حسين قبيسي
هناك محطات تاريخية تغيرت فيها المفاهيم والأفكار والعادات البشرية تغيراً جذرياً نتيجة للاكتشافات والاختراعات وتطور النظريات العلمية التي تركت أثارها على المجتمعات البشرية سلباً أو إيجاباً، حيث أدى التقدم العلمي إلى ظهور الحقائق الجديدة المبنية على أسس علمية والتي تغير معها سلوك الإنسان وطريقة تفكيره وفهمه للطبيعة الأساسية للمادة وللطريقة التي يعمل بها الكون "لأن الإنسان حصاد معارفه" كما أن معظم الأخطار والمشاكل التي نواجهها اليوم ذات الأبعاد الاجتماعية والأخلاقية والسياسية هي نتيجة للتقدم العلمي والتكنولوجي والتي لا بد من مواجهتها بمزيد من التكنولوجيا أيضاً.
* نظريات ومخترعات غيَّرت وجه الحياة:
إن اكتشافات ابن الهيثم (965- 1039) لنظرياته في علم البصريات أدت إلى تغيير الطريقة التي ينظر بها الإنسان من الناحية البصرية والفلسفية للكون. كما أدَّت إلى ظهور قواعد الرسم المنظوري الهندسي الذي غير وجه الحياة في القارة الأوروبية. واختراع جاليليو للتلسكوب (في القرن الخامس عشر) غيَّر المفاهيم الخاطئة الموجودة لدى الأوروبيين وأعاد صياغتها حيث كانت نظرة الإنسان حينها إلى الطبيعة هي نفسها نظرة العصور الوسطى التي تقول: "إن الأرض جرم ثابت تقع في مركز الكون وتحيط بها أفلاك ذات محور مشترك..." وقد بقيت هذه النظرية سائدة من القرن الثاني قبل الميلاد حتى أواخر القرن 15. واختراع الآلة الطابعة في القرن 15 الميلادي ترك أثاره في كل مجال من مجالات النشاط البشري. حيث قضى هذا الاختراع على المجتمع الشفوي وبدّل ذاكرة الإنسان بالة طابعة... كما أدى إلى ظهور حركة الإصلاح البروتستانتية في عام 1517م. ونظرية اينشتين النسبية (1905- 1916م) أدت إلى حدوث ثورة في الأوساط العلمية وقوضت باكتشافها كافة المفاهيم والمبادئ العلمية والفلسفية التي كانت قائمة قبلها واستبدلتها بمفاهيم ومبادئ جديدة. وكانت الدافع الأساسي إلى كبريات الاختراعات الحديثة كالآلات الالكترونية والقنابل الذرية... كما أعطت النظرية النسبية للضوء والميكانيك مفاهيم جديدة يخرج الإنسان منها كأنه يعيش في عالم من الأحلام، فالزمن يتمدد والمسافات تتقلص عند الاقتراب من سرعة الضوء. وأصبحت النظرية النسبية حجر الزاوية لكافة فروع العلم الحديث. إن كل ما تم اكتشافه من معارف عبر التاريخ أدى إلى تطوير وتغيير كل شيء من: علوم طبيعية واقتصادية وسياسية وفن وعمارة وآداب... وأصبح يعكس النظرة الجديدة الناجمة عن تغيير المعارف.
* الثورة الصناعية (نقطة الانطلاق):
يحدد المؤرخون أن الانطلاقة للثورة الصناعية كانت في منتصف القرن الثامن عشر، ويعتبر ظهور الآلة والإنتاج الآلي نقطة الانطلاق، ومن هذا التاريخ الذي تبدل فيه الإنتاج اليدوي بالإنتاج الآلي يمكن اعتبار أن العالم قد دخل سلسلة المتغيرات السريعة من خلال "الانقلاب الصناعي" وصولاً إلى القرن العشرين الذي يشهد معدلاً خطيراً في التغيير، ففي كل يوم يدخل مبتكر جديد، وكل ما حولنا في تغير مستمر، مما يؤثر في تغيير العلاقات بين البشر وطرق معيشتهم، فمنذ تطوير صناعة القذائف بعيدة المدى والطائرات النفاثة وحاملات الطائرات... لم تعد الحدود الدولية تمثل خطوط دفاع كما كانت حتى بداية القرن العشرين وأصبحت الحدود الدولية في المفهوم العسكري لا تعدو كونها أسلاكاً اعتراضية شائكة رمزية وحتى الدول المتقدمة لا يمكنها أن تحمي نفسها من أي هجوم نووي. والحرب الكونية التي ينذر بها البعض قد تنشب هذه المرة بسبب التصارع على موارد المعلومات (تكنولوجيا المعلومات) لا على المواد الخام بناء لما أحدثته المتغيرات العلمية في طبيعة الصراع بين الدول العظمى. وقد أدت الاختراعات والوسائل المهمة كالتلفزيون والمركبات الفضائية والأقمار الاصطناعية والكومبيوتر والانترنت والعقول الالكترونية وثورة المعلومات... الخ إلى تقصير المسافات بين بقاع الأرض وتحطيم الحواجز بين الطبقات والدول... الخ، كما أدت إلى بروز ظواهر جديدة مثل العولمة بينما في الماضي كان كل متغير يتطلب مئات السنين ليدخل الحياة البشرية، أما في عصرنا الراهن فإن العملية تستغرق فترة زمنية قصيرة جداً بفعل الثورات العلمية والاختراعات والتقدم التكنولوجي، والمتغيرات التي تحصل خلال جيل واحد ليست أقل مما كان يجري خلال ألف عام.
* أخطار التقدم التكنولوجي:
أوشكت التكنولوجيا في غمرة نجاحها أن تستقل بذاتها وتفرض علينا منطقها وقيودها. فمن خلال التقدم الهائل برزت أثار سلبية وأخطار محدقة باتت تهدد البشرية جمعاء، بالإضافة للأجيال القادمة، نتيجة لسوء وقلة المعرفة في استغلال الموارد مع عدم مراعاة التوازن فيها واستهلاك مصادر الطاقة الغير متجددة فظهرت ماسٍ اجتماعية وأضرار نفسية ودمار للبيئة واستغلال للعمال والإفراط في استهلاك الطاقة والمواد الخام... ومن تلك الأخطار.
* مشكلة التلوث الإشعاعي:
والتي تعد من أخطر المشاكل التي تهدد البشرية فعند انفجار المفاعل النووي في مدينة تشرنوبيل في روسيا عام 1986 انفجرت معه مشكلة التلوث الإشعاعي للمواد الغذائية، عبر تلوث المياه والتربة الزراعية والأشجار المثمرة والحيوانات الحية المنتجة للألبان واللحوم بسبب الإسقاط الإشعاعي. حيث تحولت كل هذه الأشياء إلى مصدر إشعاعي في ذاتها لمدة تصل إلى نصف العمر الافتراضي للمواد المشعة الذي يقدر علمياً بثلاثين عاماً وتعد التجارب النووية التي تجريها أعداد كبيرة من دول العالم مصدراً مستمر للتلوث الإشعاعي.
* مشكلة الانفجار السكاني:
بناء لما أحرزه التقدم التكنولوجي في مهنة الطب عبر تطور صناعة الأدوية ووقف انتشار الأمراض قبل وقوعها وابتكار وسائل تخدير وتطور زراعة الأعضاء وازدياد معارف الإنسان حول الجراثيم... كل هذه العناصر أدت إلى إطالة متوسط عمر الإنسان مما سبب خللاً في التوازن بين المواليد والوفيات وبالتالي إلى زيادة نسبة عدد السكان الذين وصلت أعمارهم إلى ما فوق سن التقاعد من كبار السن. فنشأت كارثة التزايد المفرط في عدد السكان، وأصبح للمشكلة أبعادها البيولوجية والاجتماعية والأخلاقية والسياسية... فصار الأمر يتطلب مزيداً من الإنتاجية لإطعام الأفواه الجديدة مع توفير فرص العمل لها والحد من ارتفاع نسبة البطالة... إلخ.
* مشكلة إعادة التوزيع الجغرافي لقوى الإنتاج في العالم:
حيث تمركزت الصناعات في المدن المهمة الأمر الذي أدى إلى الهجرة الكبيرة من الريف إلى المدن مما تسبب في زيادة تلوث الهواء والضجيج والازدحامات الخانقة... بالإضافة إلى أخطار كثيرة لا يسع المقام لذكرها. فما يقدمه التقدم التكنولوجي من رفاهية للمجتمعات هو بعينه يخلق المشاكل والأخطار أيضاً فلا بد من مواجهتها بمزيد من التكنولوجيا.