حسن زعرور
"الرعاية والعاطفة لها حكم السيف"(1)، كما يقول يوسي ميلمان الكاتب اليهودي المعاصر، لأن العاطفة عند بعضهم تحل محل العقل، وتنوب عنه في الرأي، ومن هؤلاء لفيف من الباحثين الغربيين دفعتهم رغبتهم لإرضاء اليهود؛ إلى "اختلاق التاريخ اليهودي" خارج إطار الثوابت التاريخية وبعيداً عن المصداقية، بدورهم سعى اليهود إلى نشر هذه المقولات للحصول على أكبر تأييد وتعاطف ممكن. وما يثير الإزدراء لجوء هؤلاء العلماء إلى التأريخ التوراتي في تدوين الحدث، مع علمهم بأنه "ملطخ بالعيوب وتخرقه الشوائب" وإصرارهم على اعتباره "كلاماً صادراً عن الرب"، وقد قسم هؤلاء التاريخ اليهودي إلى أقسام ثلاثة هي:
أ - ظهور الجماعة العبرية الأولى.
ب- إقامة اليهود في مصر.
ج- الهجرة مع موسى إلى فلسطين.
* عدم مصداقية التاريخ اليهودي
هؤلاء العلماء على كثرتهم عجزوا عن إيجاد ثوابت أثرية تؤكد مقولاتهم لأن اليهودية القديمة في واقع الأمر لم يكن لها تراث أثري، وكل ما فعلته أنها استعارت من حضارة الأمم الأخرى حزمة ونسبتها لنفسها "إن قصص خلق العالم والطوفان، وثائق منقولة عن الأساطير البابلية، كذلك قصص موسى وشمشون لها نظائر سومرية"(2) ومن الخزي نسبة التاريخ إلى التوراة الحالي وهو الذي يقول أن أور الكلدانيين كانت في عصر إبرام (إبراهيم) مع أن الكلدانيين ظهروا ولأول مرة في التاريخ بعد سقوط نينوى عام 612 ق.م. يقول التوراة: "قال له الرب أنا الرب الذي أخرجك من أور الكلدانيين ليعطيك هذه الأرض" (تكوين إصحاح 15: 7) وبما أن أور الكلدانيين لم تكن موجودة في عصر إبرام فإن الوعد من الرب مثلها، والأمر برمته وضع بعد عودة اليهود من السبي في بابل، لقد ظهرت أور في التاريخ كمقر لأول حاكم سومري حمل لقب ملك، ويدعى "مبارا جيزي" وقد ورد اسمه في لائحة الملوك السومريين (نصوص ماري) وأنه عاش عام 2700ق.م. ثم برزت ثانية كعاصمة "لميسليم" (2550 ق.م)، وفي العام 2000 ق.م أي قبل مولد إبرام، دمرت كلياً على يد تحالف الأموريين والعيلاميين والسومريين سكان جبل زغرس وقضي على أسرة أور الثالثة (أندريه مارو مملكة ماري). وأما الكلدانيون فقد ظهروا مع مؤسس دولتهم "نابوبولاصر" عام 615ق.م. ثم جاء بعده ابنه "نبوخذنصر" عام605 وهو الذي أسر اليهود ونقلهم معه إلى بابل، وعليه فإن أور كانت سومرية وليست كلدانية ودمرت قبل مولد إبرام، كما أن الكلدانيين أتوا بعده بألف وثلاثمائة عام تقريباً فمن أين أتى الرب بأور الكلدانيين إذاً؟ إن أكثر من نصف مليون قطعة أثرية ومخطوطة تظهر عدم مصداقية التاريخ اليهودي المذكور في التوراة الحالية، وأن "هناك تحريفاً متعمداً في التوراة"(3) ومعظم ما ورد فيه تمت كتابته مما سمعه اليهود في بابل وما أخذوه من الفلسطينيين وادعوه لأنفسهم، لقد وجدت الحضارة الفلسطينية قبل 6000 8000 سنة قبل اليهود في ما عرف "بالثورة النيوليثية"(4) وأما اليهود "فقد ثبت عجزهم عن لعب أي دور في التاريخ"(5).
* ظهور الجماعة العبرية الأولى
يتحدث التاريخ التوراتي عن الطوفان فيقول: "أن نوحاً ولد بعد ادم ب1056 سنة وعاش 600 سنة لحين حصول الطوفان(6) قبل مولد إبرام ب292 سنة وأنه أي إبرام ولد عام 1850ق.م تقريباً. وإن جمعنا مولد إبرام 1850 + الفارق عن الطوفان 292 تبين لنا أن تاريخ الطوفان بحسب التاريخ التوراتي هو 2100 ق.م. حيث لم يبق أحد حياً سوى نوح ومن معه في السفينة كما تؤكد التوراة، ولدى مراجعة التاريخ والوثائق نجد أنه من 2100ق.م. وما بعدها شهدت أكثر فترة ازدهار للحضارتين المصرية وحضارة ما بين النهرين، كما أن التوراة نفسه الذي يقول عن إبرام أنه ولد بعد 292 سنة من الطوفان هاجر إلى فلسطين ومصر وكانت "الأرض عامرة بأهلها"، أوكل هذه الممالك والأمم خلقت خلال 292 سنة بعد الطوفان؟ وأما التاريخ فيقول: أن التقاليد السومرية التي سبقت التوراة بما لا يقل عن ألفي سنة تتحدث عن الملوك العشرة الذين حكموا قبل الطوفان ومدة حكمهم 200,241 سنة، كما ذكرها المؤرخ بروسوس، وأن بطل الطوفان السومري "زيوسدرا"، وأما بطلها البابلي "أوتانابشيم"، وأنه بعد الطوفان تمت إقامة كبش كمقر لأول أسرة، ثم قام من هذه الأسرة 33 ملك دام حكمهم 510,24 سنوات (لامبرت الحضارة السومرية 156).
* إقامة اليهود في مصر:
دخل اليهود إلى مصر بحسب التوراة مع يوسف د وبقوا فيها 430 سنة(8)، قفز عنها التأريخ اليهودي واكتفى بالقول أنه خلالها "استعبدوا من قبل المصريين"(9)، وتابع، أن يوسفد ولد بعد إبرام ب 250 سنة، وأن اليهود خرجوا من مصر مع موسى قبل "480 سنة" من قيام سليمان ببناء هيكل الرب أي عام 971 ق.م. لنحاول حلّ هذا اللغز:
الخروج من مصر: 971 بناء الهيكل + 480 سنة خروج مع موسى = 1451 ق.م
الدخول إلى مصر: 1451 خروج + 430 بقاء في مصر= 1881ق.م.
وبتبسيط أقل: 971 بناء الهيكل + 480 خروج مع موسى+ 430 بقاء في مصر= 1881 تاريخ دخولهم إليها مع يوسف وهذا التاريخ 1881ق.م يطابق حياة إبرام فهل دخل اليهود إلى مصر مع إبرام أم يوسف ومن يستطيع تفسير هذا الخلط التاريخي؟.
* الهجرة مع موسى إلى فلسطين:
يقول التوراة "ارتحل بنو إسرائيل من رعمسيس إلى سكوت نحو "600" ألف ماش من الرجال عدا الأولاد ... وكان معهم غنم وبقر ومواشٍ كثيرة"(10)، ولم يوضح التوراة لنا كيف أنهم كانوا هاربين من فرعون ومعهم مواشٍ كثيرة ولكنه أعادنا إلى المتاهة التاريخية من جديد، فهو يقول في سفر الخروج أنهم 600 ألف، وفي سفر العدد يقول أنهم "550,603" ألفاً وفي سفر العدد نفسه ولكن في الاصحاح 26 يقول أنهم "601730"ألف ومع كل هذا الخطأ وشناعته يتحفنا الأب دوفو بكل صلف بمقولته "إن كان العلم نافعاً في تثبيت رواية التوراة نستعين به، أما إذا كان يدحضها فإننا نرفضه" (مقدمة سفر التكوين ص34). إن الأخطاء التاريخية والمستحيلات والتناقضات مع معطيات العلم الحديث تجعل من التاريخ اليهودي مجرد مسخ "لأن اليهود لم يكونوا شعباً متحضراً قبل عام 538ق.م ولم يكن فيهم إلا قلَّة تحسن القراءة والكتابة، غير أن الأسر البابلي أمدَّهم بالحكمة والمعرفة"(11)، لقد ظلوا أجيالاً عديدة (وتعترف بذلك التوراة مدَّعية أنه غضب من الرب) يعيشون في التلال الخلفية لفلسطين، وفشلوا في النزول منها مع موسى، وحتى يوشع كما تذكر التوراة الحالية مات في الجبال" وبقيت كل أرض فلسطين دون احتلال"(12)، ثم خضعوا لمؤاب ثماني عشرة سنة وعبدوا عجله(13)، ثم باعهم ملك حاصور الكنعاني(14)، ثم استعبدهم الفلسطينيون 40 عاماً(15)، ثم سكنوا الكهوف والمغاور خوفاً من أهل مدين"(16)، وعاد الفلسطينيون واستعبدوهم طويلاً(17)، هذه هي الحقيقة وما سوى ذلك ليس إلا ترجيلاً من مؤرخين لا يحسنون قراءة التاريخ ولو كتبوا ألف تاريخ يهوديّ زائف.
(1) الإسرائيليون الجدد، يوسي ميلمان.
(2) موجز تاريخ العالم، ص90، ه.ج ويلز.
(3) د. أحمد سوسة، جامعة هوبكنز.
(4) جوردن تشايلر، ماذا حدث في التاريخ، ص44.
(5) قصة الحضارة، ديورانت.
(6) تكوين اصحاح، 5، 6، 7.
(7) (8) (9) (10) خروج اصحاح 1 12 12 1.
(11) موجز تاريخ العالم، ص90، ه.ج ويلز.
(12) يشوع اصحاح 13.
(13) (14) (15) (16) قضاة اصحاح 3 4 13 6.
(17) صموئيل الأول.