن، مجد الإباء وعزَّ البقاء فلقد ولد يوم جديد، ليس كمثله يوم فالقيد بات انتصاراً والسجَّان هو الأسير الحقيقي. شيخ الأسرى ها هو اليوم شيخ المحررين، التقيناه لنستل منه عبقاً من أريج الولاية، وشذراتٍ من معين الشهداء والأسرى فكان الحوار التالي:
* بداية، ومنذ اللحظات الأولى لعملية الاختطاف، كيف انعكست دلالاتها على المستوى النفسي؟
في اللحظات الأولى للاعتقال الذي حدث عند الساعة 2:00 فجراً كنت أعتقد بأن ما يجري مناماً وليس واقعاً، فالجنود الذين داهموا المنزل، استخدموا أعقاب البنادق للضرب، حاولت إزاءها الدفاع بيداي وقدماي، وجُرحت حينها فعاجلوني بإبرة مخدر لم أستيقظ منها إلا ظهراً بين جماعة راحوا يسألونني عن أشخاصٍ وأحداث، عندها أيقنت أنني قد أُسرت، ولكن صراحة لم أعتقد وأتصور حينها أن مدة الاعتقال قد تدوم 15 سنة، بل أنها قد تمتد سنتين أو ثلاثة على أبعد تقدير، فقد سألني أحد المحققين في لحظات الأسر الأولى عن المدة الزمنية التي سيدوم أسري فيها فأجبته: سنتين أو ثلاثة سنوات فأجابني اطمئن شهرين، ثلاثة، لا أكثر، بلحاظ أن هناك موجة من الاحتجاجات والمظاهرات المندِّدة بعملية الاختطاف، حيث أنهم اعتقدوا بأنها ستؤدي إلى نتيجة، وقد هيأت نفسي لهكذا مدَّة وليس 15 سنة حينها، ولكن مع توالي الأيام بتُّ أكثر مواكبة لحال الأسر التي كنت فيها.
* من المعلوم أن عالم الدين هو الأحرص على تأدية واجبه خاصة وأن حياته لا تنفك عن مسيرته العبادية والرسالية، أين وجدتم السبيل في تأدية ذلك الواجب؟
على المستوى الفردي، كنت شديد الحرص على أداء فرض الصلاة في أول الوقت وكذلك الصوم، حيث أنني بدأت بالصيام منذ اليوم الرابع عشر لاختطافي حتى اليوم الذي تحررنا فيه عدا أيام الأعياد وعاشوراء، إضافة إلى وجود المصحف، من خلال ذلك استطعت تأدية الواجب العبادي على المستوى الشخصي. أما على مستوى المحيط، فإنني كعالم دين كنت أشعر بوجوب تعليم الآخرين من حولي ما قد تعلمته، ولكن بداية وبسبب العزلة لا مجال للتبليغ مع جنود صهاينة هم يهود، كان يحدث من حين لآخر نقاش عقائدي مع بعضهم ممن يعرف اللغة العربية ولكنهم مُنعوا فيما بعد من التحدث معي إلا للضرورة خوفاً من أن يتأثروا بشيء. والأهم أنه عندما اجتمعنا نحن اللبنانيين في نفس السجن ولكن في زنازين متجاورة، بدأت بقراءة الأدعية من شقوق الأبواب إضافة إلى تعليم تجويد القران والأحكام الشرعية، بل أكثر من ذلك، أحد السجناء اللبنانيين أراد تعلُّم اللغة العربية وقواعدها وكتابة الشعر، فتمكنَّا من خلال أوراق يتم إرسالها عبر التشققات الموجودة في الأبواب ومن سجين لآخر حتى تصل إليه بالإضافة إلى الكلام عبر الأبواب، وفعلاً تعلَّم اللغة ونظم الشعر والكتابة الصحيحة... الخ.
* كيف كان انعكاس هذا التعاطي داخل السجن، وتأثيره على المستوى الشخصي وعلى محيط الأسرى والسجَّانين؟
على المستوى الشخصي، يمكن القول مع الحرص على أداء الواجبات الفردية وتجاه المحيط، لم أشعر صراحة بأن هناك وقت فراغ أريد ملأه ولم أشعر يوماً بالملل أو اليأس، فإن لم يكن هناك تحقيق، يكون الوقت مشغولاً بالعبادة والدعاء وصلاة النوافل والقضاء عن الأهل، وبالإضافة إلى النوم من أجل الراحة، عدا عن كتابة الشعر وبعض المواضيع من تفسير للقران وغيره. أما على مستوى الأخوة الأسرى فيمكن التوجه بالسؤال إليهم فهم يمكنهم أن يعكسوا مدى الأثر الذي يمكن أن أكون قد تركته في أنفسهم، ولكنني يمكنني القول بأنني كنت دائم الحرص على التخفيف عنهم، فكل منهم عنده ابتلاءات ومسائل شرعية يود معرفة الحكم فيها، فأبادر لقضاء حوائجهم في هذه الجوانب إضافة إلى تعليم اللّغة ونظم الشعر والذي فتح الباب أمام العديد للتعبير عما يجول في خاطرهم بأسلوب جديد يعكس مرارة المعاناة والصبر وقد صرّحوا هم بذلك، إضافة إلى أنهم كانوا يشعرون بصغر مصيبة الاعتقال عليهم مع وجودي بينهم، فهم يخجلون أن يشتكوا مما يلحق بهم أمام وجود عالم دين هو أيضاً أسير بل ويلقى أقسى وأصعب من الكثير من الأسرى والمعتقلين. أما على مستوى السجّان (العدو) فإن وجودي في السجن خلق لديه تعاطياً مزدوجاً إن صح التعبير، فمن جهة احترام ومن جهة أخرى إرباك. من باب احترام وقت الصلاة وعدم قطعها وإجباره على عدم تقديم اللحوم في وجبات الطعام الخاص بي لأنه مذبوح بشكل غير شرعي عندهم، بل وأكثر من ذلك أُجبِرَ على الإتيان بالأكل مساءً عند وقت الإفطار وبعد منتصف الليل عند السحور خلال أيام صومي، فإذا أتى بالأكل نهاراً أجيبه بأنه ليس لدي وسائل لحفظه (براد أو غيره) فخذه واتني به ليلاً وكان يلتزم فعلاً إلا في حالات قد ينام فيها الجندي أو ينسى. هذا عدا تشديدهم على منع الجندي من التحدَّث معي ولو حديثاً عادياً إلا الضروري فقط وعند الطلب، وذلك خشية من تأثيري، كوني عالم دين، على ذلك الجندي، وهم يعتقدون أنني لا أعلم ذلك، مما جعله في حالة إرباك دائم في التعاطي معي.
* الأسر مدرسة، رسم معالمها أهل البيت و كيف تمثَّلت هذه المعالم في الشيخ عبد الكريم عبيد؟
ما ساعدني على الصبر والتحمل إزاء ما يصيبني هو ما أصاب أهل بيت العصمة والطهارة و حيث نظمت غالب شعري وأنا في الأسر في أهل البيت و، ورحت أقرأ العزاء عليهم في حين أني لم أكن أقرأ العزاء خارجاً، لقد نظمت الكثير من القصائد التي حوت ما بين 10 أبيات و50 بيتاً وكنت أقرأُها في أيام عاشوراء حتى لو كنت وحدي أقرأ العزاء وأبكي على مصابهم د وعندها تهون مصيبتي فهم و تحملوا حتى الشهادة، فما قدر مصيبتي أمام تلك المصائب فإن استذكار تلك الحوادث التي جرت عليهم و كانت المدد وللصبر والتحمل.
* أين هي هذه القصائد؟
كنت قد أرسلت بعض القصائد إلى العائلة ونويت أن أرسل الباقي تباعاً لو كانت قد فشلت لا سمح اللَّه عملية التبادل ولكن عند إتمام العملية منعوني من إحضار أي ورقة أو قلم معي بل أبقوا على كل شيء عندهم.
* هل كان هناك إمكانية للتحصيل العلمي في السجن؟
لم يكن هناك تحصيل بالمعنى الكامل له، ولكن من خلال ما أحفظ من الأحكام ومن خلال القران الكريم والذي أكتشف فيه كل يوم، الجديد كأساس للأحكام. بالنسبة للكتب كان يحق لكل أسير 4 كتب لمدة معينة عبر الصليب الأحمر وبما أنني كنت في عزلة تامة ووضع خاص كان يسمح لي بعدد أكبر من الكتب.
* ما كان أكثر ما أزعج العدو في الشيخ عبد الكريم عبيد، وما الذي أزعج الشيخ عبد الكريم عبيد وهو في الأسر؟
أكثر ما كان يزعج العدو هو قدوم أحد الجنود أو المحققين أو رئيس الشرطة حال أدائي للصلاة وعدم استطاعته التحدث معي لأنني لا أجيبه. أما ما أزعجني في الأسر فهو قطع أي علاقة مع عائلتي والأهل لمدة عشر سنوات ولا حتى أي تواصل، فلقد فُرضت عليَّ عزلة تامة حتى عن الأسرى من حولي باستثناء الحاج مصطفى الديراني حيث تم وضعنا في زنزانة مشتركة منذ أواخر العام 1995.
من كان العزاء للشيخ عبد الكريم عبيد في السجن إذا كان هو العزاء لباقي المسجونين؟
بداية كنت أعزي نفسي بنفسي، ولكن بعد قدوم الحاج أبو علي الديراني كان هو العزاء لي وذلك أواخر العام 1995 وفي العام 1996 عندما أتوا بالأخ حسين المقداد كان هو العزاء لي ولأبي علي الديراني، حيث أنه فاقد لبصره وكلتا يديه وكلتا رجليه، كان مجرد كتلة لحم تفكر، تسمع، تتكلم، تأكل وتشرب إضافة إلى أنه داخل السجن، فالبقاء ولو 30 سنة في الأسر أيسر من العيش في مثل تلك الحالة من فقدان أيدٍ أو أرجل فلقد كان بالفعل العزاء لنا.
* كيف وجدتم الحالة الجهادية بعد 15 سنة من الأسر؟
كنا نعلم بأنها في تقدم وتطور ولكن ليس بالمستوى الذي شاهدناه فقد كان هناك تصور لدينا ولكن الواقع حالياً، لا يُقاس بما كان عليه في السابق وللَّه الحمد أولاً وآخراً.